الرأي

غول التكنولوجيا الناعم

محمد منضوري

معظم تحليلات المتابعين لـ”الحالة الأمريكية”، ما بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة وحتى يوم تسليم جو بايدن مفاتيح البيت الأبيض، ذهبت إلى أن ترامب فعل كل شيء للانقلاب على الديمقراطية، وأنه سعى للخلود الرئاسي، وأنه زعيم و”حاخام مقدس” يحرك بإشارة منه تيارا يمينيا متطرفا يهدد الأخضر واليابس وكل من يتحرك فوق الأرض الأمريكية..
أصحاب هاته الاستنتاجات لم يعدموا الأدلة التي تسند تحليلاتهم، بشأن رفض ترامب الانحناء أمام نتائج الانتخابات، فقد وجدوا حججهم القوية في الخطوات التي أقدم عليها الرئيس الأمريكي السابق، منذ إعلانه عدم الاعتراف بنتائج الاقتراع الرئاسي، وحتى مشاهد الشغب والتخريب خلال اجتياح أنصاره لمبنى الكابيتول.
تلك المشاهد التي وصفت بالاعتداء الشنيع، على المؤسسات الدستورية، كانت قاصمة لظهر ترامب وتلقفتها بلهفة عدسات المصورين لتوجه له الضربة القاضية، قبل أن ينفض من حوله حتى كبار مؤيديه بالحزب الجمهوري، خوفا من أن يصيبهم شرر النيران الكثيفة، التي شكلت أحداث مداهمة الكونغرس ذخيرتها الحية بالنسبة للمنابر الإعلامية.
وفي مواجهة كل ما أقدم عليه ترامب وتياره الأبيض، قد يكون من الضروري تسليط الضوء على جانب من القوى التي تشكل الصورة المقابلة، من مشهد الصراع ما بعد الانتخابي ذاك، حيث وقف “مقاتلون” من نوع خاص.. صحيح أنهم لا يحملون مسدسات أو رشاشات نارية، كما لا يثيرون الذعر بمظاهرهم الغريبة وأشكال حلق رؤوسهم.. لكنهم يستخدمون تقنيات عالية الدقة ويعتمدون أساليب خفية لا يمكن التسليم بأنها ناصعة البياض.
التكنولوجيا المدمرة كانت أشد فتكا من كل تلك الأسلحة التي لوح بها الأنصار الموتورون.. السلاح “اللطيف”، الذي كثيرا ما لجأ إليه ترامب لقصف خصومه، هو نفسه الذي تدخل بـ”خشونة” لحسم المعركة الأخيرة لغير صالح الرئيس المنقضية ولايته، إذ تم تجريده من التغريد على منصة “تويتر”، وتعريضه لإطلاق نار شديد، من قبل مختلف القوى الناعمة، وعبر وسائل الإعلام الحديثة، سيما وسائل التواصل الاجتماعي “تويتر” و”فايسبوك” وعملاق النشر “أمازون”..
صحيح أن المشرفين على هاته المنصات الرقمية والإمبراطوريات التكنولوجية العابرة للقارات قد يكونون ديموقراطيي الهوى، كما يبدو من تبرعاتهم للحملات الانتخابية الأمريكية (بعض التقديرات ذهبت إلى أن حملة جو بايدن حظيت بـ90 في المائة منها). لكن ما يخشاه الكثيرون، سيما بعد الانخراط الواضح في الصراع الطارئ بالولايات المتحدة (ولا ينبغي أن يحول رفض ترامب ومتطرفيه دون إبصارنا للخطر القادم)، هو أن يتحول العمالقة الرقميون إلى “كارتيل” محتكر، يوظف تداول المعلومة أو حجبها لخدمة تكتل مصالح معين، أو إلى مؤسسات ضغط تخوض الصراعات السياسية بالوكالة، وتتواطأ لمصلحة من يوافق هوى المتحكمين فيها وتنحاز لمن يدفع أكثر.. ومن ثم يصبح الحديث عن شيء اسمه المنافسة عبر الآليات الديمقراطية غير ذي معنى، ما دام هناك من يمتلك أسلحة يستطيع من خلالها صنع المشهد المرتقب من موقع فوق الأشخاص والمؤسسات.. دون أن تمتلك أي جهة وسيلة للتصدي له.
لذلك لا يمكن التصديق بأن المؤسسات الإعلامية المهيمنة بأمريكا كانت محايدة تماما في نقل المعلومة إلى المستهلك، وأن ما دفع “تويتر” إلى وضع رقابة على تغريدات ترامب هو فعلا، وفقط، خرقه لقواعد النشر بهذا الموقع التواصلي. ناهيك عن تشطيب «أمازون»، باعتبارها شركة مضيفة، لخدمة «بارلر » (Parler)، التي أطلقها مؤيدون لترامب بعد منعهم من قبل «تويتر» و«فيسبوك».. وهو ما يطرح السؤال حول حقيقة حرية التعبير بهاته الإمبراطوريات الرقمية..
أكثر التخوفات تأتي من كون مجال الوسائط المتطورة في تناقل المعلومات يشمل الشأن العام، ومن ثم القدرة على التأثير بسبب امتلاكها لإمكانيات هائلة للتوجيه ودعم هذا الطرف أو ذاك للوصول إلى مركز القرار..
ولئن كان الأمر بالنسبة للأشخاص والمؤسسات العادية مصحوبا بالمحاسبة، من قبل مؤسسات الدولة وعموم المواطنين، فإن هاته الآلية ليست متاحة بقدر كاف في ما يخص هذا الغول التكنولوجي، بالنظر إلى الفراغ القانوني أو عدم التكييف التشريعي، فضلا عن التعقيدات التقنية التي تشتغل بها الشركات الرقمية لمصلحة مالكيها وارتباطاتهم واستراتيجياتهم، التي قد تتجاوز سلطات الحكومات والدول ورؤسائها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى