الرأي

في زنزانة مانديلا

حسن البصري

جددت جنوب إفريقيا عداءها للمغرب حين وقفت سفيرتها الدائمة في الأمم المتحدة ماثيو جويني في منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، أول أمس، لتقذف حممها وتكشف حجم الألم الذي يسكن بلدها في قضية هي أبعد البلدان عنها.
عادت بي الذاكرة إلى سنة 2013، حين قدر لي أن أزور جنوب إفريقيا. لم أكن حينها مناضلا معارا ولا حقوقيا يرفع شعار «تبا للسود»، ولم أكن مدعوا لحضور أشغال مؤتمر من مئات مؤتمرات جنوب جنوب التي نستيقظ وننام عليها. لكنني كنت كبقية زملائي الصحافيين نطارد خيط دخان اسمه المنتخب الوطني في محفل كروي قاري.
في جوهانسبورغ نصحني عبد السلام حبيب الله رئيس الجمعية المغربية بجنوب إفريقيا واتحاد الجاليات العربية، بزيارة منزل نيلسون مانديلا بمدينة سويتو، التي لا تبعد كثيرا عن مقر إقامتنا في جوهانسبورغ، ومعتقل روبن إيسلند المتاخم لمدينة كيب تاون الذي قضى فيه الزعيم الإفريقي الجزء الأكبر من رحلة اعتقال دامت ثمانية وعشرين سنة، فيما أوصاني مهاجر مغربي آخر بالابتعاد عن السياسة والاكتفاء بزيارة حديقة الحيوانات الوطنية جنوب جوهانسبورغ للقاء أسود وفيلة وفهود تقضي في الأدغال حياة سراح مؤقت.
طاردني المثل القائل «حجة وزيارة» وظل يحرك في دواخلي ما تبقى من فضول صحفي تسدده الكرة تارة نحو الملاعب، وتحيله السياسة على تاريخ بلد رمت به الجغرافيا في قدم القارة السمراء دون أن تباعد بينه وبين التنمية.
وقفنا أمام الزنزانة التي أقام فيها مانديلا مدة طويلة، لكن لكي تدخلها وتعيش خمس دقائق خلف قضبانها، عليك أن تؤدي ثلاثين أورو، تساءلت بسذاجة كيف تحولت الزنزانة إلى معتقل مدر للدخل، فيما عشرات المعتقلات في بلادي أضحت آيلة للسقوط.
لأول مرة أرى في حياتي زوارا للسجن وهم يتسابقون لقضاء لحظات سعيدة في زنزانة طولها متران وعرضها متر واحد، فقد كان طابور الراغبين في الاستمتاع بدقائق تحت الحراسة النظرية طويلا، وكانت كاميرات الهواتف النقالة تؤرخ لحدث الاعتقال السياحي، وعلامات الحبور بادية على محيا المعتقلين.
لم نوقع في السجل الذهبي للزنزانة التاريخية، وحين سألت القائم على المعلمة «العقابية»، رد بنبرة غاضبة: «السجل مخصص للمشاهير وكبار الشخصيات». حينها تبين أن السجن ليس للجدعان بل حتى السجل وانصرفت خوفا من إقامة دائمة في الزنزانة.
في هذا المعتقل الرهيب أصبح الاعتقال بضاعة سياحية يتم ترويجها على نحو جيد، حتى رقم الاعتقال الذي حمله مانديلا في السجن 64-466 أصبح متداولا في حملات مكافحة السيدا وفي جمع التبرعات لفائدة جمعية نيلسون للطفولة، وأصبح رقما هاتفيا لرئيس دولة.
لا تكتمل زيارة جنوب إفريقيا إلا باعتقال طوعي في زنزانة المناضل الكبير، فقد حرص باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأمريكية على زيارة زنزانة مانديلا، و«جرب» كثير من الزعماء حياة الاعتقال لبضع دقائق على سبيل الاستئناس، بل إن السجن الرهيب استقطب آلاف الزوار الذين يمنون النفس بدقائق في أشهر زنزانة في العالم.
غادرنا المعتقل دون أن يغادرنا، وعدنا إلى مدينة دوربان لنستنشق نسمة الكرة، في ملعب يحمل اسم مناضل إفريقي يدعى موزيس مابيدا، هناك عشنا نكبة جديدة مع منتخبنا الذي عجز عن تجاوز فريق مغمور اسمه الرأس الأخضر، حينها طالبنا بإيداع بعض لاعبي هذا المنتخب في زنزانة مانديلا إلى أجل غير مسمى.
بين المغرب وجنوب إفريقيا توتر سياسي، لكن يقابله انفراج في العلاقات الرياضية، رغم أن بريتوريا خذلتنا حين صوتت لفائدة الملف الثلاثي لأمريكا وكندا والمكسيك، إلا أن باتريس موتسيبي الرئيس الجديد للكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم يعترف بأن الفضل في جلوسه على كرسي الكاف يرجع إلى المغرب.
والاعتراف سيد الأدلة، عودوا إلى التاريخ ستقفون على دور الحسن الثاني في دعم كفاح مانديلا ضد الأبارتايد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى