شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

كيف انتصر أجدادنا على الوباء

منذ المولى إسماعيل إلى فترة بناء المستشفيات

«كانت تلك واحدة من المرات النادرة التي أصدر فيها المولى إسماعيل الأوامر سنة 1669، بإغلاق الزوايا والأضرحة حتى لا ينتشر وباء لم يكن المغاربة وقتها مؤهلين لتشخيصه طبيا، بل حتى أن الأوربيين أنفسهم كانوا يسقطون تباعا في إسبانيا والبرتغال بسبب العدوى. وكانت هناك معارضة لقرار المولى إسماعيل في بعض الزوايا مثل زاوية شيخ مراكش التي كانت وقتها تناصر المولى إسماعيل، لكن شيخها «العباسي» كما أسمته دورية «لو كونتينون» التي أرّخت لهذه الفترة على يد باحث فرنسي اسمه «بيرنارد مينو» قرر أن يتمرد على قرار المولى إسماعيل الصادر من مكناس، والمعمم على كل ربوع البلاد، فما كان من المولى إسماعيل إلا أن أرسل إليه فريقا من الجيش لتأديبه وإغلاق الزاوية بالقوة.
هذه واحدة فقط من المحطات التي استطاع فيها المغاربة تجاوز الوباء والتغلب عليه..»

«كورونا» يُعيد نقاش فتح المشافي المهجورة..
قبل سنتين ونصف من اليوم، فتحنا قوس تاريخ الصحة في المغرب. لكن ما يهمنا في هذا الملف الآن، هو تاريخ معارك المغاربة مع الأمراض والأوبئة. يمكن أن نقول إننا انتصرنا فعلا على عدد من الأوبئة، وقُدر لأجدادنا أن يعيشوا بعد أزمات صحية معقدة دقت ناقوس الخطر ليس في المغرب وحده، وإنما في دول أخرى أيضا بالتزامن مع المغرب.
سبق في «الأخبار» أن تناولنا ملفا عن تاريخ المستشفيات. ومع وضعية العالم الآن، والمطالب الشعبية الكبرى بإعادة فتح مراكز استشفائية مهجورة ورثها المغرب عن الاستعمار بما فيها الثكنات العسكرية في بعض المناطق التي أصبحت اليوم شبه مهجورة إلا من بعض القبائل التي لم يفلح الجفاف في حثها على الهجرة صوب المدن.
كانت وضعية المستشفى الكبير في الدار البيضاء نهاية سنوات الأربعينات وبداية الخمسينات أفضل بكثير من الحالة التي هو عليها اليوم. نفس الأمر ينطبق على مستشفى الناظور الذي كانت بدايته مع الاستعمار الإسباني. كانت هذه المستشفيات، في مختلف المواقع الجغرافية بالمغرب، تعيش قمة ازدهارها عندما كان يشرف عليها أطباء أجانب، وملحقون عسكريون أو أطباء عسكريون اشتغلوا موظفين في المغرب في فترة الاستعمار.
لا تتوفر للأسف معطيات دقيقة بشأن موارد هذه المستشفيات، والسبب أن جزءا مهما من أرشيفها ضاع بسبب سوء تدبير قطاع الأرشيف. فقد حدث في فيضان ضرب مدينة الدار البيضاء خلال بداية ستينات القرن الماضي، أن تضرر جزء مهم من أرشيف عدد من الإدارات التي أسستها فرنسا في المدينة، وضاع معها أرشيف التعاملات الإدارية والميزانيات التي كانت مخصصة لهذه المستشفيات. ونفس الأمر ينطبق على مدن أخرى، كانت أشغال الترميم التي بوشرت في فترات متباعدة، وراء ضياع أرشيف من الميزانيات والأرقام الدقيقة التي كانت توفر معطيات مضبوطة حول أنشطة تلك المستشفيات بل وعدد المرضى المغاربة الذين كانت تستقبلهم سنويا، وتوفر لهم العلاج المجاني والتطبيب والرعاية الطبية بما في ذلك النظافة والوجبات الغذائية.
الأكثر من هذا أن مستشفى منطقة أزرو، الذي كان يضرب به المثل بالإضافة إلى الثانوية التي كانت تحمل نفس الاسم وتخرج منها أطر تقلدوا مناصب سامية في الدولة سواء أثناء الحماية الفرنسية أو مع الاستقلال، كان بدون مبالغة إقامة خمس نجوم في الخدمات الطبية التي كان يستفيد منها كل سكان القرى المجاورة، وبتوصية من المحلق العسكري الذي كان عضوا في إدارة المستشفى. واللغز المحير هو كيف ضاع أرشيف هذه البناية مع الاستقلال، وكيف أغلق مستشفى كبير نواحي مدينة فاس، بمجرد حصول المغرب على الاستقلال. وقد طرح الأمر في البرلمان مباشرة بعد افتتاحه مع نهاية «حالة الاستثناء» في عهد الملك الراحل الحسن الثاني مع بداية السبعينات، ووجه السؤال وقتها إلى الوزير باحنيني بشأن المستشفى المغلق، لكن الحكومة لم تقدم أية إجابة في الموضوع، وكان واضحا أن المستشفى أغلق لأسباب تتعلق في الغالب بميزانية تدبيره، لأنه كان يعرف توافدا كبيرا لعدد من سكان القرى، وكانت الإقامة العامة الفرنسية هي التي تتكلف بتسييره وتدبير موارده وأطره الطبية وأيضا الممرضات ومستلزمات التطبيب والأسرّة، في اتفاقية «صحية» كان القصر قد وقعها مع فرنسا في بداية عهد الملك الراحل محمد الخامس مع نهاية عشرينات القرن الماضي.
بعد سنة 1956، أبقت الدولة على المستشفيات الكبرى فقط، وبرمجت في فترات حكومية مختلفة عددا من الإصلاحات، لكن بعض المستوصفات وبنايات المصحات الفرنسية، بقيت مهجورة في عدد من المناطق، أو تحولت إلى إدارات أخرى ومدارس في بعض الحالات.
لقد كان كل هذا، نتيجة لما وقع في المغرب قبل الحماية. لقد أدرك الفرنسيون، وحتى المغاربة، أن المغرب لديه مؤهلات طبيعية للسياحة الصحية، وهو ما قام به مشاهير وأثرياء أوربيون ومن أمريكا أيضا، واستقروا في بعض المناطق القروية خصوصا، وأكد لهم أطباؤهم أنهم شفوا تماما. وأمام هذه الحقيقة، كانت فرنسا قد استثمرت في صحة رعاياها في المغرب، وأسست عددا من المشافي، بعد أن تأكد لها أن المغاربة منذ القرن 18 كانوا ينجون بأعجوبة من عدد من الأمراض القاتلة. وتم تفسير الأمر على أنه مرتبط أساسا بجودة المناخ والمؤهلات الطبيعية التي تساعد على الشفاء.

أجدادنا نجوا من أوبئة قاتلة
بعض كُتاب الوزراء، ممن تولوا مهمة التأريخ، مثل الكاتب عبد الله الفاسي، سجلوا في عدد من المرات وجود أمراض وأوبئة في المغرب استطاع المغاربة اجتيازها، رغم أن الظرف كان شديد الحساسية، وتزامن مع مجاعات كما لو أن الظروف الطبيعية تحالفت مع المرض. ورغم كل هذا، نجا عدد كبير من المغاربة من أوبئة، في زمن لم يكن ممكنا الحديث عن أدوية بالمعنى الحديث للدواء أو التطبيب. كل ما كان المغاربة يتسلحون به هو الأعشاب وبعض الأغراض الطبيعية، بالإضافة إلى صرامة «المخزن» في جعل الناس يلزمون بيوتهم وقراهم وألا يغادروها إلا بعد أن يزول المرض. وقد وقع هذا في أكثر من مناسبة منذ عهد المولى إسماعيل.
لم يكن الوباء يميز بين الأعيان وبين العوام. حتى أن السيد مكوار الذي عرف في تاريخ فاس أنه كان يشتغل نائبا لقنصل بريطانيا في المغرب، وهو منصب كان يحسده عليه الكثيرون منذ سنة 1905، أصيب بدوره بالوباء الذي كان منتشرا في فاس خلال تلك السنة. وقد رصده صحافي بريطاني عندما كتب: «تلقيت دعوة من الحاج الطاهر مكوار، الذي يعمل وكيلا للمفوضية البريطانية حتى أزوره في بيته.
اللقاء معه لم يترك لدي أي انطباع يذكر. في رأيي فإن المفوضية البريطانية الكائن مقرها في طنجة لا تختار وكلاءها جيدا. وجدته مستلقيا فوق فراش يعاني من وباء منتشر بكثرة تلك الأيام. وجهه متجعد تطغى عليه بصمة العيش طويلا في لندن، المدينة التي يقال إنها عاصمة انعدام الأخلاق وسواد الفساد في العالم. لا أحد يعرف ماذا كانت واجباته الدبلوماسية، كان يسعى إلى ممارسة صلاحية القنصل، لكنه لم يحظ بموافقة القنصل العام في طنجة.
القنصل العام أخبرني أن الحاج الطاهر مكوار لا يتوفر على أي سند أو قوة قانونية، وأنه ليس مسؤولا عن تصرفاته وتحركاته. كان فقط وكيلا يفض النزاعات بين المحليين، ومغربيا «محميا» كغيره من المحميين، ويتقوى بالوقوف خلف المخزن. المغاربة يكرهونه ويعتبرونه مثل اليد التي يحك بها البريطانيون جسمهم. كان كلما وجدته يتدخل في نزاع معين، يردد هذا القول: «ما يشاء الله لا بد له أن يكون».

حظر التجوال قبل أربعة قرون..
بعكس ما يتم تداوله من أهوال الأوبئة والمجاعات، فإن المغاربة استطاعوا في مناسبات تاريخية كثيرة التغلب على الوباء وحصره والحد من مخاطره. وهذا الأمر تم استغلاله سياسيا في مرات كثيرة.
ففي عهد المولى إسماعيل، فُرض حظر التجول في مدينة مكناس، وأغلقت أسوار فاس، وأرسل جيش كبير لتطويق مراكش لمنع الدخول إليها أو مغادرتها. وبعد أشهر من التشديد، كانت النتيجة أن المغاربة نجوا بأعجوبة من وباء قاتل.
كانت تلك واحدة من المرات النادرة التي أصدر فيها المولى إسماعيل الأوامر سنة 1669، بإغلاق الزوايا والأضرحة حتى لا ينتشر وباء لم يكن المغاربة وقتها مؤهلين لتشخيصه طبيا، بل حتى أن الأوربيين أنفسهم كانوا يسقطون تباعا في إسبانيا والبرتغال بسبب العدوى. وكانت هناك معارضة لقرار المولى إسماعيل في بعض الزوايا مثل زاوية شيخ مراكش التي كانت وقتها تناصر المولى إسماعيل، لكن شيخها «العباسي» كما أسمته دورية «لو كونتينون» التي أرّخت لهذه الفترة على يد باحث فرنسي اسمه «بيرنارد مينو» قرر أن يتمرد على قرار المولى إسماعيل الصادر من مكناس، والمعمم على كل ربوع البلاد، فما كان من المولى إسماعيل إلا أن أرسل إليه فريقا من الجيش لتأديبه وإغلاق الزاوية بالقوة.
سُجلت حالات مشابهة في عبدة ودكالة وأحواز مراكش، حتى أن بعض الزوايا، في نفس السنة، قامت بتحدّ خطير ضد «المخزن» وقررت توفير الطعام المجاني للناس لاستقطابهم للحضور إلى الزاوية، مستغلين انتشار الجفاف وتضور المغاربة جوعا. وهو ما جعل الحملة التي اعتمدها المولى إسماعيل تفشل في البداية لأن أغلب الناس انساقوا «وراء بطونهم» كما سماهم المولى إسماعيل نفسه، وأمر بتشديد العقوبات واعتقال المشرفين على الزوايا التي رفضت الامتثال. استغرق الأمر أسابيع طويلة لضمان ابتعاد الناس عن التجمعات الكبيرة، في حين كانت الوفيات تتزايد. أما في مدينة مكناس التي كانت عاصمة لحكم المولى إسماعيل فقد كانت التعليمات تقضي بحظر التجوال، بينما كانت بعض الأضرحة التي تعد محجا كبيرا لسكان المنطقة ونواحيها في صراع مع السلطة. وكان المولى إسماعيل قد أمر بتأديب شيخ إحدى الزوايا القريبة من فاس، والذي قال إن إغلاق الزوايا في وجه الوافدين إليها ممن يطلبون بركة الأولياء ويرجون العلاج بين جدرانها، لا بد أن تكون له عواقب وخيمة. وبما أن انتشار الوباء تزامن مع موجة جفاف كبيرة فإن بعض الفئات انساقت تماما وراء ذلك الخطاب. إلا أن الصرامة التي عُرف بها المولى إسماعيل عبر التاريخ، لعبت دورا كبيرا في احتواء الأوضاع. يقول الباحث الفرنسي بيرنارد مينو في ورقة علمية نُشرت سنة 1921: «لقد كان السلطان المغربي المولى إسماعيل أكثر الحكام المغاربة فهما لسياسة تدبير الأزمة. فقد ضرب المغرب في عهده وباء خطير، كان قد حصد موتى كثر في إسبانيا. وعندما وصل إلى عاصمته أغلق أبوابها وأمر بعزل المدن الأخرى والبوادي. لقد كانت رؤوس المستهترين بقرارات المولى إسماعيل تعلق فوق أسوار مكناس لكي يكونوا عبرة، وأصدر العلماء فتاوى تحرم المخالطة لأنها سبب اتساع رقعة الوباء. وبفضل الصرامة الكبيرة للمولى إسماعيل استطاع المغرب تخطي تلك الأزمة سنة 1669».

المقدمون والقياد كانوا يمارسون دور الأطباء!
في عهد المولى الحسن الأول، كان قد كلف أبناءه بتمثيله كمبعوثين سلطانيين إلى عدد من المدن. وفي مراكش، كان يمثله المولى عبد الحفيظ حيث كان المولى الحسن الأول يوصي المدني الكلاوي خيرا بابنه في المنطقة.
في سنة 1883، كان المغرب يعرف موجة انتشار لمرض غريب في المنطقة الجنوبية على وجه الخصوص، شُخص لاحقا على أنه مرض السل. وكان المرضى لا يكفون عن السعال ويعادون غيرهم. ورغم محاولات متواضعة لبعض العشابين لكي يقدموا العلاج إلا أن حدة الوباء كانت أكبر من الإمكانيات المحدودة للطب المحلي.
حسب ما أورده الكاتب «غافين ماكسويل» الذي أعجب كثيرا بتاريخ منطقة مراكش وارتباطها بعائلات مثل المدني الكلاوي، فإن المدني، باعتباره تابعا للمولى الحسن الأول وخادما وفيا له، قد أبلى جيدا في احتواء المرض بمراكش ونواحيها، وكلف القياد والباشاوات وحتى المقدمين، بالسهر على تطبيق الأوامر المخزنية لعزل المصابين. يقول: «لقد كان القصر يحفظ للمدني الكلاوي خلال فترة حكم المولى الحسن الأول 1873-1894، خدماته الكثيرة. خصوصا خلال فترات المجاعة، حيث كان المدني يُجنب البلاد كثيرا من التمردات عن المخزن، بل وكان يدخل في حرب ضروس مع عدد من المعارضين للدولة في الجنوب، خصوصا بعد القبائل التي كانت تخرج عن مظلة «المخزن» في مناسبات كثيرة، لقرون مستمرة.
لقد ضرب بيد من حديد في عز أزمة «السل» في سهل الجنوب وقطع جبل الأطلس على رأس جيش من ثلاثة آلاف مقاتل مدربين جيدا، لكي يفرض الحظر على سكان المنطقة ويمنع انتقالهم إلى مراكش. وفي الأسواق الأسبوعية كان المخزنيون يعتقلون كل من بدا مريضا ويتجول بين الناس الأصحاء. أما القياد والمقدمون فقد كانوا يعزلون في الدواوير والأحياء كل البيوت المصاب سكانها بالسل، ويضعون لهم المؤونة ويُلزمونهم بالبقاء في منازلهم».
هذه السياسة الصحية الإجبارية لعبت دورا كبيرا حتى لا ينتشر الوباء في تلك السنة ولولا الحزم الذي ووجهت به لربما كان وقعها أكبر في كل البلاد، تماما كما وقع سنة 1907، عندما عمّ السل والكوليرا، إلى درجة أن العدوى انتقلت إلى دبلوماسيين أجانب كانوا يشتغلون في المغرب.

دبلوماسيون وقناصلة حكوا عن تغلبّ المغاربة على الأوبئة
لم يكن ممكنا الحديث عن واقع الصحة العمومية في المغرب ما لم يتم التطرق للمستشفيات. والحقيقة أن المغاربة كانوا يتوفرون على دور رعاية، تقع في مناطق جبلية وأخرى في ما يشبه محميات طبيعية. وتكفي الإشارة إلى أن ثريا ألمانيا، هو السيد «هاندريكس» تماثل للشفاء من مرض مزمن لم ينفع معه العلاج في أوربا على يد أكثر الأطباء خبرة، وجاء إلى طنجة ليستقر بها لأشهر كانت كافية لكي يتماثل للشفاء تماما، قبل أن يغادرها مكرها صوب جنوب إفريقيا، حيث كانت مشاريعه العائلية، ويموت بها سنة 1891.
تطرقنا مرات كثيرة سابقة لواقع مدينة طنجة في ظل وجود أجانب. وعندما جاء الجيل الأول من الأوربيين إلى طنجة، كان هاجسهم الأول هو الهاجس الصحي. إلى درجة أن عددا من موظفي وزارة الخارجية البريطانية سنة 1878، تلقوا طلبات من عائلاتهم بعدم التنقل إلى المغرب، خوفا على سلامتهم الصحية، رغم الإغراءات المالية التي قدمتها الحكومة البريطانية لموظفي السلك الدبلوماسي لكي يعملوا لصالحها في طنجة، وكانت وقتها لندن تخطط لفتح مكاتب قنصلية في مختلف المناطق في المغرب، والبداية كانت التركيز أولا على مدينة طنجة، وجعلها بوابة لتوطين مقرات إدارية تابعة للخارجية البريطانية في كل من وزان والعرائش وصولا إلى الدار البيضاء وفاس.
كانت الصحافة البريطانية هي المسؤول الأول عن الصورة السوداوية التي تداولها البريطانيون عن المغرب. إلى أن بدأ الجيل الأول من الصحفيين يكتشف مدينة طنجة ونواحيها، وصولا إلى مدينة فاس، خصوصا في فترة المولى عبد العزيز. وقتها بدأت الصحف البريطانية تنشر مقالات دورية على شاكلة ربورتاجات تصف الحياة المغربية وثروات الأعيان المغاربة وجوانب من الحياة اليومية للمغاربة. وهكذا مع اقتراب سنة 1880، كان البريطانيون قد بدأوا يستقرون في طنجة، وتزايد توافدهم عندما بدأت جاليات أوربيات أخرى تفد على المدينة خصوصا الإيطاليين. وهكذا أصبح الواقع الأوربي الجديد مفروضا على مغاربة طنجة، وتبخر الخوف من الإصابة بالأمراض المعدية التي كانت منتشرة فعلا بكثرة في المغرب.
مع توافد الجاليات الأوربية، بدأ بعض الأطباء في الاستقرار أيضا في طنجة، وفتحوا في البدايات عيادات طبية داخل المنازل التي اكتروها أو قاموا بشرائها، خصوصا منها المبنية على الطراز الأوربي. وكان جل ضيوفهم من الجالية الأوربية، ثم لاحقا من المغاربة.
بالإضافة إلى هذا، فإن بعض الأثرياء الأوربيين وأيضا الدبلوماسيين منهم، تعرضوا لأمراض معدية في أوربا وجاؤوا به إلى المغرب وتماثلوا للشفاء هنا بينما توفي أقاربهم في أوربا، خصوصا الإسبان منهم.
فالجالية الإسبانية في مدينة طنجة، رغم القرب الجغرافي الكبير، إلا أنها لا تزال تحتاج إلى كثير من التحقيق التاريخي للوقوف عند أسرارها وتشابك العلاقات الاجتماعية لأصحابها مع المغاربة.
عبر دبلوماسي إسباني كان يعمل في القنصلية الإسبانية بطنجة سنة 1905 مضيق جبل طارق لكنه كان مصابا بالكوليرا. وحسب المعلومات المتوفرة فإن الإسبان وقتها رجحوا أن يكون قد أصيب بها على متن السفينة التي كانت تقل جنسيات كثيرة. وبطبيعة الحال، فقد تم تغليب كفة أن يكون قد حصل على العدوى من المغرب لأنه كان يخالط المغاربة بحكم عمله في مكتب القنصلية وأيضا بفضل علاقاته الواسعة مع أعيان مدينة طنجة وأثريائها الكبار.
لكن المرجح أن يكون قد أصيب بالعدوى أثناء عبوره، لأنه عانى كثيرا مع المرض بمجرد وصوله إلى المغرب، إلى درجة أن موظفي القنصلية كانوا يتجنبون مخالطته وأمر بالبقاء في بيته. والصاعق أنه توصل برسالة بريدية من والدته تؤكد له فيها أن والده الذي كان معه في جولة بالريف الإسباني، توفي بسبب الحمى الشديدة والهلوسة، وهو دليل على أن الموظف أصيب بالعدوى في أوربا وليس في المغرب. كان مربكا تزامن إصابته مع انتشار مرض الكوليرا في المغرب خلال ذلك التاريخ. لذلك كانت القنصلية الإسبانية ترمي كرة النار إلى صف المغرب وتحمله مسؤولية إصابة موظفها بالمرض.
وهذه القصة تطرقت لها «التايمز» حيث ذكرت أن الموظف الإسباني أصيب بالعدوى في بلاده وحملها إلى المغرب لكنه تماثل للشفاء بفضل عزله طبيا في إقامة خاصة لعب فيها مناخ المغرب دورا كبيرا في تماثله للشفاء في حين توفي والده في إسبانيا رغم تردده على المستشفيات.
وهذه الإشارة، ليست الوحيدة التي تطرقت لدور دور الرعاية والتطبيب بالمغرب، والتي كانت محلية تماما، وبفضلها تماثل أجانب كثر للشفاء من أمراض مُعدية بالمغرب.
ومن مميزات هذه الدور، أنها كانت تُبنى في مرتفعات تطل إما على البحر، أو بين الجبال، خصوصا في منطقة الأطلس، وتكون معرضة للتهوية وأشعة الشمس القوية.

تقارير أجنبية وصفت أجدادنا بمُحبي الدواء
بقدر ما تحمله هذه القصة من طرافة، إلا أنها كانت تعري الواقع الصحي في المغرب سنة 1909. فصاحبها ليس سوى الصحافي البريطاني لاورنس هاريس الذي كتب مقالات عن المغرب طيلة سنوات 1909 و1910 وصولا إلى سنة 1912. وفي معرض حديثه عن الآفات الصحية وكيف كان يجتازها المغاربة فقد تفاجأ بمدى تعطش المغاربة للحصول على الدواء. فقد سبق للمغاربة منذ احتكاكهم الأول بالمغرب، تجربة الأدوية القادمة من أوربا، خصوصا في صفوف الأعيان والأثرياء المغاربة الذين كانوا يحصلون على أدوية مستوردة من أصدقائهم الأجانب إلى درجة أصبح معها الدواء الأوربي مرغوبا، رغم التحفظ الكبير الذي كانوا يتعاملون به مع الأجانب. يقول متحدثا عن الورطة التي تسبب له فيها مرافقه المغربي الذي كان مكلفا باصطحابه في عدد من المدن المغربية خلال جولته: «حاول العربي أن يبهر الناس الذين كانوا يستمعون إلى قصصه، ونسج عدة أكاذيب عني وكيف أنني أستطيع شفاء الناس، وكيف اخترته ليكون خادمي لأنه ذكي بشكل خارق. لو أنه يفكر فقط في عاقبة كلامه.
جلسنا للعشاء، أضيئت الغرفة بما تبقى من الشموع، لأننا لم نعد نحتاجها بعد الآن. قام العربي بوضع أزيد من عشرين شمعة في إناء صفيحي، ووضع شموعا أخرى في أرجاء الغرفة. كان منظرا لم يشهده سكان القرية من قبل.
ما إن انتهى العشاء حتى تقاطر إلى الناس بسبب ثرثرة العربي بخصوص قدرتي على شفاء الأمراض وعلاجها. جاءت إلي نساء وأطفال بأمراض حقيقية وأوبئة، ولكي أعالجها جميعا، سيلزمني أن أبقى مستيقظا الليل بأكمله، وأن أتوفر على خبرة طبيب جراح في مستشفى لندن!
الصبيان كانا يستمتعان بالمنظر، يحملان الأوراق دون تمييز ويضعانها على صدر الطاولة. بلغ الأمر ذروته عندما بدأت بدون تدبير، توزيع بعض أدوية السعال. أولئك الذين كانوا متجمهرين بدأوا في السعال متظاهرين بالمرض ليحصلوا على الدواء أيضا، وهو ما خلق نوعا من الضجيج لم أستطع معه سماع نفسي عند الحديث. الأطفال والنساء والشيوخ والبنات، الجميع بدأ في السعال بدون مناسبة، رافعين أيديهم كي يحصلوا على دواء السعال. كان مستحيلا أن يحصل الجميع على الدواء، لأنني كنت أملك القليل مما احتجته في الرحلة، لم تكن مهمتي أن أعالجهم، لكن ما العمل!
قبل أن أحاول منعهم، حلّ العربي المشكل بطريقة مبتكرة. من بين الأدوية التي كنت أتوفر عليها، كانت هناك علبة تحتوي على كبسولات للإسهال، وكل كبسولة تحتوي على جرعتين، وبدأ الوغد يوزعها على الناس، ليشربوها بنهم وكأنهم يأكلون الحلويات.
تلك الواقعة جعلتني أعجّل بمغادرة القرية مع أولى ساعات الصباح الباكر، لم أجرؤ على الانتظار لأرى نتيجة ممارستي الطب».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى