الرأي

ماض واضح كما الحقيقة

اختلطت الأمور كثيرا الآن. صار مشهدنا بالحياة العامة ملتبسا. ومنه التباس الواقع الثقافي. لم يعد المثقفون والكتاب مؤثرين. لذلك مهما قلنا عن سنوات الرصاص من كلمات النقد، ومهما حاولنا التبرم مما حدث فيها، إلا أن لها ميزات لا يمكن التغاضي عنها. ميزات من قبيل وضوح الرؤية في المغرب. حيث المخزن، برجاله وتنظيماته، في مقابل اليسار. ولا ثالث. ففي مقال الجمعيات الثقافية الرسمية التي يتم تمويلها دون حساب من المال العام، كانت لليسار أيضا جمعياته ونواديه التي يتم تمويلها من تبرعات المناضلين. حينها لم يكن بالإمكان التغاضي عن حقيقة واضحة، هي وجود مشروعين مجتمعيين على طرفي نقيض. مشروع مجتمعي يمكن القول إنه محافظ، يعتمد مرجعيات محافظة منتقاة بعناية من التراث الفقهي الإسلامي، الذي يجعل الخوض في أمور السياسة والحكم خطا أحمر. والدليل على ذلك، هو الدعم السخي الذي كانت تلقاه الوهابية وفقهاؤها هنا. بل وحتى حركات دعوية لها نفس المرجعية، كحركة التبليغ السلفية ذات الجذور الباكستانية، بسبب تطابق موقفهما من أمور الحاكم والحكم. وما زلنا نتذكر حتى الآن، أنه في الوقت الذي كانت الأجهزة الأمنية تراقب أنفاس الشباب المنتمين للشبيبة الإسلامية، بسبب مواقفها السياسية الرافضة للنظام، كانت الدولة تيسر لقاء السلفيين الوهابيين بالمواطنين. فنتذكر هنا على وجه الخصوص أن التعبئة للحرب الأفغانية ضد السوفيات، كانت تتم علانية في المساجد.
إضافة إلى مشروع مجتمعي آخر، يعلن انتماءه لمرجعية كونية لحقوق الإنسان، مشروع مجتمعي يتبنى مقولات الدولة الحديثة، من مواطنة وفصل بين السلط وديمقراطية وعدالة اجتماعية وغيرها.
من هنا، كان كل متعلم، له فهم بسيط للواقع المحيط به، يساريا بالضرورة، حتى وهو لم يقرأ كتابا مؤسسا لفلسفة اليسار. يكفي أن ينتقد الريع والفساد وتسلط رجال السلطة والتوزيع غير العادل للثروات وغيرها من المفاسد، ليجد نفسه يساريا بطريقة عفوية. لذلك كان مجرد بيان نقابي أو حزبي أو مقال في جريدة، مهما كانت صغيرة، في المغرب وخارجه، كان له مفعول سحري على عموم الناس. والأجيال التي عاصرت زمن «وزارة الداخلية والإعلام» تتذكر جيدا، خطورة أن يقرأ مواطن مغربي جريدة يسارية أمام الملأ. وتتذكر أن أصحاب الأكشاك يقدمون تقارير يومية عن الذين «يتعاطون» لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» مثلا. وكان كل متقدم لأي وظيفة عمومية، وخاصة الوظائف التي لها علاقة مباشرة بالمخزن، كالوظائف الأمنية والسلطة الترابية والمهن العسكرية وباقي القطاعات التي كانت الدولة تعتبرها آنذاك استراتيجية، كان حظه في الحصول على هذه الوظيفة متوقفا على خلو عائلته، القريبة والبعيدة، من شخص محسوب على اليسار. فكم من شاب تم طرده من هذه الوظائف لمجرد أن خاله أو عمه أو صهره محسوب على اليسار.
داخل هذا المناخ، كان الوضوح سيد الموقف. أما الآن، فنجد أن الدولة هي السباقة لتبني مفاهيم مأخوذة حرفيا من المواثيق الدولية. ونجد ملك البلاد يدعو النقابات والأحزاب مرارا إلى دمقرطة أجهزتها، والتحلي بالواقعية والنزاهة في خطاباتها ومواقفها. وفي المقابل نجد أن أكثر التنظيمات استبدادا ورفضا للاختلاف هي التنظيمات التي كانت تطالب بالديمقراطية: قل للزمن ارجع يا زمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى