الرأي

مات محفوظي.. ثم «سالازار»

يونس جنوحي

الموضوع الشائك للمعتقلين المغاربة السابقين في مخيمات تندوف، ترك جرحا لن يندمل لدى العائلات. والأسبوع الماضي مات صاحب «خبايا 24 سنة لأسير في جحيم تندوف».
محمد محفوظي واحد من الذين توقفت حياتهم باختطاف غير متوقع، نُقل مع آخرين على إثره سرا لكي يصبح عبدا لدى الجزائريين، ويقضي ربع قرن في العمل الشاق والظروف المزرية والمعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية، على يد جلادين وضباط جزائريين، كانوا يترددون على تلك المخيمات لتفقد أحوال هؤلاء المختطفين المغاربة، ويحرصون على أن تتم معاملتهم بتلك الطريقة انتقاما من المغرب.
ولأن الحياة حافلة بالدروس، فإن وفاة محفوظي تزامنت تماما مع وفاة أحد أشهر جلادي المخيمات في تندوف.
يتعلق الأمر بـ«سالازار»، ولعل كتابة اسمه وحده هنا ستحيي ذكريات سيئة في نفوس من أعرفهم من ضيوف المخيمات، الذين أشرف هذا الجلاد على «إكرام» وفادتهم هناك.
«سالازار» هو الاسم المستعار والكنية التي عرف بها المواطن الجزائري محمد سالم السنوسي. رجل هادئ، منظره لا يثير الريبة. قميص واسع وسروال من ذلك الذي يرتديه المواطنون الصالحون في الإدارات، واللذين لا يعبران عن أي انتماء طبقي ولا ثقافي، نظارات طبية ونظرات تائهة، لكنها تحمل خلفها الكثير من الأسرار.
تداول بعض الناشطين الحقوقيين في الصحراء صورة قديمة لـ«سالازار» تعود إلى سنوات السبعينيات، يبدو خلالها شابا بسيطا مفعما بالحياة، يحمل في يده آلة عزف، وكأنه عضو في فرقة موسيقية. ربما كانت تلك الصورة في حياته السابقة، قبل أن يتعرف على المخيمات. المعلومات التي حاولنا جمعها عنه تقول إنه كان يعيش حياة طبيعية جدا، قبل أن يقع عليه الاختيار في الإدارة لكي يلتحق بمهمة مساعدة قوات البوليساريو، وهناك أصبح يتردد على مخيمات تندوف ويكلف بكتابة التقارير، ثم لا أحد عرف بعد ذلك كيف أبدع في صنوف التعذيب وإهانة كرامة المحتجزين المغاربة هناك.
قبل قصة محفوظي رحمه الله، عرفت قصة السالمي، أحد الناجين من جحيم تندوف. هذا الرجل الذي فقد أسنانه وشعره وتركهما في المخيم الذي دخله شابا في الثلاثين وغادره كهلا في الخمسين، بجروح غائرة وأمراض مزمنة، يقسم بالأيمان أنه كان يتناول طعامه لربع قرن كامل في «برويطة» كان ينقل بها التراب في المخيم طيلة اليوم. وعندما يحين وقت الغذاء يصبون للعمال نصيبهم من القطاني في العربة نفسها التي ينقلون بها التراب. ويعاقبون لأسابيع بمنعهم من شرب الماء البارد، وأحيانا يصبح العذاب مضاعفا ويُجبرونهم على العمل تحت شمس حارقة تتجاوز حرارتها 45 درجة مئوية في الظل.
هذا دون الحديث عن جلسات التعذيب والعقاب غير المبرر، التي يتعرض لها المحتجزون هناك على يد موظفين جزائريين، كلما زار المخيم بعثة من الصليب الأحمر.
وأطباء هذه المنظمة العالمية وحقوقيوها هم أول من انتبه إلى وجود كارثة إنسانية هناك، في وقت كان فيه المغرب يشير إلى اختفاء مواطنين مغاربة في منطقة الصحراء على الحدود مع الجزائر، وظلت هذه الأخيرة تُنكر وجود حالات اختطاف إلى أن فضح الصليب الأحمر هذا الأمر.
رحم الله محفوظي الذي كان يكابد لنشر مذكراته في المكتبات، ويتفقد صورته التي يبدو فيها حزينا، رغم أنه كان في قمة سعادته عندما التقطها ذات خريف سابق. وربما كان سعيدا اليوم وهو يطالع خبر وفاة «سالازار»، في الأسبوع نفسه الذي ودع هو الحياة، وكأن ملفهما أحيل على السماء في اليوم ذاته للبت فيه، في محكمة لا تعرف لا درجات تقاض ولا أحكاما بعدم الاختصاص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى