شوف تشوف

الرأي

عصر ما بعد «كلوب هاوس»

محمد أبو الغيط

قبل نحو شهر، دخلت عالم ذلك التطبيق الجديد من باب الفضول، متوقعا شيئا مملا كغرف دردشة «البالتوك» العتيقة، لكني دخلت ولم أخرج!
ثمة شيء إنساني ساحر في سهولة دخول محادثة، مستمعا أو متحدثا، وسهولة الخروج منها أيضا من دون استئذان أو وداع، وتلك ميزة كبيرة لشخص مثلي يفضل التواصل المكتوب، الذي يخضع للتفكير والمراجعة.
ولكن التوليفة في ذلك «النادي المنزلي» مختلفة، حيث التحرر من العبء النفسي لبدء مكالمة أو إنهائها، وكم جمع ذلك معارف لم تكن علاقتهم تسمح بالتواصل عبر سنوات. ولكن بعيدا عن تلك الجوانب الإنسانية، فإننا نشهد لحظة تحول سياسي، شبيهة بلحظة دخول «فيسبوك» حياتنا.
أزعم أني لم أشهد قط حوارات ودية تجمع مختلف الفرقاء بالوسط السياسي المصري خلال عشر سنوات، كما شهدتها على ذلك التطبيق. غرف يفتحها مؤيدو السلطة ويسعدون بوجود معارضين، والعكس صحيح، حيث يحتفي معارضون بظهور عضو في مجلس النواب الحالي، وكذلك غرف تجمع إسلاميين وليبراليين أو يساريين.
حتى لو كان الغرض الرئيسي عند كل فريق إبراز صحة مواقفه، إلا أن كل تلك الحوارات، مع استثناءات محدودة، اتسمت بقدر كبير من الرقي والاحترام المتبادل، والبحث عن المشترك، أو على الأقل التظاهر بذلك، وكم من مسرحيات سياسية تحولت حقائق، بعدما أدمن أطرافها التمثيل!غرف أخرى كانت ذات تأثير سياسي غير مباشر، مثل غرف تجمع المختصين بالاستثمار في البورصة لنصح المبتدئين، أو المستثمرين في الصناعات المصرية الصغيرة، أو المستثمرين في القطاع العقاري، فضلا عن غرف تناقش شتى القضايا الاجتماعية الشائكة، مثل التحرش وختان الإناث والحريات الجنسية.
وعلى الرغم من أن غرف الدول العربية الأخرى لم تكن دائما بالصفات ذاتها، إلا أن السياسة غير المباشرة تمسها أيضا. على سبيل المثال، بعد الإفصاح الأمريكي عن «تقرير خاشقجي»، تم فتح غرف سعودية كثيرة لنقاش كيفية التصدي والتحدي، وكان أي شخص يبدي ذرة تحفظ يتم طرده فورا، لكن هذا لم يكن الحال في الغرف الاجتماعية السعودية التي دخلها متمردون على التيار السائد.
ولكن هذا كله البداية فقط. يمكننا أن نرى بعين الخيال الوضع بعد عامين أو ثلاثة، حين يصبح التطبيق (أو نظير له إذا صحت أنباء إطلاق «تويتر» خدمة مشابهة) متاحا على «أندرويد»، حين يتحول إلى بديهية مثل «فيسبوك» أو «تيك توك».
فلنتخيل مدى قوة غرفة تحوي في اللحظة نفسها 50 ألف مصري، يسمعون خطابا سياسيا ما. فلنتخيل «ناديا» يفتحه شباب كل قرية وكل مدينة، وعمال كل مصنع، ويتحول بيد الجميع أداة حشد وتشبيك وتنظيم هائلة ذات أثر أقوى بأضعاف من الأثر القائم حاليا بالفعل بالصفحات المحلية على «فيسبوك».
ولكن الجوانب السلبية بدورها ستتضخم أيضا. على الأرجح، سيضطر مؤسسو التطبيق إلى البحث عن نموذج ربحي سريع، لمواكبة التضخم الهائل في حجم المستخدمين، وبالتالي كلفة الخدمة من خوادم وغيرها. وإذا كان واحدنا اليوم يبحث وسط عشرات الغرف العربية المتاحة عبر الضغط على «استكشف»، ففي المستقبل قد توجد مائة ألف غرفة قائمة في اللحظة نفسها، ما الذي سيتحكم في الغرف التي ستظهر في واجهة البرنامج؟
على الأرجح، سيتيح التطبيق خدمة الدفع بمقابل، سواء لمن يتجاوز عددا معينا من المستمعين، أو لتظهر الغرفة لعدد أكبر من المستخدمين. وهذا سيؤدي إلى فقد التطبيق جانبه «الديمقراطي»، ليتحول أداة بيد من يملك ضخ ملايين الدولارات.
هذا فضلا عن مخاطر السيطرة الجسدية البحتة. في مصر اليوم كل المجموعات المحلية الكبيرة على «فيسبوك»، هي تحت مراقبة المكاتب المحلية لجهاز الأمن الوطني. ولطالما تكررت وقائع القبض على من استخدمها في لحظة ما لغرض حشد سياسي، أو لبث خبر تراه الدولة كاذبا. وفي المقابل، ستظل مساحات واسعة عصية على السيطرة، وإذا كان ذلك هو الوضع اليوم على «فيسبوك» و«تويتر»، بكل ما استثمرته السلطات العربية فيهما، فإن حجم الآثار السياسية والاجتماعية لتلك الأداة الأقوى سيصاحبنا سنوات طويلة مقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى