شوف تشوف

الرئيسية

ما حجب عنك من الغيوب

الله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد، فهو نور السموات والأرض، وخالق السموات والأرض، وقيوم السموات والأرض، ورغم ذلك قد يتساءل أحدهم: لماذا هو محجوب عنا؟
ولأن الإنسان عدو ما يجهل، كما قيل ويقال اليوم مع الأسف، فإني أطمح إلى أن يصير يوماً ما صديقاً لما لا يعرفه، بمعنى أن يربط علاقات صداقة معرفية وعلمية مع المجهول. هذا المجهول الذي سيمزقنا إلى قطع صغيرة وكبيرة إن لم نقم بربط علاقة صداقة معه شبيهة بعلاقة الصداقة بين الفلاسفة والحقيقة.
ثم لو كان المجهول كذلك لفهمنا أن الله تعالى ليس محجوباً، بل نحن المحجوبون بأنفسنا عن رؤيته، وفي هذا قال الحكيم ابن عطاء الله السكندري رحمه الله ت709هـ، «تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب خير لك من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب». وفي شرح هذه الحكمة قال الفقيه العلامة أحمد زروق الفاسي ت899هـ، العيوب جمع عيب، وهو ما أوجب نقصاً في من نسب إليه معصية أو غيرها جارياً كان في الأفعال أو في الأخلاق أو في الآداب، متعلقاً بالله أو بعباده، ثم هي على قسمين: ظاهرة جلية، وباطنة خفية، فالنظر في الجلية، وإزالتها سهل قريب وإزالة الخفية والنظر فيها مشكل صعب.
وقد مر منها جملة كالاعتماد على العمل وإرادة غير ما أقيم فيه العبد، والتدبير مع الله، والاستعجال في الدعاء، والتشكيك في الوعد، والاعتراض عند فوت المراد، وفقد الإخلاص وحب الشهوات. وإيثار الخلطة، وانطباع الأكوان في مرآة القلب وتعلقه بالشهوات واسترساله مع الغفلة، وقلة المبالاة بالهفوة، والاحتجاب عن الحق برؤية الأكوان، وإرادة غير حكم الوقت، وإحالة العمل على الفراغ، وطلب حالة غير التي أنت عليها، والوقوف عندما يبدو من كشف ونحوه، والطلب منه، والطلب من غيره ولغيره، وترقب الفراغ، ورؤية صفو الدنيا، وطلب الأشياء بنفس الرجوع لغير الله في البلايا، إلى غير ذلك مما دخل في طي ما ذكر.
والغيوب هي جمع غيب، أي ما استتر عن الخلق، وينقسم إلى حسي ومعنوي، وشأن النفس إهمال الغيوب – لا تفكر فيها، لذلك نجد العقل المادي اليوم لا يؤمن إلا بما يتحقق بالتجربة وما سوى ذلك فوهم في وهم.. وهذا ضرب من الجنون إن لم يكن أكبر جنون، ألا نؤمن بأن هناك إدراكات أو مواضع لا يمكن أن تدرك على الأقل بعقل اليوم؟ لكن بعد حظ يسير من التقدر العلمي يمكن أن نكتشفها، كما هو حال التقدم العلمي، فلا يتقدر التاريخ إلا بتصحيح أخطاء الماضي، أو كما يقول الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار: «تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم». لكن الاهتمام بالغيوب قد يجرّ إلى العطب والضلال، بينما الاشتغال بالعيوب هو المطلوب. وقد قال الحكماء: «الاستقامة خير من ألف كرامة».
لذلك يقول ابن عطاء الله السكندري: «الحق ليس بمحجوب وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه». والحجاب هنا حجاب بصر وبصيرة في الآن نفسه؛ فحجاب البصر، كما يقول أحمد زروق الفاسي، عيبك الأصلي الذي هو النقص والفناء ولا زوال لهما إلا في الأخرى، فلا رؤية إلا هناك كما جاء به الخبر عن الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيبك العارض، فإذا زال كشفت لك الحقيقة.
قال ابن عطاء الله السكندري في «لطائف المنن»: «وإنما حجاب الغيوب وجود العيوب به، فالتطهر من العيب يفتح باب الغيب، ولا تكن ممن يطالب الله لنفسه ولا يطالب نفسه لربه، فذلك حال الجاهلين الذين لم يفقهوا عن الله، ولا واجههم المدد من الله، والمؤمن ليس كذلك، بل المؤمن من يطالب نفسه لربه ولا يطالب ربه لنفسه، فإن توقف عليه الحال استبطأ أدبه ولا يستبطئ مطلبه». انتهى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى