الرئيسيةبانوراماثقافة وفن

من كلمات اليوم العالمي للشعر

إعداد وتقديم: سعيد الباز

مقالات ذات صلة

يتمّ الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 مارس من كلّ سنة، منذ أن أقرت منظمة اليونسكو سنة 1999 هذا اليوم موعدا للاحتفاء بالشعر والشعراء. وتتجلى الأهداف الأساسية لهذه المناسبة، كما أعلنت عن ذلك المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة التابعة للأمم المتحدة، في دعم الشعر، والعودة إلى التقاليد الشفوية للأمسيات الشعرية، وتعزيز تدريس الشعر، وإحياء الحوار بين الشعر والفنون الأخرى مثل المسرح والرقص والموسيقى والرسم وغيرها، كما أن الهدف منه أيضا هو دعم دور النشر الصغيرة ورسم صورة جذابة للشعر في وسائل الإعلام بحيث لا ينظر إلى الشعر بعد ذلك كونه شكلا قديما من أشكال الفن.وتشجع اليونسكو الدول الأعضاء على القيام بدور نشط في الاحتفال باليوم العالمي للشعر، سواء على المستويين المحلي والوطني، وبالمشاركة الإيجابية للجان الوطنية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات المعنية مثل: المدارس والبلديات والمجمعات الشعرية، والمتاحف والرابطات الثقافية، ودور النشر، والسلطات المحلية وغيرها… ومن المعلوم أنّ هذه الفكرة كانت فلسطينية مغربية وتحولت إلى مبادرة لقيت دعما واسعا سمح لها أن تتحقق في ظرف وجيز. من التقاليد المرتبطة بهذه الاحتفالية كتابة كلمات موجّهة من قبل شعراء معينين بهذه المناسبة، أو بمبادرة فردية. من بينها كلمة الشاعرة الإيطالية دوناتيلا بيزوتي Donatella Bisutti صاحبة الكتاب المعروف «الشعر منقذا للحياة» أو الشاعر الكولومبي خوان مانويل روكا Juan Manuel Roca في مدح الشعر وإطرائه.

دوناتيلا بيزوتي.. الشعر منقذا للحياة
هل يستطيع الشعر أن ينقذ الحياة؟ سؤال يتردد صداه في كتاب لي كنت قد عنونته بـ: «الشعر منقذا للحياة» إقرارا لحقيقة أومن بها بإصرار، وهي خصيصة الشعر الإعجازية. أجل، تلك الحقيقة ممكنة شريطة أن نستحضر أن الشعر بهذا المعنى شيء يسكن دواخلنا، إنه جزء منا، يلازمنا منذ البداية، منذ ولادتنا باعتباره إمكانا فطريا لمقاربة حقيقة تختلف في عمقها عما نتعلمه في مسار تقويم سلوك تربوي معوجّ. فالشعر يضعنا أمام ذاك السر الخارق الذي كتب عنه كثيرا الفيلسوف الروماني «لوسيان بلاغا» Lucian Blaga، يضعنا أمام دلالة الواقع العميقة، مانحا معنى للتقاطع المبهم الدائم بين الموت والحياة. الشعر هو الجزء «الخارق» فينا الذي يتوجب علينا اكتشافه أو استعجال اكتشافه اليوم لمقاومة ترسبات انكسارات اليومي. قد يحدث أن يتلاشى شعاع الشعر ومع ذلك نعيشه دون وعي.
في كثير من الأماكن، خاصّة في المجتمعات الغربية، يظهر أنّ العالم اليوم فقد مفتاحه السحري، إذ استبدل به بطاقة مغناطيسية يفتح بها مراكز تجارية ومحلات الموضة ومراكز اللياقة الجسدية، ويلج بها عوالم افتراضية: بطاقة الرخاء والرفاهية والقوة.
إنّ رؤية العالم المعتلة والمزيفة تلك، تمّ نقلها إلى مناطق كثيرة من المعمور. رؤية لم تكتف بتلويث ثقافات عريقة بل سعت إلى تدميرها. إنّها شكل استعماري جديد، خفيّ وأكثر خداعا ممّا كان في الماضي، وهي تستند في نجاحها إلى السلم المالي الدولي لاستغلال الشعوب والبلدان.
ينبغي ألّا نعتبر الشعر بلسما لنفوس مجروحة، أو مهدئا أو مخدرا. ليست رسالة الشعر تهدئتنا أو حملنا إلى عوالم افتراضية. ليس الشعر هروبا أو حلما. إذا كنّا نسعى إلى الهروب والانتشاء، سنجد حولنا ملاذات كثيرة لكنّها خادعة. الشعر يتطلب منّا وعيا أكثر. الشعر يحفزنا ويحثّنا على ألّا نقف عند سطح الأشياء ومظاهرها لأنّ الحقيقة المثلى توجد ما وراء ذلك.
كثيرون يبحثون دون جدوى عن بدائل لسعادة يستعصي إدراكها فينتهون إلى الإخفاق. كثيرون يعيشون في تنافر عبر مجازفة تقودهم إلى الانفصال عن إيقاعات أبدية وعميقة كفيلة بأن تحوّل حياتهم إلى لحن عذب. كثيرون يتملكهم الفزع حين يشعرون بأنّ الحياة والعالم بلا معنى ولا مركز.
للشعر قدرة على حملنا إلى مركز فقدناه، فهو ما يصلنا بالجزء العميق فينا حيث يمكننا أن نعثر على الخيط الذي يربط الإنسان بالكون المحيط به. وبالنزول إلى هذا العمق، سيكون بمقدورنا أن نكتشف قدراتنا التي تتجاوز منطق فكرنا لتلامس الخيال والحدس الإبداعي…
علينا أن نتخلى عن النزعة النفعية التي لا تسعى إلا إلى السيطرة على العالم وذلك بالعلم والتكنولوجيا والهيمنة على الخيرات. للرخاء أهميته، لكنه إن غدا الهدف الوحيد والمهيمن، سيقودنا لا محالة إلى العبث، إلى الجدب الروحي، إلى العدوانية والتدمير على نحو شبيه بانتشاء وهمي ومثير للخدر.

ينهل الشعر من التقاليد الأصيلة والعريقة للغة تجمع كلماتها بين الدلالة والإحساس، لغة لا تروم الانفصال بقدر ما تسعى إلى إعادة بناء عالمنا السيكولوجي بكامله، لغة تقودنا إلى وحدة تذكر بأن الإنسان فرح وألم، فكر وإحساس يتغذى دوما على انسجام خارق.
الشعر يعلمنا هذا الانسجام لنمارسه.
الشعر يضع الحكمة مكان العلم.
من هذا المنظور، أظن أن الشعر قادر على إنقاذ حياتنا بوضعه حدا للغريزة العمياء والبائسة لهروب ناتج عن الانفصال والاغتراب، وعن إخفاقنا في خلق انسجام بين حاجات الجسد والفكر. وبسعي الشعر دوما إلى مقاربة الحقيقة، يمنحنا مفتاحا، به نكتشف في الإنسان بعد السمو الذي عرفه القدماء، وهو السمو الذي ما فتئت تحطّ من قيمته حياتنا المعاصرة.
صديقاتي، أصدقائي… لنجعل من الشعر رسالة ننزل بها إلى العميق فينا لننصت للمعنى ونصونه في مواجهة انكسارات اليومي.
(ت. الرداد شراطي)

خوان مانويل روكا.. في مديح الشعر
يتحركُ الشّعر في أراضي الريبة، وهو يطوّقُ جميع الأجناس الفنية حدَّ إمكان الإشارة إلى أنه في حال عدم وجود الشعر، من الصعب أن يكون ثمة وجود للفن، بدءًا من التشكيل والفن السينمائي وحتى السرد وفنون الدراما. والواقع أن هذه الطريقة الشاذة في التفكير، والتي لم يكن ينبغي أبدا أن تنفصل بشكل جذري عن الفلسفة، يبدو أنّها تحدث أكثر ممّا تُكْتب. إيمي سيزار، الشاعر الذي كان يشعر بأنه يُعذّب ويُهان مع كل رجلٍ أو امرأة تتعرّض للتعذيب أو الإهانة، كان يتحمّلُ ذاته كضحية وهو يُفكّر في أننا نشكّل جزءًا من بعضنا البعض، وأننا لا نعيش في عالم مجرّد، معزول عن الواقع. ومن غير المحتمل أنْ يكون ثمة فكر فلسفي لا يتساءلُ عما يحدثُ لنا عبر الآخرين، في فرحهم وقلقهم. والشيء ذاته ينطبق على الشعر الأرقى. إن التفكير في أن هنالك آلافًا من النجوم الميتة في السماء لا تزال تضيئنا يقودنا إلى التفكير في مئات الشعراء الذين ماتوا والذين ما زالوا يتابعوننا، بالطريقة ذاتها، وهم يضيئوننا.
الخيال الوحيد هدّامٌ ويكاد يتحوّلُ، بدون سبق إصرار، إلى نوعٍ من المقاومة الروحية. الآن، من المعروف جيدًا، ومثلما يقول ثيسار فرنانديث مورينو، أنه إذْ لم يكُنْ من الممكن شعْرنة السّياسة، فقد تمّ تسْييسُ الشّعر. وهناك أمثلة لشُعراء كبار يُعبّرون عن أنفسهم سياسيًا في أبياتهم دون أن يبْتعدوا عن صرامة الجمالية العالية، مثل ناظم حكمت، ورونيه شار، وسيزار باييخو، ويانيس ريتسوس، ونزار قباني، وكارل ساندبيرغ، وسيب مانديلستام، وبرتولد بريشت، وبول سيلان، والكثير من الشعراء الآخرين الذين لا يتّسع لهم المجال في هذه الصفحات. وإذا قمت بإعداد هذه القائمة الموجزة، فلأنه عموما، وبقصدٍ سيئ من المتصنّعين، لا يتم تذكر إلا الشّعراء السياسيين الرديئين، الذين هم أيضا فيلقٌ، وبذلك الشكل ينهون ويتجنبون مسألة اللانقاء الغنائي الضروري الذي هو أيضًا جزءٌ من الحياة.
أما بالنسبة للقوة التحويلية للكلمة، فقد وجدت أفضلَ مثال لها في سجْنٍ قمت بزيارته في الشيلي، حيث عبر لي سجينٌ عن المديح الأعلى للشعر الذي كنت قد سمعته. هنالك، في مكان يبدو أنه ينفي الحرية منذ البداية، حكى لي أنه في كل ليلة كان يهربُ من زنزانته ويقفز فوق جُدران الجهات الأربعة بينما كان يقرأ قصائد سان خوان دي لا كروث الصوفية.
ربما كان من الأفضل أن يكون هناك شاعر آخر هو الذي يقرأ، لكن تأثير تبدّل المزاج والواقع، كان يمكن أن يكون هو ذاته. لقد جعلني المتهم الشيلي أرتاب في أنّ محاولة تغيير الواقع عبر الشعر هي أشبه بمحاولة إخراج قطارٍ عن سكّته عبر جعل وردة تقطع معبر العجلات… الرجل المحبوس في القفص كان يحلّق فوق الأسوار دون أن يُطبَّقَ عليه قانون الهروب، وذلك بفضل صوت شاعرٍ قديم.
وأعود إلى أرض الريبة. في الشعر، الحقيقة التي يتم التلفظ بها بشكل سيئ تصير بسهولة أكذوبةً، في حين أنّ متخيلا يُصاغ بشكلٍ جيدٍ يمكن أن يصيرَ وإلى الأبد حقيقيًا، وجديرًا بالاحترام مثل تلك الشخصية في «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» والذي لم تكن لديه قبعة حتى لا يكون مُضطرا لخلعِها أمام أيّ كان، حسب الرواية الرائعة التي كتبها غارسيا ماركيز… ولأنه مثل الفلسفة، فأرض الاستكشاف الطبيعي له تكمن في الريبة… في كلِّ حينٍ، عندما يتم الحديث عن فائدة الشعر في وسط طبيعيٍّ عنيفٍ مثل الوسط الذي أنتمي إليه، يتم مرارًا وتكرارًا اللجوءُ إلى طرْح سُؤال من الرومانسية الألمانية: «لماذا الشعر في زمن الحاجة؟». أظن أنه من الأفضل أن نعكِسَ السؤال، وأن نقول: لماذا الشعر في زمن ليس زمن حاجة؟ كحلية للزينة فقط؟ كتكلُّفٍ؟ كمجرد جمالية؟ إذا كان صحيحًا أن الشّعر لا معنى له في وقت الحاجة، فسوف لن يكون قط مكتوبًا، لأن جميع أزمنة الإنسان كانت أزمنة حاجة.
(ت. خالد الريسوني)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى