الرئيسية

لأول مرة منذ 2012.. التخلص من كتابة الدولة في التكوين المهني

بنية حكومية أعاقت المستجدات التربوية والتدبيرية التي يعرفها قطاع التعليم

المصطفى مورادي

حمل التعديل الحكومي الموسع الذي شهده المغرب مستجدا هاما لقطاع التربية والتكوين، يتمثل في التخلص من كتابة الدولة في التكوين المهني، والتي كانت أحد ثوابت مختلف الحكومات منذ التحول الذي عرفه المغرب في 2011..، حيث تعاقب على هذه الحقيبة منذ تعيين النسخة الأولى لحكومة عبد الإله بنكيران سنة 2012 أربعة كتاب دولة أو وزراء منتدبين. كلهم «ينتمون» لحزب الحركة الشعبية.
حدث خلق بنية حكومية للتكوين المهني جاء بالموازاة مع خلق ما يعرف بالباكلوريا المهنية، أي أنها بنية ستشرف على عملية إدماج المهن داخل النموذج التربوي المدرسي، بدل أن يكون التدريب والتكوين المهنيان على هامش المدرسة. غير أن خلق كتابة الدولة هذه إلى جانب مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل طرح أكثر من علامة استفهام حول طبيعة العلاقة بين الوزارة والمكتب، حيث بدأت أولى إرهاصات ضعف هذا الاختيار بظهور مشكلات على مستوى التنسيق مع المقاولات والورشات والمزارع التي يفترض أن تتبنى التداريب الميدانية للتلاميذ، والتي تعتبر حجر الزاوية في المنظور الجديد للتكوين المهني. فضلا عن العجز التام في خلق منهاج موحد لكل شعبة من الشعب المستحدثة. لذلك لا تمر امتحانات موحدة (جهوية ووطنية) دون تسجيل مشكلات في مواضيع الامتحانات، كان آخرها السنة الماضية، عندما وجد عشرات التلاميذ أنفسهم عاجزين عن دفع مبالغ مالية مقابل التداريب، ليفاجؤوا بأن تداريبهم التي لم يستفيدوا منها تم وضعها في الامتحانات، لتحصل موجة غضب في بعض مراكز الامتحانات، قبل أن يتم امتصاصها بوضع مواضيع أخرى.
إدماج صعب للتكوين المهني في وزارة التربية
بدأت فكرة إدماج التكوين المهني في قطاع التربية الوطنية منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 2000. وذلك من منطلق تشخيص تم القيام به آنذاك وهو أن عطالة الخريجين دليل على وجود خلل في البنية التربوية ككل..، حيث إن نسق التكوينات لا ينسجم مع حاجيات المجتمع. لكن تم تأجيل هذا الاندماج لعقد ونصف بعد ذلك، وتم الاكتفاء ببيداغوجيا الإدماج التي تعتبر أول محاولة لربط المعرفة المدرسية بالحياة اليومية. ورغم التقدم النسبي الذي حققته هذه البيداغوجيا في المستوى الابتدائي خاصة، على الأقل على مستوى تغيير منظور الفاعلين التربويين لممارساتهم التربوية، إلا أن المعضلة ظلت مطروحة في باقي المستويات. ليتم تأجيل إلحاق التكوين المهني بالتربية الوطنية إلى غاية ظهور ما يعرف بالرؤية الاستراتيجية، التي كانت واضحة في تبني هذا الدمج، ومعه تم تبني العديد من المفاهيم، من قبيل التكوين بالتناوب. لذلك ستحمل السنة نفسها لظهور الرؤية تبني الحكومة ما سيعرف بالمسالك المهنية في مستوى التعليم الثانوي سنة 2015..، حيث صدرت العديد من المذكرات الوزارية المنظمة لهذه المسالك الجديدة، تحدد طبيعة هذا التكوين ومسالكه، نظام الدراسة وآفاقها، مجزوءاته ومواده الدراسية، وتقنيات التوجيه ومعاييره، وأيضا مرجعيات التقويم. لتبدأ مرة جديدة سيتم فيها تنفيذ تصور جديد يقطع مع مرحلة كان فيها التكوين المهني اختيارا للمتعثرين والمنقطعين عن الدراسة العادية..، حيث كان المتعثرون في السلك الإعدادي يلجون التكوين المهني للاستفادة من تكوينات في بعض الصناعات والخدمات، في حين كان المنقطعون عن التعليم الابتدائي يستفيدون من التكوين في الصنع التقليدية. المشكلة الأولى التي واجهت كتابة الدولة في التكوين المهني، هي العلاقة مع الورشات والمقاولات والمزارع، الأمر الذي دفع الوزارة الوصية إلى التوقيع على عدة شراكات مع أصحاب المؤسسات المهنية التي ستستقبل التلاميذ للتداريب، وهذا في الحقيقة هو أقصى ما يمكن لكتابة الدولة القيام به. إلى جانب هذا ظلت مؤسسات التكوين المهني التابعة للمكتب الوطني بعيدة عن سلطة الوزارة الوصية، كما أن أغلبية الشركاء لم يوفوا بوعودهم بخصوص ضمان تداريب جيدة وفي مناخ تربوي تعليمي جيد، فإلى جانب استغلال التلاميذ من طرف أصحاب الورشات والمزارع المحتضنة للتداريب، هناك، أيضا، مشكلة على مستوى عدد الساعات الفعلية للتداريب في الأسبوع.
التكوين المهني أضحى أولوية ملكية
هذه المشكلات ستدفع حكومة العثماني في ما بعد إلى تعيين مدير المكتب الوطني للتكوين المهني كاتبا للدولة، في محاولة لتجسير مؤسسات المكتب من جهة ووزارة التربية الوطنية من جهة أخرى. غير أن هذه التجربة لم تدم إلا أشهرا قليلة عقب إعفاء كاتب الدولة المذكور من ضمن قائمة المسؤولين الذين تم إعفاؤهم عقب الزلزال السياسي في أكتوبر 2017. لتبدأ مرحلة جديدة ظهرت ملامحها بشكل قوي في مختلف الخطابات الملكية، حيث سيصبح التكوين المهني أولوية ملكية، إذ ترأس الملك محمد السادس جلسة عمل في أكتوبر 2018 وذلك انسجاما مع خطاب في السنة نفسها بمناسبة 20 غشت، حيث تم توجيه أوامر واضحة لإعادة هيكلة شعب التكوين المهني، وإحداث جيل جديد من مراكز تكوين وتأهيل الشباب، وإقرار مجلس التوجيه المبكر نحو الشعب المهنية، وتطوير التكوين بالتناوب، وتعلم اللغات وكذا النهوض بدعم إحداث المقاولات من طرف الشباب في مجالات تخصصاتهم. ثم تطوير تكوينات جديدة في القطاعات والمهن الواعدة، مع تأهيل التكوينات في المهن التي تنعت بالكلاسيكية، والتي تبقى المصادر الرئيسية لفرص الشغل بالنسبة للشباب، مثل تلك المرتبطة بقطاعات الصناعة والخدمات، والبناء والأشغال العمومية، والفلاحة والصيد والماء والطاقة والصناعة التقليدية. قبل أن يطلب الملك من الحكومة وضع خطة تتضمن هذه التوجيهات الرئيسية. وبعد مرحلة أخذ ورد، تميزت برفض الملك لبعض الخطط التي عرضت عليه، ظهرت ملامح خطة جديدة ستعرف بـ»مدن المهن»، وهي خطة بين- قطاعين لا تعني فقط وزارة التربية الوطنية ولا تعني فقط مكتب التكوين المهني. وتنص خريطة الطريق التي وافق عليها الملك على أن يتم إحداث على صعيد كل جهات المملكة ما يعرف بـ«مدينة للمهن والكفاءات»، متعددة الأقطاب والتخصصات، هذه المدن ستضم قطاعات وتكوينات مختلفة تستجيب لخصوصيات وإمكانات الجهة المتواجدة بها، والتي تهم المهن المرتبطة بمجالات الأنشطة الداعمة للمنظومة البيئية الاقتصادية التي سيتم إنشاؤها، وكذا مهن المستقبل في المجال الرقمي وترحيل الخدمات.
ظهور مؤسسات جهوية مستقلة سرع بنهاية كتابة الدولة
موازاة مع تعزيز التكوينات في المهن الأساسية والكلاسيكية، سيتم تجهيز هذه المدن ببنيات خاصة، مثل وحدات الإنتاج البيداغوجية ومراكز المحاكاة والفضاءات التكنولوجية، من أجل توفير، بعين المكان، الفضاء المهني التقني والتكنولوجي الضروري لاكتساب المهارات والكفايات اللازمة للممارسة الفعلية للمهن. إن المقاربات البيداغوجية التي تقترحها خارطة الطريق، تعطي أهمية كبرى للتحكم في اللغات الأجنبية، وتنويع الكفاءات، وإعطاء الأولوية لإشراك المهنيين، وذلك بتشجيع التكوين المهني في أماكن العمل عن طريق التمرس والتدرج المهني. فستكون هذه المدن قادرة على استقبال وتطوير جميع البرامج المخصصة للشباب العاملين في القطاع غير المهيكل، بهدف تعزيز مهاراتهم التقنية والعرضانية، خاصة في اللغات، لتمكينهم من الاندماج في القطاع المهيكل في ظروف ملائمة. كما أن التجويد الذي سيتم إدخاله في قطاع التكوين المهني، عن طريق مدن المهن والكفاءات، أصبح خيارا مبنيا على مشروع مهني شخصي، سيتم إرساء آلياته في إطار منظومة مندمجة وناجعة للتوجيه المبكر. وفي ما يتعلق بالحكامة فسيكون لهذه المدن وضع شركات مجهولة الاسم، تابعة للمكتب الوطني للتكوين المهني وإنعاش الشغل، بصفته صاحب المشروع، وستتمتع هذه المدن بمجلس إداري ثلاثي الأقطاب، يضم المهنيين والجهة والدولة. وسيتطلب هذا المشروع كلفة إجمالية بقيمة 3,6 مليارات درهم، من مساهمة الدولة والمكتب الوطني للتكوين المهني وإنعاش الشغل والجهات. أما الجدولة الزمنية للشروع في إنجاز الدراسات التقنية والمعمارية لهذا المشروع، وكذا الدراسات المتعلقة بهندسة التكوين، فقد بدأت منذ لحظة تبني الخطة، كما سيتم البدء في أشغال البناء شهر يناير 2020، في أفق الافتتاح التدريجي للبنيات الجديدة انطلاقا من الدخول المهني 2021. هذه الخطة، وفي تفاصيلها التربوية والتدبيرية، فرضت وضع نهاية لكتابة الدولة في التكوين المهني، خصوصا وأن تبني الوزارة لما يعرف بالمسارات المهنية داخل النظام التربوي، يعني أن الحاجة لهيكل حكومي قائم بذاته أضحت منعدمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى