شوف تشوف

لافيراي

من بين كل الفيديوهات التي تروج في وسائل التراسل الفوري أثار انتباهي واحد لسعد الدين العثماني رئيس الحكومة وهو يتجول داخل محل ديال لافيراي بكمامته السوداء التي يضعها تحت ذقنه عوض أن يضعها فوق أنفه وفمه.
ماذا يصنع رئيس الحكومة في محل للمتلاشيات بمفرده؟ وأية سخرة هذه التي كان لزامًا على رئيس الحكومة أن يتنقل برجليه لجلبها؟
هل ذهب ليشتري جوان كيلاص مستعمل؟ أم ذهب لكي يبحث عن جوانط بون أوكازيون؟
كل هذه الأشياء كان يمكن أن يرسل أحد مستخدميه لشرائها، فلماذا أصر على الذهاب بنفسه؟ أم أنه كان لديه موعد خاص وأراد أن يكون في لافيراي، من يدري.
لا يقدم رئيس الحكومة أي معلومة عن تنقله الغريب ذاك، وحتى عندما تتابع صفحة رئيس الحكومة على الفيسبوك أو حسابه على تويتر لا تكاد تعثر يوميا سوى على إحصائيات المصابين والمتعافين والمتوفين بسبب فيروس كورونا، وهي الأخبار التي يمكن للجميع العثور عليها في موقع وزارة الصحة. لكأن صفحة رئيس الحكومة أصبحت صفحة وفيات مثل أية صفحة وفيات في الصحف اليومية.
منذ اندلاع الجائحة ورئيس الحكومة يجتهد لكي يظهر للرأي العام أنه على الهامش ولا سلطة لديه على لجنة القيادة الوطنية التي تولت الأمر، وأن الاستراتيجيات الخاصة برفع حالة الطوارئ الخاصة بكل قطاع تم إنجازها بعيدًا عن ديوانه.
ولولا أن مصطفى الرميد وزير حقوق الإنسان خرج لكي يقول إن العثماني يتحمل مسؤولية قرار الإعلان عن إغلاق ثماني مدن وما ترتب عن ذلك من فوضى وحوادث سير وقتلى لاستمر رئيس الحكومة في تملصه وتهربه من المسؤولية، وهي رياضة وطنية يمارسها السياسيون بشكل كبير عندنا.
ولعل القرار الذي يستغرب له الجميع هو كيف يمنح رئيس الحكومة عطلة للوزراء في هذه الظرفية الصعبة التي تجتازها البلاد، في وقت يتم فيه استدعاء جميع الأطر الطبية للعمل بمن فيهم الذين أخذوا عطلهم.
وعندما نحصي وزراء الحكومة نجد أن عددهم 24 وزيرًا لكن عندما نبحث عن من يوجد اليوم في واجهة المعركة لا نكاد نعثر على أكثر من سبعة وزراء بالكاد، أما البقية ففي عطلة مفتوحة منذ بداية الجائحة.
ومن مكر الصدف أن هؤلاء الوزراء السبعة: المالية، الداخلية، الخارجية، الفلاحة، التعليم، التجارة والصناعة، الصحة، ليسوا منتوجا حزبيا اتخذ من السياسة مصدر عيش مثل بقية أغلب الوزراء الذين لم يشتغلوا بحياتهم سوى بالسياسة، والذين حتى عندما يتقاعدون يحصلون على معاش منها.
يتعلق الأمر بكوادر تقنوقراطية اقتضت الضرورة السياسية أن يلجوا بعض الأحزاب ويصبغوا أنفسهم بألوانها لأن هذه الأحزاب وصلت مرحلة متقدمة من سن اليأس بحيث لم تعد قادرة على إنجاب النخب، وكل ما أصبحت قادرة عليه هو إعادة تدوير النفايات السياسية التي لديها وتقديمها ضمن مقترحاتها للاستوزار كلما طلب منها ذلك، ولذلك كان ضروريا تلقيم هذه الأحزاب ببعض الأغصان الجديدة، فمنها «اللي صدق»، ومنها «اللي لوى».
والواقع أنه لم ينل صنف من المجتمع من جلد وتقريع أكثر ما كان يتعرض له التقنوقراط، حتى كدنا نقتنع أن الكوادر غير الحزبية الموجود في الحكومة والإدارة لا تعدو أن تكون كائنات طفيلية تتغذى على ما ينتجه السياسي والحزبي من سياسات عمومية ومصادر للثروة.
ولولا جائحة كورونا التي عرت المستور لما انتبهنا إلى حجم الكائنات السياسية التي لدينا في الحكومة والبرلمان والتي لا تنتج سوى الشعارات ولا تستطيع العيش خارج مستنقع الشعبوية وإهدار الزمن السياسي الثمين في تصفيات الحسابات السياسوية.
ولعله من حسن حظنا أن الوباء الذي اقتحم بلادنا وجد كل المؤسسات الحساسة بيد شخصيات تقنوقراطية لم تنتجها الأحزاب ولم ترضع من لبن الاتكالية والفشل، وإلا كانت ستكون النتيجة كارثية للغاية، ولكان المصير لا قدر الله مجهولا.
علينا أن نحمد الله أن الشرايين التي يتنفس بها قلب المغرب من الأمن ورجال السلطة والقضاء والصحة والاقتصاد والضرائب والصناعة والتجارة والتعليم والفلاحة وبنك المغرب تدبرها شخصيات غير متحزبة أو منفلتة من ثقل الممارسات الحزبية الضيقة.
وبدون شك لو خير المغاربة خلال هذا الوضع الحالي الذي يهدد وجودنا الجماعي، بين تدبير الكفاءات التقنوقراطية والقادة الحزبيين لكان الخيار الأول هو المفضل، فكل المغاربة أصيبوا بتخمة حادة بسبب فشل التدبير الحزبي لعقود في الأوضاع العادية والمبني على الترضيات على حساب الكفاءات، وعلى الزبونية والولاءات على حساب القانون، لذلك فعندما يصبح تدبير الشأن العام مجرد ثرثرة أو جعجعة بلا طحين وشعبوية في زمن الرخاء، لا يبقى أمام المغاربة سوى اللجوء والفرار إلى جماعة التقنوقراط في زمن الشدة، لعل وعسى أن يكون الخلاص على أيديهم.لذلك وجدت معظم القرارات التي اتخذها المشرفون على القطاعات التي توجد في الواجهة الأمامية من الحرب ضد الفيروس احتضانا شعبيا وشرعية مجتمعية، رغم بعض النقائص، والغريب في الأمر أن الأحزاب نفسها تحولت إلى أكبر منتج لمادة التنويه والإشادة بكل القرارات المتخذة من طرف من كانوا ينعتونهم بالتقنوقراط عوض القيام بدورها واقتراح بدائل، نقول هذا ليس لأن الوضع يتطلب الإجماع بل لأن قرارات التقنوقراط إلى حدود اليوم كانت واقعية وفعالة وذات بعد اجتماعي ساهم في تجنيب بلدنا اهتزازات أمنية وصحية وكوارث اقتصادية واجتماعية.
واليوم لا يطرح فقط سؤال خواء خرجات رئيس الحكومة في التلفزيون بل يطرح سؤال أعرض منه هو أين اختفى وزراء الحزب الحاكم؟ أين يختبئ وزراء قطاع التضامن والأسرة والتشغيل، سيما ونحن في أمس الحاجة إلى هذين القطاعين اليوم في ظل تفشي البطالة والمشاكل الأسرية؟
السيد أمكراز وزير التشغيل يحضر بجسده لجنة اليقظة الاقتصادية دون أن يقدم أي إضافة، والسيدة وزيرة التضامن وضعت في قائمة المختفين رغم أن الزمان زمانها وقطاعها من أكثر القطاعات المعنية بهاته الجائحة. أما كاتبة الدولة في الجالية فيبدو أن الفيروس أنساها أنها مسؤولة عن 5 ملايين مغربي يعيشون بالخارج يمدوننا سنويا بـ5000 مليار سنتيم لأداء أجور أمثالها، لم يستطع مئات الآلاف منهم هذا الصيف زيارة بلدهم.
هل فهمتم الآن لماذا ظهر سعد الدين العثماني في محل لافيراي بعدما قال للمغاربة إنه لا يملك أية رؤية أو استراتيجية للمستقبل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى