الرئيسية

في تاريخنا العلمي

إلياس بلكا
من أولى المعارف التي حصّلها الإنسان: ما يتعلق بالكواكب والنجوم وحركاتها وطرق سيرها… ونحو ذلك، مما يشكل ما اصطـُلح عليه فيما بعد بعلم الفلك. لكن هذه المعارف التي توصّل إليها الإنسان بالملاحظة، ثم بالحساب لاحقا، اختلطت عنده بآراء اعتقادية تراوحت بين تأليه النجوم – أو بعضها – وبين نسبة بعض ما يحدث في دنيا البشر إليها. ولهذا كان الفلك والتنجيم شيئا واحدا طيلة عهود طويلة من تاريخ الإنسانية.
ورغم أن الاعتقاد في ألوهية النجوم قد اندثر اليوم، بفضل الديانات السماوية وجهودها في إثبات التوحيد، فإن الإيمان بوجود تأثير لها في مصائر البشر لا يزال قائما في مختلف المجتمعات، خصوصا الغربية، وبمنطقة شرق آسيا وجنوبها، وتقول بعض الدراسات واستطلاعات الرأي إن نحو ستين في المائة من الفرنسيين – اليوم – يؤمنون بالتنجيم.
إن استمرار هذا الخلط بين الفلك والتنجيم، واعتقاد ملايين الناس – في عصر الحداثة هذا – في خرافات المنجمين أمر محيّر بحاجة لدراسات دقيقة.
وتوجد، من ناحية أخرى، مشكلتان أساسيتان لهما صلة بالموضوع، وهما:
أولا : مشكلة الطبيعة والعلية
وهي ما يصطلح عليه بالعلية المجعولة، وهل للأشياء طبائع تفعل بها.
وفي تراثنا الفكري يعتبر طبائعيا كل من يقول إن لكل شيء طبعا خاصا يؤثر به، مستقلا عن كل تدخل خارجي. وإن الطبائع أربعة: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة. وهي تقابل العناصر الأربعة: النار، والماء، والهواء، والتراب. وكل شيء في الكون يكون بامتزاج هذه الطبائع والعناصر بنسب متفاوتة وأشكال غير محدودة. ولذلك قالوا: الطبع هو ما يكون مبدأ الحركة مطلقا، سواء كان له شعور أم لا.
وقد رفض المسلمون هذا المذهب اليوناني القديم، لكنهم اختلفوا هل للأشياء خصائص ذاتية خلقها الله تعالى لتفعل بها أم لا.
يقول الشيخ محمد السنوسي في موضوع الأسباب والعلل واعتقادات الناس بصددها، وذلك في كتابه شرح المقدمات:
1- منهم من يعتقد قِدمها واستقلالها بالتأثير من طباعها، أي حقائقها، من غير جعل من الله تعالى، وهذا مذهب كثير من الفلاسفة والطبائعيين.
2- ومن الناس من يعتقد حدوثها وتأثيرها فيما قارنها، لكن ليس من طبعها، وإنما هو بخلق الله تعالى فيها قوة مؤثرة، ولو نزعها منها لم تؤثر.
3- ومن الناس من يعتقد حدوثها وعدم تأثيرها فيما قارنها، لا بطبعها ولا بقوة جُعلت فيها، لكنه يعتقد ملازمتها لما قارنها، وأنه لا يصح فيها التخلـّف.
4- ومن الناس من يعتقد حدوث الأسباب العادية وعدم تأثيرها فيما قارنها، لا بطبعها ولا بقوة جعلت فيها، وأن مولانا جل وعز جعلها أمارة ودليلا على ما شاء من الحوادث.. من غير ملازمة عقلية.
ومفكرو الإسلام بين الرأيين الثاني والرابع. والأخير يعتبر أنه ليس للأشياء أي طبيعة مهما كانت، ولذلك فلا مناسبة بين الأسباب والمسببات، والنار – مثلا – لا تحرق القطن بنفسها، بل الله تعالى هو الذي يخلق الإحراق عند تلاقيهما، ونحن نعتبر النار سببا في ذلك لمشاهدتنا تكرُّر ذلك في الواقع، فاقترن في ذهننا وجود الأمرين – النار والحرق – حتى اعتقدنا ذلك طبعا لازما، وإنما هي العادة فقط. ولذلك يطلق على هذا المذهب: السببية العادية. وقد انتقل هذا الرأي الذي بسطه – بالخصوص – أبو حامد الغزالي إلى الفكر الغربي الحديث حيث شهّره الفيلسوف الإسكتلندي دافيد هيوم في كتابه «بحث في الفهم البشري» قبل أن يصير – إلى حد ما – أساس المدرسة الوضعية التي نادت بالاكتفاء بملاحظة قوانين الظواهر، أي القرانات العادية بين الأشياء.
وقال علماء آخرون في الإسلام: إن للأشياء طبائع. وهم لا يعنون بهذا الاصطلاح الإغريقي، بل المقصود أن للأشياء خصائص تؤثر بها، بجعل الله سبحانه. قال ابن تيمية: «المخلوقات العلوية والسفلية يمسكها الله بقدرته سبحانه، وما جعل فيها من الطبائع والقوى فهو كائن بقدرته ومشيئته سبحانه». وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن الذي يعتبر الماء سببا للإنبات، والرياح سببا لإثارة المطر… ونحو ذلك. ومما استدل به أصحاب هذا الرأي قوله تعالى على لسان نبيه موسى: (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، قال ابن عطية: «وقالت فرقة: بل المعنى أعطى كل موجود من مخلوقاته خلقته وصورته، أي أكمل ذلك له وأتقنه. ثم هدى – أي يسَّر – كل شيء لمنافعه ومرافقه. (قال ابن عطية) وهذا القول أشرف معنى وأعم في الموجودات».
فإذا عرفنا مذاهب العلماء في السببية والطبائع سهل علينا أن نستنبط حكم القول بتأثير النجوم. قال المازري: «من اعتقد اعتقاد كثير من الفلاسفة في كون الأفلاك فاعلة لما تحتها (من) الحيـوان والمعادن والنبـات، ولا صنع للبـاري سبحانه وتعـالى في ذلك، فـإن ذلك مروق من الإسلام». أما «من اعتقد أن لا خالق إلا الله سبحانه، ولكن جعل في بعض الاتصالات من الكواكب دلالة على وقوع المطر من خلقه تعالى عادة جرت في ذلك، فلا يكفر بهذا، إذا عبر عنه بعبارة لا يمنع الشرع منها». بينما قال العيني: المذموم من أمر النجوم هو «نسبة الأمر إلى الكواكب، وأنها هي المؤثرة. وأما من نسب التأثير إلى خالقها وزعم أنه نصبها أعلاما وصيّرها آثارا لما يحدثه فلا جناح عليه».
ثانيا: التفريق بين علم الفلك والتنجيم
وقد فرق فقهاؤنا بين هذين الفنين، فأجمعوا على تحريم التنجيم. وجوز الجمهور الأعظم علم الفلك، وروي ذلك عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وغيرهما كثير. قال الخطابي: «علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان… فأما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والحس، كالذي يعرف به الزوال وتعلم به جهة القبلة، فإنه غير داخل في ما نهي عنه».
بل إن العلماء استحبوا الاشتغال بعلم الفلك، حين يتعلق الأمر بغرضين أساسيين: الأول هو الاستفادة من هذا العلم في مجال العبادات، كتحديد القبلة ومواقيت الصلاة ونحو ذلك. والثاني هو الاهتداء بالنجوم في الطريق والسفر.
بقي ما لا فائدة فيه بحسب الظاهر، وبحسب ما وصلت إليه المعارف في الماضي، فهذا قال فيه ابن رشد الجد بالكراهة كراهة تنزيه. وبعض العلماء لم يصرّح بالكراهة، فكأن الاشتغال به عنده هو من باب خلاف الأولى. من هؤلاء ابن رجب، قال: «أما علم التسيير (يعني الفلك، مقابل علم التأثير، وهو التنجيم) فإذا تعلم منه ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق كان جائزا عند الجمهور. وما زاد عليه فلا حاجة إليه وهو يشغل عما هو أهم منه». وكذلك قال ابن تيمية في هذا الفن: «هذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه… لكن جمهور التدقيق منه كثير التعب قليل الفائدة، كالعالم مثلا بمقادير الدقائق والثواني والثوالث في حركات السبعة المتحيرة». يعني بهذا التفاصيل الجزئية لحركات الكواكب السبعة.
لكن ذلك كان بحسب تطوّر مستوى العلوم في تلك العصور. أما اليوم فقد تأكدت فائدة علم الفلك، وأصبح مطلوبا في مجالات الأرصاد الجوية والطيران وتوقع الكوارث الطبيعية… وما إلى ذلك. فالصواب إذن هو استحباب علم الفلك، وأنه من فروض الكفاية على الأمة، كما قال الشيخ رشيد رضا وغيره في تفسير المنار.
يبقى ما لم تظهر له فائدة، كالاهتمام بالمجرات البعيدة والظواهر الغريبة، فهذا أيضا يدخل في المستحب، بل في فروض الكفاية، لأن موقف الإسلام من العلوم على العموم هو التحبيذ والطلب، ولأن الفوائد العملية قد تظهر في المستقبل، ولأن القرآن أمر أمرا عاما بالتأمل في الكواكب والنجوم والسماوات.
هذه التفرقة بين الفلك والتنجيم من أعظم القفزات المعرفية في التاريخ البشري، وهي التي مهّدت للتطور الهائل لعلوم الفلك في حضارتنا مع أمثال البتاني والفرغاني والبوزجاني والخوارزمي.. ومن ثَمّ في النهضة الأوربية الحديثة مع غاليلي وكوبيرنيكوس.. هذه الثورة الفلكية هي التي ساعدت على تطور سائر العلوم كالرياضيات والفيزياء والجغرافيا.. هي فصول مهمة من تاريخ العلم عندنا وعند غيرنا بحاجة لدراسات دقيقة وعميقة الغور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى