الرأي

هدايا نيشان حول آل عثمان

صبحي حديدي
لعل أحد أصدقاء الإعلامي اللبناني، نيشان، يبادر فيهديه نسخة من كتاب جديد للصحافي والمؤرخ والأكاديمي البريطاني نويل مالكولم «أعداء نافعون: الإسلام والإمبراطورية العثمانية في الفكر السياسي الغربي، 1450- 1750»؛ إذ قد تفلح فصوله في نقل مزاج الإعلامي إلى منطقة أكثر هدوءا بصدد إطلاق صفة «الخبث» على العثمانيين، كما فعل أخيرا على الهواء مباشرة من شاشة «الجديد». المرء يتفهم أسباب نيشان الشخصية في الرد على إهانة من متفرج متحمس لشخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن طريق إلصاق صفة «الخبث» بأردوغان والعثمانيين والنظام والأتراك، دفعة واحدة. ومع ذلك فإن التفهم شيء، والانزلاق إلى تأثيم أمة بأسرها، ومعها إمبراطورية تسيدت جنوب شرق أوربا وغرب آسيا والمشرق العربي وشمال إفريقيا من القرن الرابع عشر وحتى مطالع القرن العشرين، شيء آخر مختلف تماما؛ لجهة إنصاف التاريخ، أسوة باحترام إرث الشعوب، فضلا عن تحكيم العقل.
وفي كتابه، الذي سبق لي أن عرضت له بإيجاز في هذا العمود تحديدا، يساجل مالكولم بأن العشرات من كبار المفكرين السياسيين في أوربا، كان في عدادهم أمثال مكيافيللي وكامبانيلا وفولتير ومونتسكيو، ممن عاشوا خلال 300 سنة تبدأ من منتصف القرن الخامس عشر؛ اعتنقوا مواقف عالية التفهم لمعادلات حضور الإمبراطورية العثمانية على الساحة الدولية، في مستويات جيو- سياسية وحضارية بدت مدهشة تماما في أزمنتها، إلى درجة أنها استدعت نعت هؤلاء بـ«هواة تركيا». وبين خلاصات مالكولم الحاسمة أنه «خلال العقود الأخيرة من القرن السابع عشر، كان مساجلون متمكنون ضد الإسلام، أمثال لوجوفيكو ماراشي ولانسلوت أديسون وهمفري بريدو، قد أدركوا أنهم مجبرون على تمييز أنفسهم عن عدد من الاختلاقات التي ترسخت على نطاق واسع في الكتابات المبكرة المعادية للإسلام». والدرس الأكبر في كتابه أن الإمبراطورية العثمانية كانت ظاهرة كونية في ميادين مختلفة، والتاريخ لا يجيز البتة وضعها على محك واحد منفرد ومانوي، يجتزئ حصيلتها إلى خير أو شر، تنزيه أو تأثيم، إطراء أو ذم…
ولعل صديق نيشان يتكرم عليه بالمزيد، فيهديه نسخة من كتاب «كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة»، الذي كتبه المؤرخ المصري اللامع خالد فهمي باللغة الإنجليزية وصدر في سنة 1997، ثم نقله شريف يونس إلى العربية وصدر عن «الشروق» المصرية في سنة 2001. ففي هذا العمل الرائد يشدد فهمي على أن إرث محمد علي يقع ضمن السياق العثماني تحديدا، و«لا يمكن فهم سياسات محمد علي وحروبه، حتى مع السلطان، إذا تجاهلنا أنه كان من البداية للنهاية واليا عثمانيا، بل ولا يمكن فهم إصلاحاته خارج سياق قضية إحياء الدولة العثمانية، وإصلاحات السلطان سليم الثالث الذي سبقته»؛ حسب مقدمة المترجم. فهمي نفسه يقول إن كتابه «يشرح ظهور محمد علي لا كـ«مؤسس مصر الحديثة» وإنما كمؤسس «بيت» مثل سائر البيوتات الإقليمية في الدولة العثمانية، شأنه في ذلك شأن بيت العظم أو بيت الأمراء الشهابيين أو بيت الجزار في الشام ولبنان وعكا».
إلى هذا فإن محمد علي الكبير (1769- 1894)، يظل أول (أم أنه آخر؟) الساعين إلى إدخال العرب في شرط الحداثة والثورة الصناعية، رغم أنه ضابط ألباني الأصل. وهو، أيضا وقبلئذ، ذاك الذي هددت مشاريعه الإمبراطورية الباب العالي ذاته، وأقض مضجع القوى الأوربية الكبرى فتوحدت ضده لا كما توحدت في مواجهة قوة إقليمية؛ لأنها في ذلك إنما كانت تتوحد ضد أخطار قيام إمبراطورية مصرية وعربية واسعة تربط النيل بالفرات، وشطآن المتوسط بكثبان نجد وبطاح الحجاز. قبل هذا وذاك، كان محمد علي الكبير بين قلة قليلة، لا تكاد تُعد على أصابع اليد، من الباشوات الذين أعطوا لهذا اللقب الشرقي دلالات أخرى غير تلك التي رسخت في المخيال الغربي: التسلط والفساد والتهتك على أبناء الجلدة، والتبعية والصَغار مع الأجانب الخواجات.
هدية ثالثة قد تخفف من غضبة نيشان، وتعيد إليه رصانة التمييز بين رجل دولة وسياسي مثل أردوغان على مساوئه قبل محاسنه، وبين أمة وإمبراطورية وائتلاف شعوب ولغات (ولست أقصد الخلافة الإسلامية هنا، بل ما نهضت عليه الإمبراطورية العثمانية من تعدد ثقافي وبشري)؛ وأعني كتابات المؤرخ البريطاني اللبناني الأصل ألبيرت حوراني، حول صعود العثمانيين واندثارهم، وخاصة مساهمته الشهيرة «حركة الإصلاح العثماني وسياسة الأعيان» التي تعود إلى عام 1968 (ويثمنها فهمي عاليا، للتنويه). ولقد رأى حوراني أن حركة «التنظيمات» لم تكن «محاولة يائسة فاشلة من قبل المركز العثماني لاستعادة هيبته وسلطته الضائعة»، وإنما استهدفت ضمان صدارة السلطة المركزية والاعتراف في الآن ذاته بحقوق المراكز في دمشق والقاهرة والموصل وغيرها.
صحيح، ختاما، أن نيشان خرج عن طوره، على نحو عصبي اختلط فيه ذم فرد بقدح شعب؛ إلا أنه كان يعبر عن رأي شخصي في نهاية المطاف، وله ما له من حرية، وعليه ما عليه من مسؤولية، ولا يصح استطرادا وأد حقه أو كم فمه. وقد يستحسن، في المقابل، أن يتلقى ذلك الطراز من الهدايا التي تهدئ الخاطر وتشحذ الرؤية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى