الرأي

عيد المولد والميلاد

خالص جلبي
مع كتابة هذه المقالة كانت زوجتي المغربية تبحث عن قصبة تعلق عليها علما أبيض لمدة أسبوع احتفالا بمولد نبي الرحمة (ص). يوم العاشر من نونبر 2019 م الموافق 12 ربيع أول 1441 هـ احتفل المغاربة بعيد المولد بكلمة عواشر مبروكة. المغاربة يحتفلون بشكل خاص بمراسم وحلويات واستعداد مهيب. وأتذكر جيدا من مدينة حمص (قلب الثورة السورية) حين ذهبت للالتحاق بالجامعة في كلية الطب عام 1964م كيف قضيت أسابيع وأنا أتنقل من مسجد إلى مسجد وهم يتبارون بالاحتفال بعيد ميلاد نبي الرحمة ص. هناك تعرفت على الشيخ عيون السود رحمه الله وصهره طبيب المستقبل الأنيق الوسيم دكتور العصبية (توفيق دراق) الذي قضى نحبه لاحقا في سجن تدمر وعشرات من كرام القوم، وهناك نزلت ضيفا على بيت الزعبي الأكارم. وهناك قررت إطلاق لحيتي ومازالت. كانت أياما لا تنسى. رحم الله القوم أجمعين ورحم الله زملائي ممن يعيشون أو ممن غادر إلى عالم الآخرة. أعجب ما في عيد ميلاد النبي أن هناك من يراه بدعة تقود إلى جهنم.
يقال إن الاحتفال بعيد مولد نبي الرحمة (ص) جاء من خلال احتكاك مسلمي الشرق الأوسط مع تدفق فقراء أوربا الصليبيين الذين كانوا يحتفلون بمولد نبي السلام عيسى بن مريم فقال المسلمون ونحن سنحتفل بأكثر فولدت فكرة الاحتفال بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم. وأصبح تقليدا عارما في بلاد الشام، ولكن الصدمة التي تلقيتها كانت حين دخلت السعودية، أن هذا العيد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ليس هذا فقط بل رأيت العجب العجاب من اقتحام بيوت الفنيين الفلبيين والممرضات الهنديات من كيرلا، الذين جاؤوا لهذا البلد الأمين يطلبون الرزق وهم مسيحيون يحتفلون كما جرت عادتهم بأعياد الميلاد. أصبح القوم في رعب حقيقي من هؤلاء المتطرفين الذين يحملون روح الجريمة مع عدم التسامح. فهمت لماذا أعلنت السعودية الحرب على الإرهاب مع 34 دولة أخرى في تحالف عالمي في دجنبر 2015م؛ لأن روح التشدد فرخت وباضت ووصلت إلى الحافة السمية. وهي الآن تأخذ المجرى المضاد حسب القانون الثالث في الميكانيكا من تولد قوة مضادة في الاتجاه ومساوية في القوة. حسب المؤرخ توينبي فقوانين الاجتماع أفظع وهو ما يحصل في دول النفط اليوم فمن رحم التشدد يخرج كائن شديد التشوه في الاتجاه المعاكس. وتوقعي أن تلك الأرض ستولد أفظع صنوف الإلحاد. يقال إن موضة الستربتيز (التعري) جاءت من رهبانية ابتدعوها ما كتبت عليهم.
في مدينة القامشلي أذكر جيدا كلا الاحتفالين بمولد المصطفى وابن مريم. كان المسجد الجامع يغص بالناس، ثم يأتي من يحمل صينية كبيرة، عليها رزم من الحلويات من (ملبس) وسواه وكانت أعيننا تبرق أن لا يفوتنا القطار. بكل أسف أحيانا كانوا يتجاهلوننا ويمرون علينا بدون نفحنا بهذه الرزمة المغرية؛ فنحن أطفال لا قيمة لنا في نظرهم، والكبار هم من يستحقون هذه الهدية، التي لا يأبهون لها بقدر عشقنا لها؟ ثم مشت رحلتي إلى ألمانيا حيث بردت الأعياد عندنا هناك من فطر وأضحى، بل وغدا رمضان بغير مذاق ونحن نفطر مرهقين في قاعات العمليات. أذكر يوما كيف شربت الماء ونحن نجري الجراحة عندما حان موعد الإفطار. ثم جاءت المفاجأة من السعودية حين سمعت الخطباء وهم يشنون حملة على أن هذا العيد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لم تكن البدعة في نظر هؤلاء المتشددين تقف عند الاحتفال بالمولد بل تغطي طيفا هائلا لا نهاية لطيفه من المحرمات، من موسيقى وجمال الثياب، وقيادة المرأة للسيارة، وصوت المؤذن الجميل؛ فكلها بدع تقود إلى النار؛ بل وإن لونا من العذاب مخيف تتورع عنه أجهزة المخابرات السورية في فرع فلسطين بارتكابه لمن يسمع الغناء بصب الرصاص المذاب بدرجة حرارة 800 سيلزيوس في أذن من يستمع إلى قينة (مغنية) تنشد وتعزف (يقولون جاء في الحديث أن الله يصب الآنك في أذن من يسمع قينة تغني؟) والآنك هو الرصاص المذاب.
قلت في نفسي ملابسنا بدعة. بيوتنا أكثر من بدعة. سياراتنا الفارهة التي نركب، والموبايلات التي نستخدم أليست بدعة؟ بالله عليكم نريد أن نفهم مفهوم (البدعة)؟
يحضرني من الألماني المبدع (بيتر شول لاتور) الذي مات قبل فترة قصيرة، عن عمر يناهز التسعين، مخلفا وراءه أكثر من تسعين مؤلفا. يقول الرجل إنه كان في حماة حين دمرت على يد الأسد الأب. قال لقد لفت نظري في المدينة صورة هائلة فوق الأنقاض له. قال: عرفت لماذا حرم الإسلام الصور. نفس الشيء فعلته مجلة در شبيغل الألمانية وهي تعرض صورة هائلة لبنايات تحولت ركاما، وفوقها علقت صورة هائلة لابن حافظ الأسد، الذي لم يخيب ظن والده فيه؛ فإذا كان والده قد دمر مدينة فهو قد دمر دولة وسحق شعبا. فوق الصورة عبارة عجيبة بكلمة واحدة من عمرها؟؟
هذه هي البدعة الفعلية التي تستحق اللعن وسقر، وليس الاحتفال بعيد مولد رسول الرحمة (ص) الذي جاءه يوما أعرابي وهو يقبل طفلا فقال له أو تقبل الأطفال؟ أجاب وماذا أفعل لك وقد نزع الله الرحمة من قلبك؛ فهذه هي البدعة، وهذه هي كارثة الفكر الدوغمائي المتطرف، الذي يمشي فوق النصوص مثل حشرة العت فلا يفقه منها حرفا. حين كتب مايكل هاردت كتابه المائة الأعظم في التاريخ وضع محمدا (ص) كأول شخصية وأهمها على الإطلاق. لأنه يمثل الرجل الناجح في كل شيء بدون أن يؤله في السماء بل المحبوب في الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى