شوف تشوف

الرئيسية

مؤرخ لم يكتب شيئا عن سيرته الذاتية

أبدى مؤرخ المملكة الراحل عبد الوهاب بن منصور استغرابه، من اقتراح ملتبس، عرضه عليه الجنرال محمد أوفقير، وهما على متن الطائرة الملكية العائدة من نواديبو في اتجاه الدار البيضاء. بلع ريقه بصعوبة وهو ينصت إلى الجنرال المتنفذ الذي راودته فكرة تحويل اتجاه الطائرة.
شيء لا يصدق، لكنه حقيقي. كيف يفكر رجل ثقة الملك الحسن الثاني وقتذاك في مغامرة من هذا النوع، وقد كان إلى جانبه قبل ساعات شاهدا على إبرام اتفاق ثلاثي بين المغرب وموريتانيا والجزائر في حضور الرئيسين هواري بومدين والمختار ولد دادة، يقضي بتنسيق المواقف حيال قضايا إقليمية لم يكن الموقف من النزاع المغربي الإسباني حول الصحراء بعيدا عنها. تساءل مؤرخ المملكة مع نفسه، كما أسر بذلك إلى أحد مساعديه، الدبلوماسي أحمد الهلالي عن خلفيات مشاركة الجنرال في لقاء تلمسان ثم نواديبو، مع أن صلاحياته كوزير للداخلية لا تشمل علاقات المغرب الخارجية.
أدرك الجنرال حرج المؤرخ، فلجأ إلى التخفيف من الصدمة، قائلا: إن تحويل اتجاه طائرة الملك الحسن الثاني ستكون إلى منتجع اصطياف لأخذ قسط من الراحة بعد عناء تلك المباحثات الشاقة التي سينقضها الجزائريون رأسا على عقب في الآتي من الزمن. ثم انزوى إلى ركن على متن الطائرة وسجل وقائع ذلك الحوار الغريب الذي سيضمنه في طبعة لاحقة من دورية «انبعاث أمة» التي كان يشرف عليها وينقل عبرها أدق تفاصيل الأنشطة الملكية، بما فيها وجبات موائد الغذاء والعشاء الرسمية. لكن قربه إلى الديوان الملكي ورصده لكافة الأنشطة الرسمية، سيجعل منه شخصية فريدة في تقصي أحوال الأوضاع السياسية على البلاد.
فالرجل الذي وقع عليه الاختيار ليكون مديرا عاما للإذاعة الوطنية في السنوات الأولى لما بعد الاستقلال، كان يتمتع بمكانة خاصة، أهلته للقيام بأدوار ومشاورات التأمت تحت الظلال. ويعزو عارفوه مصدر تلك الثقة إلى أنه كان حامل رسائل، لا يزيد دوره عن نقل الوقائع كما تجري أمام عينيه، لا يتدخل في تكييفها، إلا في حال اتسمت بالحدة، فينزع إلى التخفيف من لهجتها، ويقدمها بصورة لائقة لا تغضب ولا تحرف الكلام.
مرة كان في طريقه لنقل تمنيات من الملك الحسن الثاني إلى زعيم حزب سياسي معارض، تمتزج الرأي حيال إمكان البدء في مشاورات سياسية، إذ لم يكن الحسن الثاني يطرح مبادرات الانفتاح على المعارضة، إلا حين تتوفر لديه معطيات بأنها ستلقى الترحيب أو التحفظ في أقصى الحالات. كان رفيقه عبد الهادي بوطالب يعرف باختياره القيام بتلك المهمة. سأله بدهاء إن كان يتوقع أن يحالفه النجاح. لكن عبد الوهاب بن منصور فطن للمصيدة، ورد قائلا بأنه منذ سنوات الدراسة لم يجتز أي امتحان غير المزاوجة بين مسؤولياته المهنية والتزاماته العائلية. فالمؤرخ الذي كتب عن القبائل المغربية محصيا أعدادها وتقاليد وطبائع أهلها كان يحذر الانسياق وراء المزالق.
قبل أن يكتشف مبعوثون أسرار الدهاليز وطقوس نقل الرسائل، كان المؤرخ بن منصور يستأذن محاوريه في إخراج ورقة وقلم لتسجيل الوقائع. وبنفس الحرص أقدم على تجربة مميزة في إصدار مجلة تاريخية حفلت بالوثائق التي يحفل بها أرشيف الخزانات، واستفاد من مهمته كمحافظ لضريح محمد الخامس في الانكباب على ترتيب وثائق ومستندات حول تاريخ المغرب، إلا أنه لم يعرض أبدا للمهام الخاصة التي كان يقوم بها، إذ كان يعتبرها من باب مجالس الأمانات التي تدفن في الصدور.
كان مؤرخا ومستشارا عندما يقتضي الموضوع الاستئناس بأحداث تاريخية. وكان رجل مهمات لا يلفت الانتباه لأدواره، بحكم ارتباطه بصداقات حزبية متعددة نأت به عن الدخول في معارك سياسية. وكثيرا ما نقل رسائل من قياديي حزب الشورى إلى المراجع العليا، كما حمل رسائل إلى زعامات الاستقلال والاتحاد الوطني، وظلت منطقة الشمال الإفريقي المجال الحيوي لتحركات وفاقية، إذ تتلبد الغيوم. روى الفقيه الركراكي الذي لم يكن الحسن الثاني يرد له طلبا أنه خاطبه في موضوع وساطة مع الجزائر، فرد عليه الملك الراحل بأن عليه أن يناقش الاقتراح مع مؤرخ المملكة عبد الوهاب بن منصور.
دهش الفقيه لذلك، وحين خاطب بن منصور في الموضوع أحاله على وقائع تاريخية على مستوى العلاقات بين المغرب والجزائر، تبين بعدها أن ليست كل نوايا الوساطة بريئة. وتحدثت إلى الصديق أحمد الهلالي الذي كان يعمل مساعدا لمؤرخ المملكة في مجلة الوثائق، عن معلومات ترددت على نطاق ضيق مفادها أن أعدادا من سكان تافيلالت يعتزمون التوجه إلى الصحراء، وهم يحملون بذورا لزرع النخيل.
بعد أيام، كان استفسر خلالها عبد الوهاب بن منصور عن صحة تلك الأنباء، أجابه بأن لا شيء يحول دون السكان الرحل في التوجه إلى أي مكان يختارونه. ومحظور عليهم فقط أن يتجاوزوا الحدود الطبيعية للمملكة. أهمية الجواب المليء بالإيحاء أنه صدر بضعة أيام قبل إعلان الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء التي احتفظ بقرارها وموعدها حبيس الصدور. والأكيد أن المؤرخ بن منصور كان يعرف أشياء كثيرة، ولم يكن يفتح فمه إلا عند الضرورة في الأمور التي تخصه، تاركا عالم السياسة لمن يمارسونها. فقد أرخ لفترات من تاريخ البلاد، ولم يكتب شيئا عن سيرته الذاتية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى