شوف تشوف

الرأي

ثقافة الكذب

بقلم: خالص جلبي
الكثير من المسلسلات هي توافه لتضييع وقت لقوم ليس للوقت عندهم قيمة، وحسب المفكر الجزائري مالك بن نبي، فإن الشعب الثرثار لا يسمع وقع أقدام الوقت الهارب. وحسب الوردي، عالم الاجتماع العراقي، فإن الحضارة هي دخول الوقت، أو هي ثلاث كلمات، التراب، الإنسان والوقت. ومعادلة الإنسان هي مجموع لحظات الجهد الواعي المبذول. وحين أحدق الناس في المقاهي أعرف أي مصيبة تلك خلف البطالة، واقترحت على صديقي في مقهى له بمدينة فاس وضع إعلانات أو كتب للثقافة، ولكن مثل هذه الاقتراحات لا تلاقي الترحيب، أما موضوع المسلسلات فأتذكر جيدا بعضا منها من مصر، وليس من عادتي متابعة المسلسلات العربية خاصة المصرية، التي تذكرني بالمسلسلات المكسيكية وأليخاندرو. إلا أحيانا في رمضان لبعض من حلقات «طاش ما طاش» وياسر العظمة في الكوميديا. وأعتبر العظمة فلتة عبقرية وإبداع قلما جادت به العقلية العربية، ومثله «طاش ما طاش» الذي أجاد في حلقة واتعليماه، ولمس الجدار الصاعق فناله من التكفير والتشهير كأسا دهاقا، وهو أمر متوقع في ثقافة تعتمد الحرام قبل الحلال والقسوة بدل الرحمة. وانفجار الإرهاب هو تحصيل حاصل لهذه الثقافة المريضة، التي تعيد إنتاج نفسها. وفي المسلسل المصري «يا ورد من يشتريك» كل من شارك فيه كانوا كذابين، إلا (معالي الوزيرة) باستثناء غير عادي. فضابط البوليس يكذب على زوجته، وسوسن البنت تكذب على أمها فتتزوج سرا، وتامر كذاب أشر يتزوج سرا من غير معرفة أمه، ثم يدخل حفل عرس جديد وزوجته سوسن حامل، وسعاد صاحبة الشركات والملايين كذابة على الدولة وعائلتها، وبنتها الأخرى كذابة تريد التهام الشركة وأمها ومن حولها جميعا، يشجعها في ذلك زوج كذاب. والمحامي الشربيني اللامع يكذب على زوجته، ويتزوج عليها سرا، ويخبرها دوما عن رحلات وهمية وهو يجتمع سرا بالحبيبة غراما. والمهم فحيث ما وضع الإنسان يده ينتابه شعور القنفذ، الذي وضع يده على أولاده فقال شوك في شوك! فأي نكبة عارمة أصابت الثقافة العربية، ولماذا يكذب الجميع؟ إذا كان المسلسل المملوء أكثر من نصفه بالدعايات لحفاضات الأولاد وشوكولاتة جالاكسي يريد معالجة أمراض اجتماعية فهي نصف مصيبة، وإذا كان المسلسل يعرض واقعا فعليا للمجتمع المصري وهو يريد نشر الغسيل، فهي الكارثة الكاملة والمصيبة العظمى. والسؤال الفلسفي والنفسي لماذا يكذب الإنسان؟ والجواب هو الخوف في الغالب. ووقع في يدي يوما كتاب عن فلسفة الكذب لمؤلفه (محمد مهدي علام)، كتبه عام 1936 م حاول فيه أن يبحث في جذور الخوف، ونقل عن علماء النفس أن الطفل لا يعرف الكذب، بل هو أقرب إلى الصدق، والثقافة هي التي تنقل إليه هذا المرض، وسببه الرئيسي هو الخوف. وفي الأوساط الاستبدادية ينشأ الإنسان غير آمن على نفسه، فيتعلم الكذب ليحفظ نفسه ويقدر على البقاء. ولكن هذه حلقة من دورة شيطانية كاملة، وسببها الجوهري هو العنف. فعندما يحكم الناس بالقوة من غير مناقشتهم يخافون. ومن خاف دخل حلقة الإكراه، فقام بتنفيذ ما يطلب منه وأدى الطاعة الكاذبة، ولكن مع حمل الكراهية؛ لأن الإكراه يقود إلى الكراهية وإضمار الشر، والكراهية بدورها والخوف يقودان إلى تمني القوة وإذلال من يمارس الذل على الآخرين، ولكن هذه كما نرى دورة لعينة مغلقة مكونة من خمس حلقات ومراكز تتبادل التأثير العكسي (القوة والعنف ـ الإكراه مع الخوف ـ الطاعة مع الكذب- الكراهية – العنف). وهكذا فإن حلقة العنف تبدأ وتختم بالعنف وتدور على نفسها بشكل مجنون. والمسلسل المصري «يا ورد من يشتريك» يمثل الواقع العربي تماما في ممارسة الكذب، ولكسر هذه الحلقة يحتاج الأمر إلى تبديل الدم الثقافي، ولكن هذه مشكلة اجتماعية قديمة منذ أيام الفرعون بيبي الثاني، وربما كان الفقر والعدد السكاني الهائل في مصر والقلة تقود إلى الذل والطاعة. وأذكر في يوم أنني دخلت مطار القاهرة وكنت مقيما في ألمانيا، فرأيت ضابطا أعلى يذل ضابطا أسفل منه بشكل لم يبق له كرامة، وهو أمر لم أشاهده قط في ألمانيا، ولا يتجرأ أكبر شخص أن ينال مثل هذا النيل من أضعف شخص بكلمة هزؤ أو تحقير. وهو على كل حال فالمرض ليس مرضا مصريا بل عربيا في عمومه، ولكنه متفاوت الشدة من بلد إلى بلد. وفي العراق لا ينقصهم المال والثروة، فبطش بهم صدام وحولهم إلى عبيد، حتى انفجرت الأوضاع كما رأينا فنبت من رماد صدام ألف صدام، وأضيف فوق الاستبداد الاحتلال. ومما أذكر من إقامتي في ألمانيا، أن الشيء الأول الذي تعلمناه أن لا نكذب، فإذا ضبط على الواحد أنه يكذب كان معناه نهاية التعاون. والإنسان في هذا يشبه الساعة، فإذا نظر المرء إلى ساعته فرأى خطأ أعاد تصحيحها، فإذا عادت إلى الخطأ، أخذها إلى مصلح الساعات وإلا رماها. ومنه اعتبر الحديث أن المؤمن قد يسرق ويزني ولكنه لا يكذب، لأن الصدق والكذب مفتاح الخلق الإنساني برمته، يمكن بواسطته تصحيح بقية الأخطاء، ولكن مع الكذب يخسر الإنسان مفتاح الدخول لتصحيح أي خطأ. وأنا شخصيا اجتمعت برجل في المهنة كان مدرسة في الكذب، فيكذب حيث لا يحتاج، فعرفت جيدا أهمية الصدق وافترقت طرقنا. ويا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى