شوف تشوف

السباق نحو اللقاح

في بداية الستينيات اندلعت بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية حرب غزو الفضاء، وفي 12 أبريل عام 1961 كان الاتحاد السوفيتي سباقا لإطلاق أول رائد فضاء إلى الفضاء وهو يوري جاجارين. الرحلة استغرقت 108 دقائق وتضمنت دورة واحدة حول الأرض. لكنها كانت كافية لتسجيل هدف شيوعي ثمين في مرمى أمريكا الرأسمالية.
سباق غزو الفضاء دام تقريباً من عام 1957 إلى 1975. وصار هذا السباق جزءا هاماً من التنافس الإيديولوجي والتقني والثقافي طيلة سنوات الحرب الباردة.
اليوم مع عودة أجواء الحرب الباردة بصيغة وأساليب وأدوات مغايرة نرى أن هناك سباقا بين روسيا وأمريكا لغزو سوق اللقاحات. ويبدو أن روسيا كسبت هذا السباق بتسجيلها لأول لقاح في العالم ضد فيروس كورونا وإطلاق اسم “Sputnik V” عليه، في إشارة إلى تفوقها عندما أطلق الاتحاد السوفيتي قمره الصناعي إلى الفضاء في 1957 والذي كان بداية الفتوحات العلمية الفضائية.
اليوم تريد روسيا أن تقول للعالم إنها كما كانت سباقة لتمهيد الطريق للبشرية نحو الفضاء فإنها ستكون اليوم سباقة لتمهيد الطريق نحو مستقبل بدون تباعد اجتماعي وبدون كمامات.
أهمية هذا السبق أنه سيعطي روسيا صورة الدولة المنقذة للعالم، فإلى حدود اليوم طلبت 20 دولة مسبقا مليار جرعة من اللقاح الروسي ضد فيروس كورونا.
كما أن هذا السبق سيكون له تأثير على مسار الانتخابات الأمريكية التي خطط ترامب لكسبها بفضل اللقاح الذي كلف السلاوي بإنتاجه قبل موعد الانتخابات.
وبعدما كانت منظمة الصحة العالمية تؤكد جازمة أنه ليس هناك “حل سحري” في الوقت الراهن لوباء كوفيد-19، غير مستبعدة ألا يكون هناك حل على الإطلاق للجائحة التي أصابت الملايين عبر العالم، ها هو الناطق الرسمي نفسه يؤكد اليوم بعدما جاءه الخبر اليقين من موسكو إمكانية التوصل إلى لقاح آمن وفعال ضد فيروس كورونا، ولتحقيق ذلك يلزم جمع 100 مليار دولار لإنجاح العملية.
ويبدو أن بوتين استطاع أن ينجز ضربة معلم بطريقة تدبير أجهزته للحملة الدعائية التي رافقت الإعلان عن اللقاح الروسي، رغم أنه إلى حدود الآن لم تنشر نتائج التجارب السريرية أو أي ورقة بحثية بشأن اللقاح، كما لم تشارك موسكو منظمة الصحة العالمية المعلومات بشأن اللقاح حفاظا على سرية الأبحاث.
هكذا تكون روسيا قد سحبت البساط من تحت أرجل المختبرات العالمية التي تسابق الزمن من أجل طرح لقاحاتها للبيع في الأسواق.
وعلى الصعيد العالمي هناك صراع جبابرة بين المختبرات الدوائية العالمية حول عقار ولقاح لفيروس كورونا. هناك حوالي 120 مختبرًا عالميًا تتبارى وتسابق الزمن لطرح عقاراتها ولقاحاتها قبل الأخرى.
طبعًا فمختبرات الأدوية ليست جمعيات خيرية هدفها إنقاذ البشرية بل هي شركات رأسمالية بشركاء وأسهم في البورصات العالمية، بمعنى أن هدفها هو تحقيق أرباح لتوزيعها على المساهمين نهاية السنة.
وقد رأينا كيف أن الباحث المغربي الأمريكي منصف السلاوي اضطر لطرح أسهمه بشركة “مودرنا” للبيع تفاديا لأي تضارب في المصالح، معلنا تبرعه بالأرباح لأبحاث السرطان .مما يعني أن منصف السلاوي ليس فقط مجرد باحث بل رجل أعمال أيضا لديه أسهم في الشركة التي تكلفت بصناعة اللقاح. وهذا ليس عيبًا، العيب هو أن نعتقد أن شركات الصناعات الدوائية والمختبرات ملائكة همهم الوحيد إنقاذ البشرية، فهذه شركات تعتبر الأكثر قوة وشراسة وخطورة في العالم، إنها أقوى حتى من لوبي شركات السلاح والبترول.
وأمامنا نموذج واضح في ما يخص عقار الكلوروكين الذي وضعه الدكتور راوولت كبروتوكول علاجي لمرضى كورونا، والذي أعطى نتائج إيجابية في المغرب ودول أخرى، رأينا كيف أن حملة عالمية قامت ضده وراءها مختبرات تمول مجلات طبية شهيرة، بعد ذلك أصدرت منظمة الصحة العالمية قرارا بتوقيف التجارب السريرية حول العقار، ويوما بعدها اتخذت السلطات الطبية الفرنسية قرار وقف العلاج بالعقار رسميا في فرنسا. وحسنا فعل المغرب عندما لم يلق بالا لا لقرار منظمة الصحة العالمية، التي تغير مواقفها مائة مرة في اليوم، ولا لقرار فرنسا المحكوم بحروبها الصحية والسياسية الداخلية.
سبب هذه الحرب أبسط مما تتصورون. الكلوروكين عقار يتم استعماله منذ الخمسينات، وسعره بخس جدا، ومكونات العقار أي la molécule سقطت عنها براءة الاختراع وبمستطاع أي مختبر صناعتها بلا حاجة لشراء حقوق الاستغلال، ولذلك فهذا العقار، رغم فعاليته، ليس مربحًا بالنسبة للمختبرات بل إن سمعته تشوش على العقارات التي أنفقت المليارات على أبحاثها والتي هي بصدد تصنيعها في الهند وباكستان والتي ستنزل قريبا للأسواق، والتي ستحتاج شركات الدواء في العالم بأسره من أجل إنتاجها شراء la molécule، والسعر طبعًا يقدر بمليارات الدولارات.
سيقول قائل هذه حروب عالمية تدور بين مختبرات عملاقة ولا شأن لنا بصراعاتها، وأنا أقول إن المهم في ما ذكرت ليس هو الصراع في حد ذاته بل كيف تحول الدواء والبحث العلمي والممارسة الطبية إلى محرك للبورصات العالمية على حساب المهمة الأساسية للدواء وهي إنقاذ حياة البشر وتخفيف آلامهم.
ما يحدث يجب أن نستخلص منه الدروس والعبر، فالعصر الذي نعيشه سيكون كما صوره تقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA الذي يتحدث عن السنوات الثلاثين المقبلة مطبوعًا بتحديين، الفيروسات والتقلبات المناخية التي من تداعياتها ندرة المياه.
المشكل أن حل أعطاب المنظومة الصحية المتراكمة منذ عشرات السنين لا يمكن أن يتحقق في أشهر.
فنحن نحتاج عشر سنوات من التكوين للحصول على طبيب وإلى ثلاث سنوات للحصول على ممرض، ونحتاج لسنوات لبناء وحدات استشفائية وتجهيزها.
الخطورة الكبرى لهذا الفيروس هي قدرته على شل المنظومة الصحية، وبالتالي التسبب في رفع أعداد الوفيات، وهنا يتحول الموضوع من كونه مشكلا صحيا لكي يصبح مشكلا سياسيا.
لذلك فمواجهة جائحة كورونا والجوائح القادمة وتداعيات التقلبات المناخية تتطلب جوابًا سياسيًا في المقام الأول، وهذا الجواب لا يمكن أن تقدمه حكومة متضاربة في قراراتها مشوشة الرؤية فاقدة للبوصلة.
حروب مثل هذه تتطلب حكومة متراصة الصفوف تعرف ماذا تريد ولديها الوسائل والكفاءات لتحقيق الأهداف بناء على دفتر تحملات واضح ومضبوط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى