شوف تشوف

الرأي

كسر حاجز اللغات (2 ـ 3)

بقلم: خالص جلبي

هناك أمر أخطر ولد من أفرع هذه الوكالة السرية، التي جند لها خيرة العقول ووافر الأموال؛ قالوا: «مستودعات القنابل الذرية في الاتحاد السوفياتي يجب الإجهاز عليها، إذا قامت القيامة النووية».
يحضرني في هذا المقابلة التي أجرتها مجلة «دير شبيغل» الألمانية مع الخبير النووي (لي بتلر)، قال: «كان هناك 12500 هدف في الاتحاد السوفياتي للمسح من الخارطة! أما قواعد (السيلو)، أي الأنابيب الأرضية بخراسانات من الإسمنت المسلح بسماكة 100 متر، فهي في قاعدة (فاندنبرغ) بأمريكا ويتربص بها الروس بدورهم».
صعد الأمريكيون على ظهر الغمام وطوروا نظام استكشاف ذكي يشمشم مواقع القنابل الذرية الروسية (مكان الاختبارات الرئيسي كان في صحراء سيمابالاتنسك)، لقصفها بالقنابل الهيدروجينية (المشروع السري 57)، ويقول خبيرهم (جولدبلات) إن هدف «داربا» هو تشكيل المستقبل على شرط عدم خرق قوانين الفيزياء إلا مرة واحدة في كل برنامج، وبالطبع فالقوانين توضع لخرق القوانين. وحين تم دفن الحرب الباردة بخشوع في باريس، انتفع الناس من النظام السماوي فأصبح المعروف بجهاز ماجلان (GPS) لهداية الحيارى من السائقين، كما حصل معي في مونتريال، وأنا أحاول الخروج من طريق شيربروك إلى الطريق السريع 40. قلت لزوجتي: «جزاهم الله خيرا عن هذه الهدية للحيارى من السائقين». مرة أخرى نرى الجدل الإنساني بين الشر والخير، وبين حماقة العسكر ورحمة العلم.
مؤسسة «داربا» لا تنام فهي حاليا قد خصصت مبلغ 3 مليارات دولار لمشروع جديد لفهم الدماغ فهو أعظم سر في الوجود، وهل يمكن قراءة أفكار الإنسان من كهربائية الدماغ؟ وهذا بحث ممتع جدا، منذ أن حقق الألماني (هانز برجر) في تصميم أول جهاز تخطيط دماغ كهربي (EEG)، بتكبير موجات الدماغ مليون مرة ورصدها وكتابتها على الورق وتفسيرها.
الروس البارعون في التجسس (بوتين الحالي كان رئيس «ستازي STASI» الرهيب في ألمانيا الديمقراطية سابقا، قبل الانهيار الأعظم عام 1987م)، فقد أجابوا عن التفوق الأمريكي بالدخول على ختم السفارة الأمريكية الأعظم في تصديق الوثائق الخطيرة (اعتمد منذ عام 1782م) وحشر جهاز مخفي يتم تحريضه بموجات راديوية من مصدر بعيد، فيرسل ما شاء من الوثائق الهامة مثنى وثلاث ورباع إلى ستالين الضاحك، وهو يفتل شاربه العريض ويدخن غليونه الذي لا يفارقه. واستمر التسرب سبع سنوات عجاف (1945 ـ 1952) ينقل ما يفكر به الأمريكيون في أزمة برلين 1948م والحرب الكورية 1950، حتى اهتدى إليها مهندس بريطاني بالصدفة، فخبط خبراء أمريكا ناصيتهم وقالوا: «هذا يوم نحس مستمر».
هذا المشروع ليس الجديد في تاريخ أمريكا، ففي عام 1957 وفي جو الحرب الباردة، شعرت أمريكا أنها في خطر ويجب أن تحمي نفسها من أي هجوم نووي. وكانت توقعات (ليزلي جروفز)، المشرف العسكري على مشروع (مانهاتن) عام 1945، في (لوس ألاموس)، أن الروس لن يتوصلوا إلى إنتاج القنبلة الذرية قبل 25 سنة، لكن الروس توصلوا إلى ذلك في أربع سنوات، وهذا يروي حماقة الجنرالات. أمام هذا الاحتمال، بدأت أمريكا سرا في تطوير مشروع لم يعلن عنه إلا منذ فترة قريبة، حيث بنت بالتعاون مع (كندا) معجزة تقنية هي مشروع نوراد.
بدأت أمريكا المشروع في يونيو من عام 1961، واشتد العمل فيه مع أزمة كوبا وانتهى في 20 أبريل 1966. وبدراسة جغرافية الأرض الأمريكية قدمت شركة «راند» خطة لبناء القاعدة في جبل (شيان Chayen) في منطقة (كولورادو) لأربعة اعتبارات: فهو أقرب إلى مركز أمريكا جغرافيا، وهو في منطقة جيولوجية رائعة من صخور الغرانيت القاسي، كما أن المنطقة خامدة بركانيا، وفي النهاية فهي قريبة من قاعدة عسكرية هامة في (فورت كارسن).
ثم درسوا العناصر التي يمكن أن تهدم الجبل يوم القيامة النووية، فكانت خمسة مخاطر: الانفجار، والحرارة، والصدمة الزلزالية، والأشعة الكهرطيسية القاتلة، والاهتزاز، وحلوا كل مشكلة على حدة؛ فأما النار العظمى التي ستصل إلى ملايين الدرجات، فتمتص من خلال نفق جانبي يدفعها إلى الخارج. وأما الممرات فتغلق تلقائيا مع اندفاع الضغط الهوائي فلا تمتص موجة الصدم، ويجري هذا في جزء من ألف من الثانية. وأما الأشعة فقد بني المركز مثل مجموعة سفن مقلوبة على وجهها ومغلفة بصفائح معدنية بسمك 3\8 من الإنش، ومتصلة ببعضها بلحام متواصل تملك القوة الواقية التي ترد الأشعة. وأما الاهتزاز فقد حملت القاعدة كلها على 1300 نابض معدني هائل، قطر الواحد 3 إنشات، ووزنه ألف باوند، وارتفاعه 48 إنشا، ويصل مع ثقل البناء فوقه إلى 36 إنشا، ولم يصنع أي مصنع في أمريكا ما هو أكبر من هذا، بحيث يميل البناء فلا ينهار، كما لا تتأثر الوصلات الحيوية. وهي فكرة خلاقة تستخدم اليوم في الأغراض السلمية لوقاية الأبنية من الزلازل.
وهكذا استمرت الأمور حتى اكتمل البناء في 20 أبريل 1965، بكلفة 15 مليار دولار وجهود خمس سنوات، وفرح عارم عم القيادة العسكرية الأمريكية. وهو اليوم يراقب كل طير يتحرك في السماوات العلا، بين 200 ميل حتى ارتفاع 22500 ألف ميل، بحيث يمسح مسافة 27 تريليون ميل مكعب خارج الأرض، في عمل مكوكي لمسارات 6500 إلى 7200 طائرة عسكرية أو مدنية أو قمر كوني، ما يعادل 2.5 مليون مسار في العام.
والقاعدة متصلة بأقمار السماء ورادارات الأرض ومسابر المحيطات في رفد متواصل للمعلومات لا يعرف النفاد. وفي قدرة المركز رصد أي بارجة أو غواصة عبر البحار حتى عمق 11 كيلومترا، في إحصاء كوني وتطويق للأرض لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسان.

صعد الأمريكيون على ظهر الغمام وطوروا نظام استكشاف ذكي يشمشم مواقع القنابل الذرية الروسية (مكان الاختبارات الرئيسي كان في صحراء سيمابالاتنسك)، لقصفها بالقنابل الهيدروجينية (المشروع السري 57)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى