الرأي

فكرة القانون (السنة)

بقلم خالص جلبي

اكتشف ابن خلدون شيئاً هائلاً قديماً حينما وضع يده على فكرة القانون أو السنة بتتبع (كيفية خلق الأشياء). وهكذا توصل إلى هذه الأشياء الرائعة والمتألقة والتي سماها (الحِكَم المحجوبة والقريبة) أو (تلك التي لم يتفطن لها إلا الآحاد من الخليقة) مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما كشف للآحاد يوماً، يصبح بعد حين من البديهيات للملايين؟!
وهكذا وضع ابن خلدون مثلاً يده على قانون عمر الدول وحدَّده في مائة وعشرين عاماً، على اعتبار مروره في ثلاثة أجيال وأن كل جيل هو أربعون سنة، والجميل إلى حد التألق هو ذلك المزج المقدس بين هذه المفاهيم التي وصل إليها وبين النص القرآني، فهو قد انقدح له معنى الجيل المحدد بأربعين سنة من تيه بني إسرائيل المحدد في أربعين سنة من قصة موسى وهارون مع الجموع التي هربت معه من استبداد فرعون.
فكرة القانون أو السنة بقدر ما هي طاغية ومسيطرة في النص القرآني، بقدر ما هي غائبة في وعي المسلمين التاريخي، وبقدر ما يؤكد القرآن على أنه لن يجري المعجزات، فإن المسلمين وقعوا في مطب الخلاب والسحري والمعجز، وبقدر ما وجه القرآن النظر لفهم الواقع المعقد، والكون المعجز ضمن مفهوم الآية، بقدر ما سيطر على مخيال المسلمين الأسطورة والمستحيل، وبذا انفصل العالم الإسلامي عن الواقع وافترسته الخرافة، وفقد الروح العلمية، وعشق الحقيقة، واكتشاف الكون ورؤية آيات الله التي لا نهاية لها ولا حدود.
والقرآن حينما أراد بناء العقل السنني، والروح الباحثة، والشوق المعرفي، والتراكم العلمي، فإنه لم يتوجه إلى قوانين الفيزيولوجيا وإفراز الهرمونات، ولا إلى السنن الفيزيائية وتمدد المعادن بالحرارة وضغط السوائل وبناء الذرة (مع كل احترامه وتزكيته لمعرفة كل خفايا الكون)، ولكن كان يتوجه لمعرفة القوانين التي تنتظم حركة النفس وصيرورة المجتمعات، وقيام الدول وسقوط الحضارات وكل الآيات التي تشير إلى مفهوم (سنة الله) تأتي إما أثناء الكشف عن ميكانيزم نفسي، أو حركة المجتمع وإصابته بأمراض تماماً مثل إصابة البدن بالأمراض. (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً. سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا).
إن التوجه الذي سارت فيه الحضارة الغربية حتى الآن هو كشف الحقيقة خارج الإنسان، أي معرفة الوجود الخارجي، وهذا توجه يحمل نصف الحقيقة، ولعله النصف غير المهم، لأن أكبر مشكلة تواجه الإنسان هي ليست في علاقته بالكون، بل علاقته بأخيه الإنسان، فالكون نعيش معه في حالة سلام وتوازن منذ 500 مليون سنة من خلال جسدنا الذي ينتسب إلى عديدات الخلايا والذي يشكل قمة التكوين في الطبيعة، ويمثل دماغنا أعظم تجلٍّ للطبيعة، وسارت العلوم في معرفة الفيزياء والكوسمولوجيا والذرة والبايولوجيا والكيمياء والطب والجيولوجيا، ولم تتوجه إلى اكتشاف أعظم قارة أي رأسنا الذي نحمله وبدأت منذ فترة قريبة في التوجه إلى هذا الحقل حيث يعكف 2500 عالم في أوربا (غير النشاط الذي سبق في اليابان وأمريكا) على معرفة عمل النفس والجهاز العصبي والروح؟!
ونحن لا نعرف الآن حتى جغرافيا المادة العصبية على وجه كاف، فكيف بعمل النفس من خلال الدماغ؟ ودماغ آينشتاين الذي تبرع به قبل موته مازال يدرس بدون معرفة سر العبقرية التي مشت فيه وتجلت بنظرية النسبية التي قلبت مفهومنا عن الزمان والمكان المطلق لنرى العالم في صورة متصل الزمان ـ المكان.
هذا الانحراف أو هذا التوجه في مسار العلوم والذي سار عشوائيا بدون أي تخطيط، جعل عالم النفس السلوكي الأمريكي (سكينر) يقول بصورة لا تخلو من السخرية بأن أرسطو لو دخل زماننا الحالي فإنه سيشترك بدون أي عناء في محاورات السياسيين الذين يقودون (بكل أسف) العالم الحالي، في حين يقبع المفكرون والعلماء والفلاسفة بدون أي أثر في مجريات الحياة الخطيرة، إلا أن أفلاطون وأرسطو سيسكت كأي طالب متواضع أمام الكم المعرفي في أسرار الخلية أو أفكار النسبية وميكانيكا الكم والشيفرة الوراثية.
إن التعقيد الرهيب في فهم جدلية النفس وحركة المجتمع تخلق تحدياً ليس من السهولة الاستهانة به فهناك تداخل رهيب من عناصر التأثير والتنافر والتجاذب، مع هذا فإن توجه القرآن يؤكد على أن هناك شيئا ثابتا في الوجود أي قوانينه وسننه التي لا تتبدل ولا تتغير.
وكما ذكرنا سننه تلك التي تسيطر على النفس والمجتمع. (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)؛ فالوجود مضبوط بالسنن، ولن ترفع السنة لتوضع مكانها سنة جديدة. كما أن السنة لن تغير طريقها وهي تمضي في حركتها، لن يحدث تغير لا كلي ولا جزئي. ولم يبق أمامنا إذاً إلا محاولة فهم هذه السنة، وهذا يحمل في تضاعيفه تكريما رهيبا للإنسان في أنه يستطيع فهم السنة ويتعامل معها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى