دين و فكر

في مواجهة التهافت 41

فُجِعتُ مرة أخرى في «قائدنا» الكبير.. ما يقوله لنا في الجلسات.. وفي اللقاءات الدعوية.. هو عكس ما قام به الآن خلال هذه الانتخابات وما بعدها.. بدا لي أن الأمر خطير جدا.. وأني لا بد أن أفكر في حل لهذه الألغاز.. وفي فك هذه الشيفرات السياسية وهذه الدسائس المقيتة التي قام بها هذا «الأخ» المحترم، الذي قاد العمل الإسلامي عقودا من الزمن..
هدأت «جلجلة» الانتخابات.. سكنت الأعصاب.. ورجع «المناضلون» إلى قواعدهم.. سالمين.. غانمين.. لقد حقق «الإخوان» انتصارا تاريخيا.. فهم لأول مرة في تاريخ المغرب يشاركون في منافسات سياسية.. ونجحوا في حصد المقاعد على المستوى الوطني.. بل استطاعوا أن يترأسوا بعض المجالس المحلية..
هدأ الكاريان أيضا.. بقيت «مخلفات» المرشحين منتشرة في كل مكان.. لا حديث للناس إلا عن نجاح «حسن ولد لالة خديجة».. أخيرا أصبح ابن من أبناء الحي رئيسا للمجلس الجماعي.. فرح الأهالي بذلك كثيرا.. ولم تنقطع الزيارات عن بيت «سي براهيم».. كان هذا أول بيت وطأته قدماي عندما قدمت إلى الكاريان.. لي فيه ذكريات لا تنسى.. الآن لا أستطيع الدخول إليه.. فقط لأني عارضت ترشح «حسن» للانتخابات.. انزويت إلى الركن.. إنه أول موقف سياسي أتخذه في حياتي يجر علي تبعات مؤلمة.. ويرمي بي إلى الخلف دون رحمة..
بقيت مسؤولا عن جلستي التربوية.. اجتمعنا كالعادة في «البراكة».. كان حديث الأعضاء كله عن الانتخابات.. لم نقرأ القرآن هذا اليوم.. ولم نستظهر بعض آياته كما كنا نفعل.. لا حديث للإخوان إلا عن «موقعة الكاريان التاريخية».. والانتصار المدوي على الاشتراكيين.. بدأت «التحاليل» تقدم توقعاتها هنا وهناك..
بزغ عهد «محللين جدد» يختصون في الشأن الديني والحركات الإسلامية.. ينشرون توقعاتهم حول زحف أخضر قادم.. وتنبأ بعضهم بعهد زاخر يسود فيه العدل بعدما ملأه العابثون جورا.. كذب «المتنبئون»، فلن يكون طلوع الفجر المنتظر على أيدي الإسلاميين.. لقد رسبوا في الامتحان..
قلت لإخواني في الجلسة:
ـ لا يعقل أبدا أن تذكروا الاشتراكيين بسوء، فهم حلفاؤكم اليوم في تسيير المجلس البلدي.. تتقاسمون المسؤولية معهم.. وكل شيء..
ساد ضجيج قوي داخل جلستنا.. ظهرت الخلافات.. والسبب هو «السياسة».. حاولت أن أسيطر على الموقف.. وأن أغير من موضوع النقاش.. اقترحت على الأعضاء ألا نتحدث في هذا الموضوع مجددا..
قلت لهم:
ـ إذا كان اجتماعنا هذا لله.. فاجعلوه كذلك.. نحن هنا ليس لمناصرة فلان.. ولا محاربة علان.. لنجعل القرآن هو محور اجتماعنا.. قراءة وحفظا وتفسيرا.. ولننأى بأنفسنا عن الخوض في السياسة، فإنها تفرق أكثر مما تجمع.. وما اجتمع قوم حولها إلا تشتتوا.. هي باب مشرع من دخله لن يخرج منه.. وهي كرسي من جلس عليه لن يتركه لغيره إلا بالحديد والنار.. وهي امتيازات من ذاقها لن يتخلى عنها.. وهي…
لم أعد متحمسا أكثر للعمل داخل الحركة الإسلامية كما كنت من قبل.. صدمني «أبو أيمن».. وفجعت في «فاطمة».. كيف انقلبا علي بسرعة البرق.. وقلبا لي ظهر المِجَنِّ.. أضحت «الأخت» سيدة أهل الكاريان.. أما «أبو «أيمن»، فينتظره ما هو أعظم وأرقى..
«المقدم «شقيفة» لم يعد «عونا» للقايد فحسب.. بل كرس جل وقته لخدمة «الحكام الجدد للكاريان».. الفقيه «البودالي» لا يبخل بخبرته وتجاربه في الحياة عن «الإخوان»..
ما الذي تغير حتى أصبح «المخزن» وأعوانه يدعمون بشكل سافر «الإخوان» في الكاريان (هكذا بدت لي الأشياء في ذلك الوقت).. في فترة من الفترات أُطلِقت يد «السلفيين» في المنطقة.. ربما كان ذلك متعمدا لإحداث بعض التوازن داخل الكاريان.. فلم يعد «أبو أيمن» وأخته يسيطران على الوضع.. لقد ضايقهما أصحاب اللحى الطويلة والسراويل القصيرة..
أضحت الغلبة لأنصار «الألباني» في الكاريان.. سيطر «الفكر الجهادي» بشكل مرعب على أجواء المكان.. بالرغم من أن «أبو أيمن» هو الفائز السياسي في الدائرة، فإن «السلفيين» ميدانيا هم من يتحكمون في مصير الكاريان.. وضع أقلق «أبو أيمن» وعيون «المخزن»..
(في فترة لاحقة من هذا التاريخ اجتاحت الكاريان موجة من الاعتقالات طالت اللحى الطويلة، فحلق المخزن معظمها واستثنى منها أعضاء «الجماعة»، لأنهم لا يملكون لحى مخيفة.. وخلا لهم الجو أو أُخْلِيَ لهم.. لا فرق..).
فكرت مليا ثم قلت لنفسي:
ـ سأدع السياسة والانتخابات لأصحابها.. وأتفرغ للجلسة التربوية.. ولتحصيل العلم.. وأواجه هذه الجهالة التي بدأت تنتشر في المكان.. وأفند هذه الفتاوى المستوردة من الخارج.. الكل يفتي داخل الكاريان.. بائع «النقانق».. والخضر.. والفواكه.. وبائعو الكتب والأشرطة والبخور.. وبائعو الدجاج.. أضحى الكاريان سوقا عموميا للفتوى.. يفتي في أحواله «القرضاوي».. و«العثيمين».. و«الألباني».. و«ابن تيمية».. و«المغراوي».. تهت وسط هذا البحر الهائج من «الأديان».. لقد ضاع ديننا الحنيف وسط هذا الصراع المحموم..
شجعني بعض «الإخوان» على الابتعاد عن السياسة..
قال لي بعضهم:
ـ لن يشتغل كل الإخوان في السياسة.. ولن يذهب كلهم إلى البلديات.. وإلى مجلس النواب.. إذا رحل هؤلاء جميعا إلى العمل السياسي، فمن سيقوم بوظيفة الدعوة إلى الله؟ ومن سيقوم بتأطير السياسيين تربويا حتى لا يفتنهم بريق السياسة.. وتستدرجهم متعة المناصب؟؟
قال لي «المقاصديون»:
ـ إذن لا بد أن ترابط فئة في سبيل الله.. تقوم بواجب التبليغ والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يزيغ من ذهب إلى السياسة عن الطريق القويم.. قالوا لي:
ـ لا ضير.. أنت ستتخصص في العمل التربوي.. والدعوي.. وغيرك سيهتم بالعمل الجمعوي.. وهناك بطبيعة الحال فئة ستجاهد من داخل مؤسسات الدولة…
لم أقتنع بهذه الذرائع.. ولا بهذه التبريرات.. أذكر أني قلت لجلسائي من الإخوان في بداية تهافتهم على البرلمان.. وقلت ذلك أيضا لـ«أبو أيمن» في مناسبة ما:
ـ أنا لست ضد العمل السياسي.. ولكن الإخوان ليسوا على علم تام بقواعد هذا العمل.. ولا يتوفرون على خبرة في المجال.. ولا على أطر مدربة يمكن أن تتحمل مهام تدبير الشأن العام.. وخصومهم السياسيون أقوى منهم من حيث الخديعة والدهاء.. وأغلبهم يرون أن الغاية تبرر الوسيلة.. فتكون المبارزة إذن وفق قواعد ودوافع متناقضة.. والخصم لن يتورع في استعمال أسلحة تكون محرمة عند الإخوان..
قلت أيضا: الإخوان ندبوا أنفسهم للدعوة والتربية.. والناس عرفوهم بذلك.. ويحترمونهم من أجل ذلك.. فمجالهم هو تعليم الناس أمور دينهم.. ومحو أمية الجاهل منهم.. بذلك سيحترمهم الجميع.. والدولة ستقدر مجهوداتهم.. وسيمارس الإخوان السياسة بشكل غير مباشر.. أما هؤلاء الذين ذهبوا إلى البرلمان.. والبلديات، فلا قدرة لهم على تغييرها.. لأنهم ليسوا أكفاء.. وسيكونون ضعفاء أمام قوة الخصم.. وأيضا أمام مغريات السياسة.. وستعميهم الصدارة والوجاهة والشهرة عن رؤية الحق.. ولن يكون بمقدورهم الدفاع عنه.. ستصبح لهم مصالح.. ومطالب.. و«مقاصد».. فيناورون لتحقيقها.. ويكذبون لنيلها.. وسيحرمون من أجر «الدعوة».. لأن من اشتغل بها ممن سبقهم لم يطلبوا أجرا ولا مالا ولا دافعوا عن مصالح ذاتية..
قلت للإخوان حينها:
ـ السياسة فرع نبت عن الحركة.. وسيتقوى هذا الفرع.. ثم يكبر.. ويكبر حتى يصلب عوده ويكون أقوى من الجذع المتجذر في التراب، فيميل الأصل.. ثم يميل حتى يسقط الجميع.. السياسة لها بريق أقوى من العمل دون مقابل.. سيتهافت الإخوان على الغنائم.. والمصالح.. والمناصب.. وسيجرون وراء الشهرة.. لأنهم لن يقبلوا على مجال لا يدر دخلا ولا يحقق منفعة شخصية.. وإنما يتطلب نكران الذات وقهر النفس… في النهاية لن يبقى هناك أصل.. ولا فرع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى