الرأي

عين الطفولة

… وكنت أجده بين الفينة والأخرى يجلس في غرفته مستأنسا بالكتاب، مرددا أسماء الأجداد المدرجة في شجرة النسب بصوت مرتفع، بغية الحفظ واختبار الذاكرة.. كما كان يغتنم فرصة وجود جدي بالبيت ليتحقق من المعلومات والأسماء الخاصة بالنسب القريب من أية فخذ تتحدر.. وكنت أضحك خلسة عند سماعي لمصطلح الفخذ الذي كنت آنذاك لا أفهم سوى معناه البيولوجي فقط..
كان والدي، رغم شدة بأسه وقسوته أحيانا، ورغم الهيبة التي كان يتمتع بها في نظر المحيطين به، كان حنونا شديد التأثر رحيما، يسبقه الدمع في المواقف الحزينة والمؤثرة.. فكنا لا نستغرب مثلا حين نجده يذرف الدموع إثر نهاية حزينة لفيلم أو مسلسل تاريخي. ولا أنسى أبدا بكاءه عقب نهاية مسلسل «عمر بن عبد العزيز»، بحيث تفاعل كثيرا مع ملامح هذه الشخصية التاريخية التي ما فتئ يعجب بزهدها ودماثة خلقها وحسن تدبيرها، فكان يعتبرها مثالا للعدل ونكران الذات.. لكنني ما رأيته حزينا منكسرا يبكي بحرقة قط، مثلما حدث أحد نهارات يوليوز الطويلة عام 1999، حيث أعلن عن وفاة ملك المغرب آنذاك الراحل الحسن الثاني، رحمه الله.. أعلم جيدا أنه كان حزنا وألما تقاسمه كل المغاربة، لكن أبي كان رجلا مختلفا وكان إحساسه بوطنيته وتعبيره عنها، يعكسان مفهومه الشامل الذي لا يتجزأ، عن الحب والإخلاص والتفاني لهذا البلد وتاريخه وأمجاده.
وحدث مرة، عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، أن دخل والدي المنزل عقب صلاة الظهر وهو يحمل كعادته الجريدتين العتيدتين آنذاك: «العلم» و»الاتحاد الاشتراكي» اللتين دأب على اقتنائهما كل صباح، فأخرج الملحق الثقافي لجريدة «العلم»، وأطلعني على قصيدة طويلة، هي «نونية أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس»، فأمرني بحفظها بعدما قرأها بصوت جهوري، وأخذ يشرح لي معانيها ويتحسر على الفردوس المفقود وعلى أيام العرب وانغماسهم في الشهوات والملذات، وتخليهم عن أمجادهم وتاريخهم وحضارتهم، حتى ساءت حالهم وتراجع نفوذهم وهمت بهم يد الذل والهوان..
على الرغم من اختلافي معه في العديد من المفاهيم ووجهات النظر، وانتقادي أحيانا لحماسة أقواله وتراجع أفعاله وسقوطه في الخذلان أحيانا أخرى، إلا أنني أجدني دائما أقف بين يديه طفلة بريئة تستمع أكثر مما تتحدث، وتمتثل أكثر مما تتذمر وتطأطئ الرأس وتخفض البصر خجلا من نظرة اختزلت كل معاني الحياة بقيمها ومبادئها وتناقضاتها التي لا تنتهي.
لا يسعني بعد النبش في ذاكرة ظلت تسكنني بكل تفاصيلها وتداعياتها، إلا أن أعترف بأن رسالة المعلم كانت أقوى من شطارة التاجر، وبأن الجرأة والطموح انهزما أمام صفة الزهد والعودة إلى الأصول الشريفة… أطال الله في عمرك يا والدي.. يا معلمي…
انتهى.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى