الرأي

في ذكرى هيروشيما

بقلم: خالص جلبي

بصوت رفيع متهدج وبلغة أدبية منمقة تحدث الإمبراطور (هيروهيتو) إلى شعبه، صبيحة يوم الخامس عشر من شهر غشت عام 1945. كانت الكلمات قليلة، ولكنها واضحة وفي منتهى القسوة والصراحة: «إن عدونا بدأ في استخدام سلاح في غاية الخبث، يمتلك من قوة التدمير ما لا عهد للانسان به، وما لا طاقة لنا به».
تابع الإمبراطور بيانه على الشعب الياباني في ذلك اليوم العصيب من تاريخ اليابان: «وإنني أخشى يا شعبي الغالي أن استمرارنا في الحرب يعني فناء الشعب الياباني بهذا السلاح الجهنمي الجديد».‍
كان الإمبراطور الياباني قد أدرك العهد الجديد الذي دخلته الإنسانية، أكثر من كل العسكريين والسياسيين وآباء صناع السلاح الذري، فهذه القنبلة غيرت العالم، والتاريخ ومصير الجنس البشري، والفكر الإنساني، في ضربة واحدة وفجرت معها عصرا جديدا؛ فدخل العالم حقبة جديدة، وتكون خلق آخر، ونشأة مستأنفة. كما في تعبيرات ابن خلدون في مقدمته.
وختم الإمبراطور كلمته: «علي أن أقول لكم إننا خسرنا الحرب وعلينا أن نتحمل ما لا طاقة لنا به».
لنرجع إلى 6 غشت عندما كانت القاذفة (إينولا جاي ENOLA GAY) والضابط (باول تيبتس PAUL.W.TIBBETS) في الطريق إلى جهنم هيروشيما.
كانت الساعة (2.52) صباحا عندما كانت القاذفة الأمريكية من نوع (29ـ B) تتحرك من جزيرة (تينيان) في المحيط الهادي باتجاه الجزر اليابانية، ومدينة هيروشيما تغط في نوم عميق، ولا تدري القدر الرهيب الذي ينتظرها بعد ساعات.
يقود السرب الضابط باول تيبتس، وخبير الأسلحة (ويليام بارسونز WILIAM PARSONS). كانت الطائرة تحلق بارتفاع 1200 متر، عندما أعد بارسونز سيجاره وهو يربت على كتف تيبتس: «علينا أن نبدأ الآن».
كان الظلام يحيط بالطائرة التي أخذت اسم والدة الطيار باول تيبتس (إينولا جاي ENOLA GAY). كانت على متن الطائرة قارورة كبيرة تشبه أسطوانة الغاز الكبيرة (بوطة بالتعبير المغربي)، ذات (أنف مبعوج) ولا يزيد قطرها عن 60 سنتمترا، ولا يزيد وزن محتواها الأساسي عن 60 كيلوغراما من مادة اليورانيوم 235 المخصب، ولكن مع الغلاف الفولاذي المحيط بها ارتفع وزنها الى أربعة أطنان. وبجانب الطائرة إينولا جاي حلقت طائرتان حربيتان أخريتان، الأولى تحمل مخبرا كاملا لدراسة استخدام (السلاح الجديد)، والثانية تحمل أدوات التصوير للنار الجديدة التي ستشوي الناس بلظاها.
في الساعة3.10 عمد (بارسونز) إلى إغلاق زناد القنبلة، بعد أن تأكد من قائمة التوصيلات المكونة من 11 نقطة، هذه المهمة أخذت لقب (بعثة التدمير الخاصة ذات الرقم 13). هتف: «كل شيء على ما يرام».
عند الساعة ( 4.55) حلق التشكيل الثلاثي بشكل حرف ثمانية (^)؛ حيث تحتل القاذفة النووية (إينولا جاي) رأس التشكيلة. سأل المساعد (بوب كارون BOB CARON): «هل سنشطر الذرة اليوم؟»، علق تيبتس: «لقد بدأت تفهم الأمور».
كانت مدينة هيروشيما قد برمجت للمسح من ملف الوجود، وكخيارات احتياطية فقد وضعت ثلاث مدن أخرى للرحيل إلى العالم الأخروي، وهذا يحكي قصة الأقدار في مثل هذه الظروف، فلو تغير الطقس فوق مدينة هيروشيما؛ لربما استضاف الموت طوابير مدينة أخرى.
عند الساعة 6.30 بدأت الإعدادات الجنائزية لسكان العالم السفلي في مدينة هيروشيما، فاستل (بارسونز) ثلاث وصلات خضراء اللون من القنبلة، ليضع بدلا عنها حمراء اللون، وبهذه الطريقة أصبح التيار الكهربي داخل الجهاز مغلقا، وأصبحت القنبلة بهذه الطريقة جاهزة لقدح الزناد. عندها صرخ الضابط (باول تيبتس) للمرة الأولى بكل علانية، ليخبر طاقم الطائرة الذي علم الآن سر الرقم 13 لهذه البعثة التدميرية: «إننا نحمل القنبلة الذرية الأولى في العالم على متن طائرتنا».
عند الساعة 7.25 صعد تشكيل الطائرات من ارتفاع 8000 قدم إلى 9500، ليسمع الأخبار الحاسمة من الرائد (كلود إيثرليسCLAUDE EATHERLS)، الذي بث لهم أخبار الطقس والقدرة الدفاعية ضد الطائرات، أو وجود طائرات معادية في الجو. صاح فيهم: «يا شباب كل شيء على ما يرام … دمروا الهدف الأول على القائمة». وكانت هذه الكلمة تعني الحكم بالإعدام على 140000 من البشر، الذين يفتتحون يوما جديدا في الحياة وهو آخر يوم لهم. لم يكن عندهم ولا العالم أدنى تصور عن السلاح الجديد.
صاح تيبتس: «إنها هيروشيما»، ثم نظر الى بارسونز وسأله: «هل هي هدفنا بالضبط؟»، أجاب بارسونز بهز رأسه، فهو يعرف المدينة ذات الأذرع الثمان المستلقية بارتخاء تحتضن البحر، وصاح تيبتس بطاقم الطائرة: «أعدوا نظارات الحماية؛ فالوهج الذي سينطلق سيعمي العيون كما أفاد لنا علماء لوس آلاموس».
وعند الثانية 17 بعد الدقيقة 15 من الساعة الثامنة، باضت القاذفة البيضة الكبيرة ذات الأطنان الأربعة بين رجليها. وعندما تحررت القاذفة من هذا الثقل عمدت إلى الأعلى بكل قوة، فالأوامر كانت تقول: «ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون». وبدأ العد التنازلي للثواني 43 المقبلة؛ فالمفروض أن يحصل الانفجار على ارتفاع 50 مترا. وفي تمام الساعة 8.16 من صباح ذلك اليوم النحس، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل منقعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى