شوف تشوف

الرئيسية

أسر وتلاميذ السنوات الإشهادية متوترون وسعيد أمزازي يطمئن

مصير السنة الدراسية.. استحالة «السنة البيضاء» و«ضبابية» الحلول البديلة لإنقاذها

لا حديث في وسائل التواصل الاجتماعي إلا عن مصير السنة الدراسية الحالية، خصوصا مع غياب أي مؤشر عن قرب انتهاء فترة الطوارئ الصحية التي يعيشها المغرب. وبالرغم من حرص الوزارة على تفنيد كل الشائعات التي يتم الترويج لها، بخصوص سيناريو «السنة البيضاء»، فإن التوتر مايزال مستمرا، خصوصا وأن عشرات الآلاف من التلاميذ يجدون أنفسهم أمام وضع جديد، حيث تشهد هذه الفترة من كل سنة دخول المرشحين لامتحانات الباكلوريا فترة الإعداد، وخاصة اللجوء للساعات الإضافية والتي أضحت عُرفا. وبالرغم من المجهودات الكبيرة التي يبذلها الأساتذة والوزارة لتأمين تمدرس عن بعد، إلا أن التوتر مايزال قائما. الأمر الذي دفع وزير القطاع سعيد أمزازي إلى الحرص على طمأنة هؤلاء بكون سيناريو السنة البيضاء غير مطروح إطلاقا، وأن الامتحانات الإشهادية ماتزال قائمة، وفي الوقت نفسه يتم التفكير في سيناريوهات لم يفصح عنها، مستبعدا أن يتم اعتماد نقط المراقبة المستمرة كما فعلت فرنسا أو اعتماد امتحانات عن بعد.

التلاميذ بين التوتر والاطمئنان
أنهى ملايين التلاميذ المغاربة عشرين يوماً كاملاً من الحَجر الصحي، الذي فرضته السلطات منذ العشرين من مارس المنصرم كإجراء لمواجهة تفشي فيروس كورونا المستجد الذي عادل عدد المصابين به في المملكة، إلى حدود يوم السبت، 1545 حالة مؤكدة. وبالإضافة إلى الخوف من الإصابة، فإن التساؤل حول العودة إلى الفصول الدراسية يؤرق بال هؤلاء، فهم يتساءلون حول ما إذا كانوا سيعودون إلى مدارسهم كما قبل كورونا بحلول الأيام القليلة المقبلة، خصوصاً أن 60 يوما هي الفترة التي تفصلهم عن الامتحانات الموحدة. مع الإشارة هنا إلى أنه من المقرر، وفق قانون المرسوم رقم 2.20.293 بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني، أن ينتهي الحَجر الصحي في 20 أبريل الجاري، لكن من المُرجح أن يجرى التمديد إلى حين السيطرة على الوباء.
هذا الوضع خلف تساؤلات بالجملة حول مصير الامتحانات الإشهادية وسط رواج أخبار عن إمكانية اعتماد الحلول التي ذهبت إليها فرنسا من إلغاء الامتحان النهائي لشهادة البكالوريا بسبب تداعيات فيروس كورونا والحجر الصحي الذي يعيشه الفرنسيون، حيث أعلنت الوزارة الوصية على القطاع التعليمي أنه سيتم اعتماد النقاط التي حصل عليها التلاميذ خلال اختبارات السنة الدراسية. وطالب أولياء التلاميذ وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي بضرورة حسم القرار لتتضح الصورة، خصوصا أن التواريخ المعتادة للامتحانات لا يفصل عنها أقل من شهرين، وسط غياب سيناريوهات تقول بالوصول إلى علاج للفيروس.
وكشف سعيد أمزازي، وزير التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي، الناطق الرسمي باسم الحكومة، ليلة الجمعة، على القناة الثانية، أنه لا سنة بيضاء خلال الموسم الدراسي الحالي، مشددا على أن الامتحانات الإشهادية ستظل قائمة. وفي هذا الصدد، قال أمزازي إن المؤسسات التعليمية وصلت حوالي «75 في المائة من المقرر المبرمج في السنة منذ شتنبر الماضي إلى الآن»، مشيرا إلى أنه «لا يمكن الحديث عن سنة بيضاء، وسيتم استدراك هذه الفترة بعد نهاية الحجر».
وأكد المسؤول الحكومي ذاته أنه مباشرة بعد نهاية فترة الحجر الصحي سيتم إطلاق برامج الدعم والتقوية، مبرزا أن «الامتحانات ستظل قائمة، وبرمجتها ستخضع لمدة الحجر الصحي، حيث سيتم أخذ هذه الفترة بعين الاعتبار وبالتالي الإعلان عنها». ومن جهة ثانية، استبعد أمزازي أن يتم اعتماد الامتحان أو الفروض عن بعد، مؤكدا أن «فروض المراقبة المستمرة ستتم مباشرة بعد الحجر الصحي حيث ستوضع برمجة لجميع التلاميذ ومواكبتهم للإعداد للامتحانات».
تطمينات الوزير تبقى هامة، لكن في ظل عدم انخراط بعض الأسر، تبقى إجراءات التعليم عن بعد غير شاملة لكل التلاميذ، بدليل ضعف الإقبال على الدروس، وهذا باعتراف الوزير نفسه، حيث لم يسجل ولوج عدد كبير من المستفيدين، والسبب، حسب الوزير، يرجع لعدم فرض ذلك بطريقة إجبارية، حيث تركت الحرية للتلاميذ وللأساتذة في إستعمال الآليات التي تناسبهم سواء عبر تطبيقات «الواتساب» أو «فايسبوك».

بين استحالة وصعوبة السيناريوهات
تأكيد الوزير على استحالة السنة البيضاء هو أمر منطقي، لأن الأمر يتعلق بمسار تعليمي يؤدي أي خلل في محطة من محطاته إلى التسبب في خلل لن يقف عند نصف مليون تلميذ معنيين بامتحانات الباكلوريا بل سيشمل 10 ملايين تلميذ وطالب يتنقلون عبر محطات هذا المسار. فإقرار سنة بيضاء لتلاميذ السنة الثانية باكالوريا سيعني أنه سيتوجب الإبقاء على تلاميذ السنة الأولى في المستوى نفسه، لأنه تنظيميا وبيداغوجيا لا يمكن ضم المستويين، والأمر نفسه بين المستويين الإعدادي والثانوي، وبين المستويين الإعدادي والابتدائي، والابتدائي والتعليم الأولي، بل وبين الثانوي والتعليم العالي. لذلك فإن سيناريو السنة البيضاء غير مطروح إطلاقا. والأمر أشبه بجهاز من الأجهزة التي يتوفر عليها الجسد، حيث إن توقف أي عضو عن أداء وظيفته يؤدي حتما إلى اختلالات في وظائف الجهاز بأكمله، (الجهاز الهضمي أو الجهاز العصبي مثلا).
وكيفما كان الوضع الوبائي في شهر يونيو، فإن الامتحانات ستجرى، والإعلان عن الناجحين سيتم في التاريخ نفسه الذي حدده المقرر الوزاري المنظم للسنة الدراسية. غير أن تمديد فترة الطوارئ الصحية سيفرض، حسب متتبعين، اعتماد إجراءات أخرى ليس من بينها تنظيم عادي للامتحانات الموحدة، ومن هذه الإجراءات تبني تنظيم يعتمد «تباعدا اجتماعيا» بين مرشحين يضعون كمامات طبية ذات قيمة طبية موثوقة تقوم الوزارة بتأمينها للمرشحين وللمراقبين، فضلا عن توفير كمية كبيرة من مواد التعقيم. وأيضا اعتماد دليل جديد يتضمن إجراءات صارمة للحؤول دون حدوث عدوى في صفوف المرشحين وكذا كل المتدخلين. وحديث الوزير عن كون التلاميذ تلقوا 75 في المائة من المقررات الدراسية، فإن هذا يعني أنه سيتم تكييف مواضيع الامتحانات مع هذا المعطى، أي بطريقة أو بأخرى «الامتحان في المقروء». لأن أجواء التوتر المرتقبة يمكنها أن تشعل شرارة أحداث غير مرغوب فيها، في حال تم وضع مواضيع من فترة الحجر الصحي، خصوصا وأن الوزير نفسه يقر بأن هناك مشكلة تكافؤ الفرص بين التلاميذ في الحصول على التعليم عن بعد، بالرغم من اللجوء إلى القنوات الثقافية والأمازيغية والعيون، حيث يتم بها بث جميع المقررات.
السيناريو الآخر هو تأجيل الامتحانات الموحدة أسبوعين أو ثلاثة، وهذا السيناريو ليس بيد الوزارة الوصية وحدها، لكونه سيكون رهين تطورات الوضع الوبائي عامة. وتبقى الإشارة هنا إلى أن الدولة كلها مطالبة بالتواصل مجددا مع الأسر لتهيئة أبنائها نفسيا ودراسيا، حيث يتسم سلوك الأسر الآن عموما بالانتظارية.

مدارس خاصة توقفت عن إرسال الدروس للتلاميذ المتأخرين عن دفع الأقساط وأمزازي يطالبها بالحصيلة
فوجئ العديد من التلاميذ بتوقف مدارسهم الخاصة عن إرسال الدروس عبر مختلف وسائل التواصل بحجة عدم دفعهم الأقساط الشهرية للتمدرس. وهو الأمر الذي خلف احتجاجات من طرف بعض الآباء وصلت حد التهديد باللجوء للقضاء، خصوصا مع إصرار بعض المدارس على دفع هذه الأقساط وإصرار بعض الآباء على عدم دفعها بسبب توقفهم عن العمل. سلوك هذه المدارس الخاصة تعزز أكثر بعد إقرار وزير القطاع بأنه يتفهم مطالبهم بالأقساط عندما قال إن «لديهم مصاريف، ونحن طلبنا منهم أن يراعوا ظروف عدد من الأسر الذين لم يعد لهم أي مدخول أو يؤجلوا الأداء. وقد طلبنا وساطة من رابطة التعليم الخاص وفيدرالية التعليم الخصوصي. كما دعونا الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين لمواكبة هاته المؤسسات: هل يتم التعليم عن بعد». هذا الموقف المسنود قانونيا، لكون قانون التعليم الخصوصي لا يسمح للوزارة بالتدخل في العلاقة بين المدارس وأولياء وآباء التلاميذ، وجد فيه بعض أرباب المدارس الخاصة مبررا للتشبث بدفع الأقساط وبالتالي التوقف عن تقديم دروس عن بعد للتلاميذ المتأخرين.
في مقابل تفهم الوزير لمطالب المدارس الخاصة، طالبت الأكاديميات الجهوية المدارس الخاصة الموجودة تحت نفوذها بتقارير عن التعليم عن بعد. هذا القرار جاء بعد ترويج معلومات حول تقصير بعض المؤسسات الخصوصية في الالتزام بالاستمرارية البيداغوجية من خلال تقديم دروس التعليم عن بعد، حيث أمر الوزير مديري الأكاديميات الجهوية والمديريات الإقليمية بتتبع الوضعية التربوية بكل المؤسسات التعليمية الخصوصية.
وطالب أمزازي برصد مدى التزام المؤسسات بتوجيهات الوزارة لضمان الاستمرارية البيداغوجية لكل التلاميذ المغاربة سواء بالعمومي أم الخصوصي، وذلك من خلال مراسلة وجهها لمديري الأكاديميات والمديرين الإقليميين. وشدد أمزازي، في مراسلته، على ضرورة تعقب مدى جاهزية المؤسسات وانخراطها في مشروع الوزارة الرامي إلى تأمين الزمن المدرسي والتحصيل الدراسي عن بعد، حيث فرض عليها موافاة المديريات الإقليمية والمصالح المركزية المختصة بالوزارة بجدول أسبوعي يتضمن مختلف العمليات التربوية المقدمة للتلاميذ وآليات التواصل المعتمدة، وإجمالي الموارد الرقمية التي تم تداولها مع التلاميذ عبر الوسائط الإعلامية والتكنولوجية المتاحة.
من جانبها، ثمنت فعاليات تربوية وجمعيات آباء وأولياء التلاميذ الإجراءات المتخذة من طرف الوزارة لمواجهة مظاهر ما وصفته بـ«السيبة» التي ظهرت ببعض المؤسسات الخصوصية التي تحدت قرار الوزارة بتأجيل العطلة والاستمرار في تقديم الدروس عن بعد، إسوة بالمؤسسات العمومية، حيث إن العديد من المؤسسات الخاصة أوقفت تقديم الدروس عن بعد واعتمدت فترة العطلة التي أعلنت الوزارة رسميا عن تأجيلها الأسبوع الماضي. فضلا عن أن مؤسسات تربوية خصوصية عمدت إلى استثناء التلاميذ الذين تخلف آباؤهم عن تسديد القسط الشهري من عملية التعليم عن بعد، ما سيجعلها في مواجهة مصالح وزارة التربية الجهوية والإقليمية التي باشرت عملية رصد دقيقة لكل الأنشطة التربوية وحصيلة التعليم عن بعد.
ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين عدة كتابات تُعنى بنقد النظم التعليمية المتمثلة في المدرسة الحديثة بصورتها التي استقرت عليها منذ قرنين من الزمن. وتعود هذه النقود لغير واحد من التربويين والمفكرين والفلاسفة من أمثال بيير بورديو في كتابه الأساسي «العنف الرمزي.. بحث في أصول علم الاجتماع التربوي»، وباولو فريري في كتابه الأساسي «تربية المقهورين»، وإيفان إليش (Ivan Illich) في كتابه الأساسي كذلك «مجتمع بلا مدارس». هذا الأخير كان مهتما بنقد المؤسسات الحديثة عموما، وفي مقدمتها المؤسسة التعليمية (المدرسة) التي رأى فيها أداة بيد السلطة، لترسيخ هيمنتها وإخضاعها للمجتمعات، ووضع خلاصة فكره في هذا الكتاب الصادر عام 1971.

سليمان الطعاني كاتب مختص في التربية أي نظام يقوم على قولبة التعليم في الشهادات هو نظام فاشل : المدرسة لا تحقق الهدف المرجو منها ما دامت تلقينية ولا تخدم تعليم الأطفال التفكير
لم يكن لدى إيفان إيليتش شك بأهمية التعليم الإلزامي، حتى تبين له أن حق الإنسان بالتعلم أصبح يساوي ذهابه إلى المدرسة وإلا فلا! ينتقد إيليتش، في كتابه «مجتمع بلا مدارس»، تحول الخدمات والحاجات الطبيعية للإنسان إلى منتوجات استهلاكية. ويرى أن حصر الخدمات في حدود المؤسسة بشكل عام، وسجن التعليم في حدود المدرسة بشكل خاص، أدى إلى إنتاج أشخاص مستهلِكين ومتقبلين للنظام الرأسمالي.
وبالرغم من أن فكرة التعليم الإلزامي نشأت ابتداء لخلق فرص متساوية، يرى إيليتش أنها خلقت طبقية من نوع آخر..، حيث صنع النظام الصفي والمدرسي طبقية شهادات وعلامات، وأصبح تعريف الفقر معتمِدا على الفكر الاستهلاكي الذي ترسخه المدرسة. وأن الطالب يُدرس في المجتمع المؤسساتي لأن تتطابق رغباته مع المنتجات الاستهلاكية التي يوفرها السوق، حتى أنه يشعر بنقص داخلي لو لم يستطع أن يوازي المعايير التي يحددها له الفكر الاستهلاكي.
بحسب رأي إيليتش، تنتهي العملية الدراسية في المدرسة إلى تحويل الإنسان إلى كائن مطواع مسلوب الإرادة، ولا يرى هذا التربوي أن هناك فرصة لإصلاح مؤسسة المدرسة، فهي ذات بنية سلطوية تبدأ من فكرة وجود المعلم وتلقينه المعلومات للطلاب دون حوار أو تفاعل فعال، وكل ما فيها من ممارسات وعناصر يؤدي إلى تعزيز الهرمية والسلطوية، بما في ذلك الوقوف في الطابور، والجلوس في المقاعد، ورفع الإصبع عند الاستئذان وحتى التقيد بالمناهج، والتدرج في المراحل الصفية، وهكذا تنتهي العملية الدراسية لتحويل الإنسان إلى كائن مطواع مسلوب الإرادة، ويكون مجرد أداة في آلة المجتمع، يلتزم بما يتاح له من فرص وأدوار، وفوق ذلك، هي تؤدي وظيفة تشكيل وتنشئة الناشئة، وفق مصالح الطبقات المهيمنة في المجتمع!
انتقاد إيفان إيليتش لمؤسسة المدرسة هذا يعود لأنه يرى فيها أنها مظهر من مظاهر الاعتداء على حريات الأفراد، والذي يحمل في عمقه روحا تسلطية، إذ كيف يُجبر طفل على الجلوس في مكان واحد، والكلام له، كل يوم ولست ساعات متواصلة، تتخللها استراحة لبرهة وجيزة، وبعدها تتم العودة إلى مقاعد الدراسة! ويضيف: «لا يوجد في العالم شيء أكثر إثارة للشفقة من طفل تجده خائفا كلما نظرت إليه وهو يشاهد بشك وقلق تقلبات وجه المعلم ورأيه»!
ما يريد إيليتش قوله أن المدرسة لا تحقق الهدف المرجو منها، ما دامت تلقينية ولا تخدم القيمة التي من المفترض أن تخدمها، ألا وهي التعليم والتفكير. جدير بالذكر أنه ليس إيفان إيليتش وحده من وقف في صف معارضة المدارس التقليدية، ولا هو أول من دعا لهذا، فجذور هذه الدعوة تعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي التي مثٙلها علماء وفلاسفة عقلانيون، كان من بينهم المفكر الفرنسي جان جاك روسو، الذي دعا إلى إغلاق المدارس التلقينية والعودة إلى التفكير الفطري الطبيعي الذي قاد البشرية قرونا طوالا نحو التقدم والازدهار.
والسؤال: هل هي أنظمة التعليم التي علمتنا ألا نبدع وألا نبتكر، وهل هي المدارس التلقينية أو حتى الجامعات التلقينية التي قوضت مدى التخيل وأطرته وأجهضت روح الإبداع لدينا، وقيدت عبقرية المتعلم بتكبيلها لقدراته في بواكير عمره، وحصرها في حدود النقل والتسميع؟
يقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي، في كتابه «وأد مقومات الإبداع»: ليس غريبا أن يكون الغالب على المتميزين أنهم يضجرون من الأجواء المدرسية الخانقة، فيهجرون التعليم النظامي منذ مراحله الأولى، كما هي حال جون استيورات ميل وبرنارد شو وأديسون وهنري جيمس وهمنجواي ومورافيا وهربرت ريد وشارلي شابلن وتولستوي وأندريه جيد وأناتول فرانس وروسو وغيرهم، وبذلك ينقذون أنفسهم من الملل والضجر المدرسي ويفرون بمواهبهم عن الإرباك المبكر ويهربون من البرمجة الكليلة التي تفسد العقول والعواطف فيفرغون لأنفسهم ويستثمرون الوقت والجهد والاهتمام في تحصيل المعرفة التي يحسون أنهم بحاجة إليها ويستفرغون طاقاتهم في اهتماماتهم الذاتية التلقائية فيبحثون عن الإجابات المقنعة لتساؤلاتهم الملحة ويهتمون بما يهيئهم لحياة حرة ناضجة بعد أن نجت قابلياتهم من القولبة التعليمية. وكما يقول المفكر بول سالمون: عندما أعيد النظر في كل التفاهات التي تعلمتها في المدرسة فإني أتعجب كيف أني ما زلت أستطيع التفكير.
يتحدث ول ديورانت، في كتابه الضخم «قصة الحضارة»، عن نفور المبدعين من القسر التعليمي فيقول: كان فولتير متوقد العقل لافتا للأنظار منذ طفولته ولكنه كان يكره الدراسة التقليدية. ويقول فولتير عن نفسه بأنه لم يتعلم في المدرسة سوى الحماقات، أما تميزه فهو تميزٌ فردي مضاد للتعليم القسري فقد كتب تمثيلية وهو في سن الثانية عشرة.. وكان معلموه يتوقعون أن يكون له شأن ويسمونه المفكر الصغير، وبسبب إحساسه المبكر بذاته فإنه لم يرغب في الالتحاق بالجامعة لكن أباه أصر على أن يدرس القانون فالتحق بالجامعة كارها ليعرف كما يقول: مهنة المحاماة لكنه كان يتجرع ذلك اضطرارا فلم يُعره اهتماما ثم انقطع من دون أن يكمل فقد كره كما يقول: كثرة الأشياء عديمة الجدوى التي أرادوا أن يشحنوا بها ذهني، فانشغل عنها بما يميل إليه تلقائيا فصار باهتمامه التلقائي القوي المستغرق ذلك المفكر العظيم الذي أسهم إسهاما كبيرا في زلزلة الجمود الأوربي وإنارة العقول وتغيير التصورات وتبديل الأوضاع..
إن من يقرأ حياة المبدعين في كل المجالات يلاحظ نفورهم من التفكير الجمعي ومن التلقين التعليمي القسري لأنه يتعارض مع طبيعة الإنسان التلقائية، كما أنه يربي على الامتثال ويدمِر الخيال ويتجاهل الفروق الفردية، ويعوق الانطلاق الحر ويغتال النزوع الفردي الجامح الذي هو طريق التفرد والإبداع والإنجاز وهو شرط القدرة على المبادرة والمغامرة والاكتشاف.
يذكر الفيلسوف الشهير آدم سميث أنه لم يتعلم من جامعة أوكسفورد إلا القليل، فهو لا يشعر أنه مدين لها بالكثير، فهو ككل الرواد والمبدعين قد صنع نفسه بنفسه بل صنع مجده بالتخلي عن الإمعية التعليمية والانطلاق في الآفاق الإبداعية التي هي نتاج الجرأة الفردية لاقتحام المجهول ونقد الأخطاء السائدة وبهذا التفرد الريادي أسس علم الاقتصاد…
وبالرغم من أن كتاب إيفان إيليتش «مجتمع بلا مدارس» نُشر منذ ما يقارب الأربعين عاما، إلا أن السؤال الذي طرحه الكاتب مازال قائما، وأن أي نظام يقوم على قولبة التعليم في الشهادات هو نظام فاشل، وأن العلم الذي نحصل عليه خارج غرفة الصف هو أكبر بكثير مما نحصل عليه داخلها سيما ونحن نتربع على أكبر هرم معرفي عرفه التاريخ ويتضاعف بشكل شبه يومي بفضل شبكة الأنترنت التي تلف العالم كله، لماذا على العلم أن يبقى مرهونا بمقاعد المدرسة التي باتت مصداقيتها في مهب الريح؟

التهافت العالمي على التجهيزات الطبية والأدوية يثبت أن عدم تشجيع البحث العلمي خطأ
ميزانية البحث العلمي لا تتعدى 0.8 في المائة من الناتج الداخلي الخام وأغلب الاختراعات تمت بمجهودات فردية
مثلما وجدت كل الدول التي كانت تكيف سياساتها الاقتصادية مع إيقاعات العولمة نفسها مضطرة لأن تعيد وضع سياسات اقتصادية وطنية بالكامل، فإن كل الدول التي كانت تعول على العولمة ذاتها لتأمين احتياجاتها من الأدوية والمعدات الطبية، وخصوصا من معامل ومختبرات الصين وجنوب شرق آسيا، وجدت نفسها عارية أمام وباء يصر على كشف العورات. وما حديث الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل أونفغي عن فرنسا في هذا الموضوع بكونها أضحت دولة ثالثية، مستدلا بكون الأطباء الفرنسيين لا يجدون كمامات لمباشرة المرضى، إلا خير دليل على أن الجدل حول البحث العلمي الوطني أضحى قضية مركزية اليوم. وزيارة رئيس فرنسا للبروفيسور الفرنسي راوول ديديي في مركزه الطبي بمارسيليا لتشجيعه على أبحاثه بخصوص اعتماد أدوية يدافع عنها هذا البروفيسور بكونها ناجعة في القضاء على وباء كورونا، خير دليل على أن البحث العلمي أضحى أولوية لدى كل الدول.

ميزانية ضعيفة وبنيات مؤسسية عاجزة
في المغرب، الذي لطالما لم يتجاوز البحث العلمي حدود الخطابات الرسمية والمقالات «المُتغزلة» به، وجد نفسه عاريا تماما وهو يعجز، وخصوصا في الأسابيع الأولى لانتشار الوباء في البلد، عن صناعة كمامة. فضلا عن الخصاص الكبير في التجهيزات الطبية، وخاصة أجهزة التنفس والأسرة الطبية. ما أعاد الحديث عن استهتار مختلف الحكومات التي حكمت المغرب بالبحث العلمي. هذا الاستهتار يتجلى في عناصر كثيرة، منها أن ميزانية البحث العلمي لا تتعدى 0.8 من الناتج الداخلي الخام، مع العلم أن الجهات المانحة للقروض تشترط نسبة 3 في المائة من القروض الممنوحة، إلا أن المغرب ظل دوما «يتصرف» بطريقته في هذا الصدد. وبالمقارنة مع دول تعيش مآسي حقيقية بسبب الوباء، نجد أن نسبة البحث العلمي في فرنسا مثلا 2.19 وفي إسبانيا 1.5 وإيطاليا 1.35 والصين 2.15، والولايات المتحدة الأمريكية 2.72، هذه النسبة الأخيرة تتجاوز بكل تأكيد الناتج الداخلي المغربي، ومع ذلك تعيش مآسي حقيقية مع الوباء، حيث ماتزال المختبرات العلمية في هذه الدول تتخبط في توفير أجهزة طبية بالكمية اللازمة وكذا إيجاد الأدوية المناسبة. على أن دول مثل كوريا الجنوبية وإسرائيل والسويد واليابان تحتل مجموعة رأس لائحة الدول التي تولي عناية بالبحث العلمي، بنسب تتجاوز 4 في المائة.
اختلالات البحث العلمي في المغرب، وخاصة على مستوى التمويل واحتضان الباحثين الواعدين، جعلت أغلب الاجتهادات التي تنجز في هذا الصدد فردية، كان آخرها عندما تمكن باحثون مغاربة ينتمون إلى عدد من المؤسسات من تطوير جهاز للتنفس الاصطناعي وجهاز لكشف الحرارة، وهما جهازان مغربيا الصنع مائة بالمائة، تم صنعهما في إطار تعبئة الكفاءات المغربية من أجل مواجهة فيروس «كورونا» المستجد.
هذه الاختلالات لا تقف فقط عند مستوى الميزانية، بل إن هناك اختلالات هيكلية على مستوى مؤسسات البحث العلمي، ذلك أن عدم توحيد مؤسسات التعليم العالي داخل الجامعات، والسماح باستمرارية مؤسسات للتعليم العالي غير تابعة للجامعات، مثل المدرسة الحسنية للأشغال العمومية، ومعهد الزراعة والبيطرة، أدى إلى حصر دور الجامعة في التكوين في المواد الأساسية. ورغم أن مؤسسات التعليم العالي غير التابعة للجامعة، والتي تتبع لبعض الوزارات، غير مخول لها، قانونيا، القيام بالبحث العلمي، فإن توليها مهمة تكوين الأطر، وتدريس العلوم التطبيقية، جعل الجامعة تفقد جزءا من هؤلاء الأطر الذين كان من المفترض أن تقوم هي بتكوينهم من أجل قيادة سفينة البحث العلمي، حسب متخصصين.

وزارة التعليم تتحرك بعد فوات الأوان
أعلنت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي (قطاع التعليم العالي والبحث العلمي)، يوم الخميس، عن اعتماد برنامج لدعم البحث العلمي متعدد التخصصات في المجالات ذات الصلة بجائحة «كوفيد-19»، خصص له غلاف مالي بحوالي عشرة ملايين درهم. وأوضح بلاغ للوزارة أن هذا البرنامج يأتي «إدراكا منها للظرفية التي تعيشها بلادنا، ووعيا منها بأهمية البحث العلمي ولا سيما في مجال الصحة، ومساهمة منها في الحد من آثار جائحة كورونا المستجد (كوفيد-19)».
وأضاف المصدر ذاته أن هذا البرنامج يهدف، على المدى البعيد، إلى تعبئة فرق البحث المغربية للعمل على خلق بيئة بحث متعددة التخصصات قادرة على إيجاد الحلول والمساهمة في تدبير الأزمات الوبائية، وعلى المدى القريب لإنجاز مشاريع بحثية ذات العلاقة بالمجالات المرتبطة بجائحة كورونا المستجد، وتقديم عناصر الجواب عن التساؤلات التالية: كيف يمكن تحليل انتشار وباء كورونا (كوفيد-19) والإحاطة بمختلف أبعاده بالمغرب؟ وما هي التوصيات المناسبة لتدبير الفترة الانتقالية والكفيلة بتمكين المغرب من الرجوع إلى الوضع الطبيعي؟ وما هي الدروس المستفادة من هذا الوباء؟ وما هي التدابير الوقائية المتعين اتخاذها مستقبلا؟
وأشار المصدر ذاته إلى أنه يتعين على مشاريع الأبحاث أن تكون قادرة على فهم الوضع الحالي وتحليله على الصعيدين الجهوي والوطني، وخاصة على المستوى العلمي والطبي: علم الفيروسات، وعلم المناعة، والرعاية الصحية، وعلم الأوبئة، والنمذجة الرياضية، والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، البيئة، والمستوى التكنولوجي كتصميم المعدات الطبية وغيرها من الأجهزة المفيدة وإنتاجها، والمستوى الاقتصادي ضمنه تأثير الوباء على مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني بما في ذلك اختلال سلاسل الإنتاج والتوازن الاقتصادي والبطالة وتدبير الوباء بهندسة متعددة الأبعاد وكيفيات الإقلاع الاقتصادي، وكذا المستوى الاجتماعي والنفسي كالاستمرارية البيداغوجية، والحجر الصحي، والكآبة، وفقدان الشغل، والتضامن الوطني، وتاريخ الأوبئة، فضلا عن المستوى السياسي منه إجراءات حالات الطوارئ، وتكييف الإطار القانوني، واستمرارية الخدمات والمرافق العمومية، كما يرجى، حسب الوزارة، أن تجيب مختلف الأبحاث عن التساؤلات المتعلقة بالوباء، وخاصة تلك التي تهم تدبير الفترة الانتقالية والإجراءات الواجب اتخاذها بعد انحسار الوباء واختفائه، وكذا الإجراءات الواجب اتخاذها في حال استمراره.
وبغية إشراك مختلف الفاعلين المغاربة في مجال البحث للإجابة عن التساؤلات سالفة الذكر، ومن أجل تعاضد الموارد البشرية والمالية واللوجيستيكية حول مشاريع بحث متعددة التخصصات، اعتمدت الوزارة تنظيما من شأنه مشاركة الجامعات ومؤسسات البحث في أقطاب جهوية.
ويتعلق الأمر بقطب أول: الجامعات ومؤسسات البحث في جهتي الرباطـ سلاـ القنيطرة، وطنجة-تطوان- الحسيمة، وقطب ثان: الجامعات ومؤسسات البحث في جهة الدار البيضاءـ سطات، وقطب ثالث: الجامعات ومؤسسات البحث التابعة لجهات بني ملال- خنيفرة، ومراكش- آسفي، وسوس-ماسة، وكلميم- وادنون، والعيون- الساقية الحمراء، والداخلة-وادي الذهب، بالإضافة إلى قطب رابع: الجامعات ومؤسسات البحث في جهات فاس- مكناس، والشرق، ودرعة- تافيلالت.

طلبة في كلية العلوم بطنجة يصنعون أقنعة تساعد المرضى على التنفس
تمكن طلبة وأساتذة كلية العلوم والتقنيات في طنجة، من استغلال معارفهم وإمكانيات مؤسستهم التعليمية، لصناعة أقنعة واقية للأطباء المشرفين على الحالات المصابة بفيروس كورونا، وتطوير قناع غطس ليصبح مساعدا في عملية تنفس المرضى بطريقة أكثر نجاعة. ويصنع طلبة كلية العلوم، بتأطير من أستاذهم، أقنعة تغطي الوجه بالكامل، موجهة بالأساس إلى الأطباء الذين يشرفون على حالات الإصابة بكورونا، بهدف تعزيز الحماية لهم. واستغل الطلبة شراكة ربطتها مؤسستهم مع شركة خاصة في صناعة الأجهزة الرياضية، من أجل الحصول على أقنعة مخصصة للغطس، وتطويرها تقنيا، لتصبح أقنعة مساعدة على تنفس مرضى كوفيد 19.
وأكد الأستاذ المشرف على المبادرة، مصطفى وردوز، أن الشركة، التي تصنع أقنعة الغطس، تعهدت بمنح جميع مخزونها من الأقنعة لصالح هذه المبادرة من دون مقابل.

التعليم عن بعد يشمل محاربة الأمية أيضا
وسط حالة الطوارئ الصحية، التي دخلتها البلاد بسبب فيروس كورونا، وتوقيف الدراسة الحضورية للأسبوع الرابع على التوالي، تمكنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من نقل دروس محو الأمية لما يقارب الثلاثمائة ألف شخص، عبر التعليم عن بعد. وقالت الوزارة، الاثنين، إن عدد المستفيدين من دروس محو الأمية عن بعد تجاوز 290 ألف متعلم، أي بنسبة 95 في المائة من مجموع المسجلين في البرنامج، وذلك بعد مرور أكثر من أسبوعين على اعتماد هذا الأسلوب في إطار التدابير الوقائية، التي تتخذها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مواجهة فيروس كورونا المستجد. وأوضحت الوزارة أن 10 آلاف مؤطر عبر التراب الوطني، انخرطوا في عملية التدريس عن بعد، لتقديم دروس المراجعة، والدعم بالأساليب الملائمة عبر مختلف الوسائط الإلكترونية المتاحة، وبما يحقق جودة العملية التعليمية التعلمية.
وأضاف المصدر ذاته، أن مؤطري البرنامج ينجزون مقتضيات التقويم التربوي المستمر بالوسائل الممكنة، وفق معايير المرونة والتركيز، والتخفيف والتبسيط، وبما يضمن الإنصاف والتغطية التربوية الملائمين، وذلك تصريفا للأنشطة التعلمية، وبناء للقدرات والكفايات المستهدفة. وطلبت الوزارة من مندوبي الشؤون الإسلامية توجيه المستفيدين من البرنامج إلى الاستمرار في متابعة حلقات برنامج «أقرأ، وأتعلم بواسطة التلفاز، والأنترنيت»، كما أنها أعدت البدائل لتقويم عملية التدريس عن بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى