شوف تشوف

الرأي

مغريات دستورية في تأهيل المنتخبين

سألني زعيم «الاتحاد الدستوري» الراحل المعطي بوعبيد، عمن يكون شخص أصر على أن يكون إلى جانبه لالتقاط أكثر من صورة، على هامش أول لقاء لمنتخبي الحزب إلى برلمان العام 1984. كان يحس ببعض الحرج لأنه لم يسبق أن تعرف عليه من قبل، وبدا ذلك الرجل أكثر إلحاحا على أن يكون في مقدمة الحضور.
التفت إلي الوزير عبد اللطيف السملالي أنقل إليه الاستفسار، وقد كان مهتما بالمسائل التنظيمية الحزبية، فرد ببداهة: «إنه نائب برلماني منتخب». بحدس لا يخطئ تلقف بوعبيد الجواب، وقال: «لعله من النوع الذي أريد حشره في القافلة قبل الانطلاق». وبعد فترة سمعته يردد في اجتماع مصغر: «لقد حان الوقت لنعاود قراءة مشاريع الدساتير الأولى التي عرفها المغرب في مطلع القرن العشرين». وكانت الإشارة صريحة إلى نص يقول في باب شروط الولاية بمنتدى الشورى الذي يقارب الولاية النيابية: «أن يكون مشهودا له بين قومه بحسن السلوك والاستقامة والنزاهة، محترما من كل عارفيه». كما يشترط أن يكون «عارفا باللغة العربية قراءة وكتابة حق المعرفة».
فقد تبين أن الرجل المعني لم يكن يعرف القراءة والكتابة. والأكيد أنه لم يكن الأول أو الأخير، ذلك أن اكتساب ثقة الناخبين لا تفرض هذا الشرط، وإن ذهبت إجراءات إلى رهن ملفات الترشيح بمؤهلات معرفية محدودة الأثر. وحظر أول مشروع دستور التمييز بين المغاربة، إذ يؤكد في أحد بنوده على أن لقب المغربي «يطلق على كل واحد من أبناء الدولة الشريفة، سواء كان مسلما أو غير مسلم»، ويحق له أن يتمتع بحريته الشخصية شرط «ألا يضر غيره، ولا يمس حرية غيره»، بل إن مفهوم الحرية كان خطا قدما لضمان الحقوق المدنية التي جرى التعبير عنها أن الحرية الشخصية «تقوم بأن يعمل كل واحد ما يشاء، ويتكلم بما يشاء ويكتب ما يشاء، مع مراعاة الآداب العمومية».
كم كانت التجربة رائدة في وقتها، حتى أن المشروع عرض إلى تنظيم شؤون الدولة والمالية العامة ومجالات فرض الضرائب، إذ ينص على أن الفقراء والعواجز والعميان، والذين لا عمل لهم يتعايشون منه، يعفون من كل تكليف وضريبة على الإطلاق. وكذلك خدام بيوت الله والمساجد والزوايا، والذين يعيشون من الأوقاف». واحتل شرط المعرفة حيزا هاما إذ يرفض المشروع تولية الأميين أي وظيفة من وظائف المخزن. كما ينحو في اتجاه تكريس التوازن بين المجالات، من خلال حظر فرض الضرائب والتكاليف على جهة دون غيرها. «ولا على مدينة دون مدينة، ولا على قبيلة دون قبيلة»، وإنما يجب أن تكون التكاليف عامة على جميع الأمة، في كل نواحي السلطنة في آن واحد. «وتروم بنود المشروع إلى توفير الحصانة عبر توضيح أن كل عضو من أعضاء منتدى الشورى» حر في إظهار آرائه، لا خوف عليه من المخزن ورجاله على الإطلاق»، بل إنه لا يقيد بأمر من الأمور ولا يساء به الظن، ولا يتهم بتهمة، لكونه قال ما شاء أن يقول»، ولو أنه انتقد على الوزير الأكبر وكل الوزراء، «إلا في حال بدا منه ما يخل بنظام المجلس أو يضر بالدولة». وبالقدر ذاته يمنع على طالبي الحماية من الدول شغل الوظائف «ولا يجوز لأحد من أبناء السلطنة المغربية المستفيد من حماية دول من الدول أن يدخل في الوظائف المخزنية».
تحيل معطيات تاريخية على أن السلطان مولاي عبد العزيز الذي كان منفتحا على عصره، حض العلماء ورجالات السياسة على وضع مشاريع دستورية، ومن ذلك وثيقة قائد سلا عبد الله بن محمد بن سعيد الذي صاغ مذكرة مطلبية في شكل وثيقة دستورية، ركزت على تكريس مفاهيم العدل والحرية والاستقامة والمساواة والانفتاح والأخذ بناصية العلم والتطور. ومما جاء فيها أن «اختيار أهل المروءة والدين والأمانة والشجاعة لتولي المناصب والوظائف المخزنية، مع منحهم ما يكفيهم من الأجر، وتوعدهم بالعفو على الجناية».
واقترح في غضون ذلك، قبل ظهور مفاهيم الديمقراطية المحلية، «إحداث مجالس محلية من أهل المعرفة والعلم للإشراف على مصالح الجهات، كالأوقاف والأسعار ومسائل العدالة المخزنية المحلية»، ودعا إلى تفعيل سلطة العدالة، عبر إحداث محكمة عليا إلى جانب السلطان.
من المشاريع أيضا ما نسب إلى الحاج علي زنيبر في مذكرته التي صاغها حول أسس حفظ الاستقلال ومناهضة الاحتلال. وقد عرضت إلى فكرة انتخاب مجالس من الأعيان المتنورين، واستخدام اللسان العربي في دواوين الحكومة، «مع إدخال لغات أجنبية» وفرض ارتداء الزي الوطني على موظفي المخزن وتوحيد نظام الإدارة، وإخضاع كل من يعيش داخل السلطنة إلى القوانين والإجراءات سارية المفعول. كما ركزت في بعدها القضائي والاجتماعي على «منع كل استبداد يقضي بعدم تمتع الجميع بوسائل العدل»، وكذا «منع بيع أي انتفاع، أو إعطاء امتياز به، دون أن تكون للوطن والأمة ثلثاه».
أكتفي بهذا القدر وأترك لأهل الاختصاص مهمة النبش في الحفريات التي كان لهم السبق في كشف النقاب عن توقيتها ومضامينها. وللفاعلين السياسيين ممن يمنحون تزكية الترشيحات للاستحقاقات أن يتدبروا في هذه المضامين التي كانت سابقة في رجاحة ربط المسؤولية بالمحاسبة والكفاءة والنزاهة وتغليب الصالح العام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى