الرأي

عودة الدولة في زمن الكورونا

عمرو حمزاوي

إزاء المسار العالمي المدمر لكورونا، أكثر من مليون مصاب وأكثر من 70 ألف قتيل وملايين العاطلين عن العمل، ونظم رعاية صحية معرضة للانهيار، وركود اقتصادي يدفع ثمنه الفقراء والضعفاء والمهمشون، وتتحسب له رؤوس الأموال الكبيرة، تسجل الدولة وأداتها الرئيسية المتمثلة في الحكومة المتدخلة عودة مظفرة هذه الأيام.
لتوفير المعدات والمستلزمات الطبية اللازمة لعلاج المصابين وحماية أطقم الرعاية الصحية، استخدم الرئيس الأمريكي قوانين استثنائية تعود لسنوات الحرب العالمية الثانية، لإجبار شركات صناعية مثل «جنرال موتورز» على إنتاج أجهزة التنفس الصناعي، ومثل «3 إم» على إنتاج الأقنعة الواقية للوجه.
لدفع مواطنيها للبقاء في منازلهم والالتزام بتوصية التباعد الاجتماعي، وظفت الحكومة الألمانية صلاحياتها الفيدرالية مصدرة قرارات بمنع الخروج إلى الشوارع، إلا لقضاء ضرورات الحياة، وبفرض غرامات مالية على المخالفين. تدخلت حكومة المستشارة أنجيلا ميركل أيضا لتأمين مخزون استراتيجي من السلع الغذائية الأساسية والمعدات والمستلزمات الطبية، إن بتشجيع الشركات الألمانية على توفيرها كشركة «فولكس فاغن» لصناعة السيارات، التي استجابت للطلب الحكومي وبدأت بالفعل في إنتاج أجهزة التنفس، أو بشراء تلك السلع والمعدات والمستلزمات بكميات كبيرة من الخارج.
أما في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، فقد اتجهت الحكومات إلى فرض حظر التجوال، للحد من انتشار الفيروس، وخرجت قوات الجيش وعناصر الشرطة إلى الفضاء العام لضمان تطبيق الحظر. واشتركت هذه الدول مع الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، في اعتماد برامج اقتصادية ومالية ضخمة للحد من التداعيات الكارثية للركود الحالي على من فقدوا وظائفهم وتعطلوا عن العمل، وعلى الشركات والمصالح الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.
أما في البلدان الأوربية التي تسيطر على سياستها حكومات شعبوية، فتوظف أدوات الدولة للخروج عن السياق الديمقراطي ولانتزاع صلاحيات واسعة للرؤساء أو رؤساء الوزراء، بادعاء ضرورة المواجهة السريعة للتداعيات المدمرة لكورونا. في المجر، على سبيل المثال، مرر البرلمان تشريعا يمكن رئيس الوزراء فيكتور أوربان من إدارة الشأن العام، عبر إصدار قرارات فورية دون الرجوع إلى البرلمان، ودون التقيد بالقوانين المعمول بها.
وفي عالمنا العربي، لم يجد كورونا أيضا غير الدولة وأدواتها لمواجهاته، إن في ما يخص الصحة العامة أو الشأن الاقتصادي. غاب قطاع الصحة الخاص عن التعامل مع إسقاط الفيروس لآلاف المصابين، وحضرت نظم الرعاية الصحية الحكومية. غابت رؤوس الأموال الكبيرة عن التعاطي مع التداعيات المدمرة للفيروس، واكتفت إما بالإعلان عن تبرعات ومبادرات لجمع الأموال، لمساعدة الأكثر تضررا من توقف النشاط الاقتصادي، أو بمطالبة الحكومات بإعادة تشغيل الاقتصاد والضرب عرض الحائط بمقتضيات الصحة العامة، التي تلزم اليوم بالبقاء في المنازل للحيلولة دون المزيد من انتشار كورونا. بينما غاب القطاع الخاص والمصالح الاقتصادية والمالية الكبيرة، حضرت الدولة بأدواتها… حضرت بقرارات حظر التجوال التي تسهر على تطبيقها قوات الجيش والشرطة، حضرت الدولة بنظم الرعاية الصحية العامة التي تتتبع مسار الفيروس وتعالج المصابين، حضرت الدولة بإمكاناتها لإنتاج المعدات والمستلزمات الطبية اللازمة لمواجهة كورونا والحد من انتشاره.
هذه لحظة لعودة الدولة وللحكومات المتدخلة بعمق وقوة في إدارة الشأن العام، من الصحة إلى الاقتصاد. وسيكون لهذه اللحظة المرشحة للامتداد الزمني تداعيات سياسية واسعة. فكما تكتشف المجتمعات الغربية أن الرأسمالية العنيفة، وعلى الرغم من التنظيم الديمقراطي وحكم القانون السائدين ستترك المواطنين بمفردهم في مواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية الخانقة، وأن سبل الإنقاذ من الانهيار والركود والكساد دوما ستعود إلى الدولة، تكتشف المجتمعات في الشرق الأوربي والآسيوي والأوسط أن الدولة وعلى الرغم من غياب الديمقراطية وضعف حكم القانون، تظل الفاعل المجتمعي الأكثر قدرة على مواجهة الأزمات الكبرى، وتقديم مظلات الأمان المطلوبة لتجاوز الأخطار المحدقة بالمواطنين، صحيا واقتصاديا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى