شوف تشوف

الرأي

 من حماة إلى غزة (2)

بقلم: خالص جلبي

المشكلة يا عزيزي الفاضل أن هذه الأسئلة في هذا الوطن الجريح، والذي يعج بنوع خاص من الديكتاتوريات «ديكتاتورية الغوغاء»، هي التي تجعل تناول أفكار الدكتور خالص جلبي في مرحلة الهمس وفي أوساط محدودة، هل يمكن مواجهة إسرائيل بمنطق لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين؟

إنك لن تستطيع أن تتخيل كيف ستتورم الأنوف وتحمر الوجوه من سماع هذا المنطق، في بيئة تعج بالمسلحين- حتى المساجد تحولت إلى مخازن للسلاح. وبالمقابل سأطرح عليك بعض القصص التي عايشتها بشكل شخصي:

القصة الأولى

حدثت في يناير 1990 (أثناء الانتفاضة الأولى)، حيث كنت معتقلا في سجن أنصار، أحد الجنود الإسرائيليين من حراس السجن تعاطف مع زميلينا وخطط لتهريبهما من السجن، فقام بنقل اثنين من الزملاء هما فيصل مهنا ومصطفى أبو العطى من سكان غزة- مخيم جباليا، قام بنقلهما من المردوان (ساحة السجن) إلى المطبخ الخاص بالسجن، وقال لهما: «بإمكانكما الهروب من شباك المطبخ»، وأغلق باب المطبخ عليهما حتى يتمكنا من الهروب دون أن تشعر إدارة السجن، وفعلا نال هذان الشابان حريتهما بمساعدة جندي إسرائيلي اسمه «أمنون» على ما أذكر. ومن المفارقات أن الجيش الإسرائيلي ألقى القبض عليهما بعد فترة، وأعيدا إلى السجن وحكم على كل منهما بالحبس 6 أشهر، فيما حكم على الجندي الإسرائيلي بالحبس لسنتين، بتهمة مساعدة العرب في الهروب من السجن!

القصة الثانية:

أعرف مواطنا إسرائيليا من سكان تل أبيب، عندما كانت تقع عملية تفجيرية يرتكبها فلسطيني ضد اليهود، كان السكان اليهود يقومون بمظاهرات ضد العرب، وكانوا يعتدون على العمال العرب الذين يعملون في تل أبيب، هذا المواطن كان يخبئ العمال العرب في بيته إلى أن تهدأ الأوضاع، وقد اعتقلته الشرطة الإسرائيلية ذات مرة بتهمة إيواء مواطنين عرب.

القصة الثالثة:

في العام 2001 على ما أذكر جرت في إسرائيل محاكمة لعدد من الطيارين الإسرائيليين، الذين رفضوا إلقاء قنابل على قيادات فلسطينية عسكرية، بسبب وجود مدنيين فلسطينيين بالقرب من المكان.

القصة الرابعة:

قبل أسبوع شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة تحقيق في الخروقات القانونية، التي صاحبت عملية اغتيال صلاح شحادة، وهو مسؤول عسكري في حركة حماس، لأن العملية أسفرت عن مصرع 7 أطفال كانوا موجودين في العمارة السكنية. هذا في حين أن الصراع بين حماس وفتح أودى بحياة عشرات الأبرياء، الذين لم يرف لهم جفن من أي من قادة حماس أو فتح ولم تشكل لجنة تحقيق واحدة، وحتى من غير المسموح التساؤل عن المسؤول! (التقديرات الرسمية 260 شخصا، غير الرسمية 400، ناهيك عمن قطعت أطرافهم وأصيبوا بعاهات مستديمة، وبشاعة الجرائم التي ارتكبت).

القصة الخامسة:

حدثت الشهر الماضي ولعلك شاهدت الأخبار ورأيت أهالي القرية الفلسطينيين وهم يرقصون فرحين فوق الدبابات الإسرائيلية، فيما وقف الجنود الإسرائيليين متفرجين، القصة حصلت في قرية فلسطينية اسمها «بلعين»، حيث إن جدار الفصل الذي شيده الإسرائيليون لعزل أراضي الضفة الغربية عن المستوطنات والأحياء اليهودية (إسرائيل أقامت هذا الجدار ردا على العمليات التفجيرية التي نفذها الفلسطينيون، أي إن المقاومة الفلسطينية بقصر نظرها كانت سببا في تشييد هذا الجدار)، الجدار مر داخل هذه القرية الفلسطينية وفصل بين المواطنين ومزارعهم، أهالي القرية قاموا برفع دعوى قضائية إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية واستصدروا قرارا بهدم الجدار من داخل القرية.

القصة السادسة:

لعلك والعالم شاهد صورة الطفل الفلسطيني وهو يجري وراء الجندي الإسرائيلي بحجر، والجندي الإسرائيلي هارب أمامه. القراءة الغوغائية للمشهد تحدثت عن بطولة الطفل وجبن الجندي، أما القراءة الإسرائيلية للمشهد – وأنا من أنصار هذه القراءة- تحدثت عن إنسانية الجندي.

هذه الملاحظات نذكرها لك ونحن نتساءل كما قلت أنت في أحد مقالاتك: هل يمكن أن يتطور الطب السياسي ليجمع من هذه العناصر، بحيث تتبلور نظرية تشق طريقها إلى النور حول نهاية سلمية للعنصرية التي تحكم فلسطين؟

ألا تعتقد أن الشريحة العربية التي تعيش في حدود عام 1948 (يطلق عليها في إسرائيل «عرب إسرائيل») هي أفضل شرائح المجتمع العربي من الخليج إلى المحيط من حيث الحريات السياسية ومن حيث المواطنة ومن حيث حقوق الإنسان، ناهيك عن مستوى المعيشة والرفاه الاقتصادي!

لعلك تذكر المقال الذي كتبته أنت «السفينة تغرق»، والذي ذكرت فيه كلام القاضية الكندية العظيمة. فما بالك إذا كان الوطن بأكمله يغرق؟

ولو خير أهالي قطاع غزة: هل يفضلون الحياة في قطاع غزة «إمارة حماس الإسلامية»، أم في كفر قاسم وشفا عمر وبئر السبع  (مناطق عربية داخل إسرائيل)، ستجد المغناطيس أشد جذبا من ذلك المغناطيس الذي تحدثت عنه أنت في  مقالك «السفينة تغرق»!

(أرجو أن تضمن هذا السؤال في مقالاتك).

في وقت من الأوقات دار نقاش في إسرائيل وعلى أعلى المستويات، حول ضم قطاع غزة والضفة الغربية إلى إسرائيل، أي أن يحصل كل فلسطيني العام 1967 على المواطنة الإسرائيلية (تماما مثل عرب 1948، الذين بقوا في أماكنهم ولم يهاجروا منها)، لكن الديماغوجيا السياسية وثقافة الشعارات منعت من طرح الموضوع على مائدة البحث. والمحصلة انتهت بعد ثلاثة عقود من التضحيات والمعاناة، باعتقال الشعب في «غيتو غزة»، ولف الجزء الآخر الموجود بالضفة الغربية بجدار الفصل! فمن المسؤول عن هذا الفشل الذريع؟

الحركة الصهيونية اجتمعت في بازل في العام 1897، لتتحدث عن إقامة دولة لليهود في فلسطين في قلب الدولة العثمانية المترامية الأطراف في ذلك الوقت، وبعد خمسة عقود فقط كان علم دولة إسرائيل يرفرف في الأمم المتحدة، أما على الجهة الأخرى فإنني أعتقد أن خمسين عاما قادمة من النضال لن تكفي الشعب الفلسطيني لإزالة الجدار، الذي تسببت العمليات التفجيرية ضد المدنيين في إقامته.

وفي الختام أود أن ألفت انتباهك إلى أننا سنقوم بطباعة مقالك «مثلث: (العدل ـ الأمن ـ الحريات)» في كتيب ونوزعه على المثقفين في قطاع غزة، فقط الآن علي تغطية تكاليف طباعته ونشره.

نافذة:

لعلك والعالم شاهد صورة الطفل الفلسطيني وهو يجري وراء الجندي الإسرائيلي بحجر، والجندي الإسرائيلي هارب أمامه. القراءة الغوغائية للمشهد تحدثت عن بطولة الطفل وجبن الجندي، أما القراءة الإسرائيلية للمشهد – وأنا من أنصار هذه القراءة- تحدثت عن إنسانية الجندي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى