الرأي

عندما يمرض الرئيس الجزائري

عندما كان الرئيس الجزائري هواري بومدين يشغل باله بوضعه الصحي الذي انهار فجأة، كانت القوى الجزائرية المتصارعة على اقتسام تركة الرجل المريض تتحرك في كل اتجاه. لم يُكتب شيء كثير عن سمات تلك الفترة، بل إن المقربين إليه كانوا يتحاشون مصارحته باللون الشاحب الذي اعتلى سحنته. وأكثرهم جرأة وثقة تمنى عليه أن يقلل من تدخين السيجار الكوبي الذي كان يتوصل به هدية من فيديل كاسترو.
في مفاصل الوهن الذي يعتري شخصا ما، تتداعى نظرته وأسلوب حياته إلى الانكفاء والتأمل. وما بالنا إذا تعلق الأمر برئيس دولة مثل هواري بومدين، الذي كان يمسك بسلطة الجيش والحزب والحكومة، وما تبقى من «مشروعه الثوري» الذي قاد إلى الإفلاس. فقد أعدت الجزائر نفسها لكل شيء، عدا ما يتعلق بتدبير مرحلة الخلافة، لأن الكل كان يختفي وراء «سلهام» بومدين، الرجل القوي الذي اكتشف أن ضعف الإنسان يبدأ من ذاته ثم علاقاته وأحلامه.
قبل أن يدخل بومدين في إغماءة أبدية، أوصى بألا يُنقل إلى أي مستشفى غربي. فقد كان يخشى افتضاح أسراره الصحية التي ظل يخفيها طوال الوقت. ولم يمانع في أن تكون وجهته محمولا على سرير الإنعاش إلى العاصمة السوفياتية موسكو التي كان يزورها في كل مرة يشتد فيها الخناق على بلاده. وعندما أيقن أنه يسير في طريق مسدود، أوعز إلى أحد مستشاريه أن يتحرك في اتجاه مغاير لما كان يتم التلويح به.
يصعب الجزم في تأثير المرض على التوجهات الخجولة للرئيس بومدين، في سياق معاودة الانفتاح على المغرب. غير أن الثابت أن مبادراته التي قوبلت بتفهم مغربي، بلورت الحاجة إلى عودة الوعي، حين يتطلع رجل السياسة إلى إنجازاته ولا يرى فيها شيئا مما يصونه التاريخ وتعتز به الأجيال. وكيفما كان الحال، فإن السلام يصنع الأقوياء ويكون بين أشد المتطرفين، حين تخونهم الرغبة والقدرة. وإن كانت الفترة الأخيرة في حياة بومدين انطبعت بالغموض لأسباب عديدة، ليس أقلها تأثيرا أن سياسة التموقع سيطرت على المجال الداخلي والإقليمي.
لم تنقطع الاتصالات بين المغرب والجزائر، على رغم قطع علاقاتهما الدبلوماسية، جراء إصرار الأخيرة على إقامة كيان وهمي أطلقت عليه اسم «الجمهورية الصحراوية» التي كانت أول من اعترف بصنيعتها. فقد جاء ذلك الرد انفعاليا ومتشددا، على خلفية تلقي الجيش الجزائري هزيمة شنيعة في الصحراء. وعندما التفت الرئيس الجزائري هواري بومدين حوله كان تورط بلاده ذهب إلى حيث لا رجعة، لكن المغاربة الذين كانوا يتلقون المزيد من الرسائل المتباينة في مضمونها وأسلوبها، رفعوا شعار «مساعدة الجار الجزائري على الخروج من النفق». ما دفع بومدين إلى الإقرار بأنه لو تصور أن المغرب سيصمد في وجه الضغوط لكان الرئيس الجزائري غير بوصلة اتجاهه بأكثر من مائة وثمانين درجة.
إلا أن التحولات اللافتة في المنعطفات الحاسمة، تتطلب تحضيرا جيدا، ولم يكن في وارد بومدين، الذي أوفد مبعوثين عنه إلى الرباط، ولا المغرب الذي أرسل مستشاريه إلى الجزائر، أن يلتقيا من دون الاتفاق على حد أدنى من الوفاق.. وإن في شكل الاتفاق على مناقشة القضايا العالقة بهدف البحث في وسائل معالجتها تدريجيا.
جاء في رسالة وجهها الحسن الثاني إلى هواري بومدين: «كان بودي أن أستأنف الاتصال بكم مباشرة لنتحدث عن التصالح ونخطط للسلام، ولكن أجدني مضطرا، ويا للأسف إلى أن أتصل بكم لأحتج بشدة في موضوع الاعتداء الذي حدث على بلادي، ما بين 30 سبتمبر وفاتح أكتوبر 1978». وأضافت الرسالة: «إن مثل هذه التحركات إذا لم تكن تدل بوضوح على أنكم تريدون توسيع شق النزاع القائم بيننا، فإنها أبعد ما تكون عن أن تعبر عن أن الجزائر، بصفتها دولة، تحترم التزاماتها، ولا تخترق الحدود المسلم بها لجيرانها».
لسبب أو لآخر بدا أن التوتر انتقل من الصراع الدائر حول قضية الصحراء، ليشمل أراضي غير متنازع عليها. ولا يمكن في أي حال اعتبار ذلك مجرد مصادفة، لأن الهدف كان يروم جر البلدين إلى مواجهة محتدمة، تحلى فيها المغرب بالكثير من ضبط النفس. وبالقدر ذاته ألمح الرئيس الجزائري إلى أن لا علم له بذلك، في صيغة راعت التقليل من المضاعفات التي سيتأكد لاحقا أنها أكبر من مغامرات عسكرية محدودة.
رد هواري بومدين بالقول: «أعرب عن أسفي من أن الدبلوماسية العلنية أصبحت اليوم تحل محل الدبلوماسية التقليدية»، مؤكدا أنه يرغب بدوره في استئناف الاتصالات مع المغرب، «لأن الحوار المباشر أفضل لا محالة، ولكن هل يعقل ذلك بعد المواقف التي اتخذها كل منا في شأن القضية الفلسطينية وامتداداتها بالنسبة للشرق الأوسط والأمة العربية»، موضحا أن بلاده رغم ذلك «لن تتخلى عن جهد، من أجل تقديم مساهماتها المتواضعة في البحث عن سلام عادل بين المتخاصمين في النزاع الجاري حاليا في الصحراء».
أبعد من السجال الذي دار علنيا وأبان عن تناقض كبير في المواقف، فقد شكل منطلق مساع بذلت على نطاق واسع، بهدف تأمين عقد أول قمة تجمع الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري هواري بومدين منذ اندلاع التوتر في شمال غرب إفريقيا. وفي تفاصيل غير متداولة أن الأمر بلغ إلى حد الاتفاق على مكان وزمان انعقاد اللقاء في فندق في ضواحي بروكسيل. لولا أن المرض الذي طرأ على بومدين أرجأ كل شيء، ثم دفنت معه بعد موته صفحة مثيرة من الجهود التي كان في وسعها أن تفتح آفاقا جديدة في علاقات البلدين الجارين.
أثناء وجود هواري بومدين في المستشفى في موسكو، تعرضت مدينة طانطان على الساحل الأطلسي إلى هجمات عدوانية، أدرك المغاربة حينها أن زمام السلطة انفلت من يده، وأن حرب المواقع بدأت أشد عنفا. ومن كان يزايد في تسلم سياسة العداء ضد المغرب، بدا أنه أراد القفز على معطيات المرحلة.. حتى إذا جاء رئيس جديد أرغم على البداية من نقطة الصفر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى