شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

مدن مغربية بماض من ذهب وحاضر من تراب

قصص معامل وحروب وموانئ دولية شغلت العالم

في عهد المولى إسماعيل، الذي حكم المغرب ما بين سنوات 1672 و1727، تحولت أزمور إلى مدينة حقيقية تدر على الدولة المغربية مداخيل مهمة جدا، استعملت في بناء سور مدينة مكناس، بل استطاع المولى إسماعيل، الذي وصلت شهرته إلى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا مفاوضة هذه الدول، بل وهددها من خلال أرشيف المراسلات بالحرب، بقوة ميناء أزمور لكي يحصل على تنازلات من دول أوربية مقابل السماح لها بالتعامل التجاري مع ميناء أزمور.
أما الصويرة التي يعرفها المغاربة اليوم بمدينة «الرياح» و«كناوة» دون أي دور اقتصادي يذكر، فقد كانت إلى حدود سنة 1870، أول مدينة مغربية على الإطلاق تصل إلى العالمية ويصبح ميناؤها نقطة وقوف إجبارية لكل سفن العالم التجارية.
تارودانت هي الأخرى، لديها تاريخ مدفون وراء سورها السميك الذي تهاوت أجزاء مهمة منه بينما طال البناء العشوائي أطرافا أخرى. هذه المدينة كانت أول عاصمة إفريقية تعرف بناء مصنع كبير لصناعة السكر وتصديره إلى بريطانيا. حتى أن الملكة إليزابيث الأولى بعثت إلى المولى المنصور السعدي تطلب منه بلباقة وأدب أن يسمح ببناء شركة بريطانية في المغرب دورها هو شراء السكر المصنوع في تارودانت ونقله إلى لندن واعتباره «ماركة» خاصة لا يحصل عليها إلا البريطانيون من تارودانت..
هذه قصص مدن ماضيها، للأسف، كان أفضل بكثير من حاضرها الحالي..

أقدم مدن المغرب.. صنعت التاريخ وبعضها يموت اليوم ببطء
قد نختلف في وضع لائحة بأسماء هذه المدن، لكن الصادم أن تاريخها المنسي يكاد يكون غير معروف اليوم بل حتى أن شهاداته ووثائقه تعرضت للإتلاف لولا أن ما بقي منها وصل إلى أيادي الباحثين ليكتبوا دراسات وتحقيقات في الموضوع.
لنأخذ على سبيل المثال مدينة تازة. هي واحدة من أقدم المدن المغربية، لعبت دورا كبيرا في الاستقرار السياسي في العاصمة فاس، وحتى عندما كان المغرب ينقل قوة الحكم إلى مكناس خلال القرن 17، فإن تازة كانت حاضرة في معادلة ضمان الاستقرار السياسي حيث كانت القبائل تتركز فيها لجمع الصفوف حول الشخصيات التي اختارها المخزن للمناصب الكبرى في سلك القضاء على الخصوص.
أما في زمن الحماية، فقد كانت تازة قلعة ممانعة كبيرة في وجه الجيش الفرنسي حيث عرف محيطها عمليات تمرد كبرى ضد وحدات الجيش الفرنسي.
لكن أسوأ أيام تازة، تلك التي تم خلالها زحف قوات «بوحمارة» عندما أراد تأسيس دولته واقتحام مدينة فاس. إذ أن مناصريه حولوا تازة إلى شبه قاعدة عسكرية قبل شن الهجوم على فاس، وهو ما جعل لعنة من نوع خاص تطارد المدينة بداية القرن العشرين.
مدن أخرى مثل العرائش، التي وصلت صورها خلال سنة 1905 إلى الصحافة الدولية، عاشت مجدا عسكريا كبيرا رغم أنها تعرضت للدمار بسبب القصف أكثر من مرة أيام المد البرتغالي. إذ أن العرائش أيام المولى إسماعيل كانت تعيش على إيقاع التهديد بتحويلها إلى دكة من التراب بسبب موقف المغرب من البرتغاليين وحيازة أسرى بين الطرفين.
كانت العرائش وقتها مدينة مستقلة في حدودها البحرية إذ كانت مطوقة بسور مضروب على جنباتها لتجنب الخسائر أثناء القصف، لكن السور تضرر أكثر من مرة ولم يتم ترميمه حتى عصر المولى الحسن الأول بعد أزيد من مائة وخمسين سنة على الضربات. وهو ما يمكن تفسيره بأن المدينة عاشت إهمالا كبيرا منذ أيام المولى إسماعيل وصولا إلى سنة 1873، التي وصل فيها المولى الحسن الأول إلى الحكم وأمر بتفقد حال العرائش. ورغم أن المدينة استفادت من جملة من الإصلاحات وأرسل إليها القصر في فاس مجموعة من الإمدادات إلا أنها تعرضت مرات أخرى لضربات من الجيش الفرنسي قبل وصوله إلى الدار البيضاء، وضربات أخرى من طرف القبائل المغربية التي كانت تتصارع في ما بينها على السلطة، خصوصا وأن منطقة الشمال التي كان مركزها طنجة، عرفت خلافا كبيرا بين أعيانها حول أهلية الاستفادة من لقب «ممثل السلطان في المنطقة الخليفية». هنا دفعت العرائش الثمن وأصبحت موضوع تهميش كبير والسبب أن أعيانها لم ينجحوا في سرقة بقعة ضوء من أعيان طنجة الذين اغتنموا الفرصة لمراكمة الامتيازات لصالحهم، تاركين مدينة عريقة بحجم العرائش تموت مرة أخرى تحت التهميش، حتى أن بعض الكتابات الأجنبية التي كتبها رحالة ومستكشفون قبل استعمار المغرب اعتبروا العرائش مدينة منكوبة لأنهم وجدوا سورها مخربا ويحمل ضربات عمرها أكثر من مائة سنة لم يتم ترميمها رغم أن حرب السواحل مع البرتغاليين قد انتهت.
ورغم أن العرائش كانت تملك من المؤهلات ما يجعلها مدينة اقتصادية كبيرة، إلا أنها بقيت حبيسة فكرة الصراع بين المغرب والبرتغال، إذ أن عددا من الملوك اعتبروا أن إعادة إعمار العرائش أو إطلاق مشاريع بها، مغامرة كبيرة قد تعرض المغرب لخسائر إضافية على يد البرتغاليين.

الصويرة.. وصلت للعالمية وكانت أضخم تجمع اقتصادي في المنطقة
الصويرة اليوم مدينة صغيرة وهادئة جدا، بالكاد يحج إليها المغاربة كل ربيع لحضور منصة مهرجان كناوة الذي فك بعضا من العزلة عن المدينة التاريخية التي كانت قبل قرنين فقط، أحد أنشط مدن المحيط الأطلسي.
إذ كان المرور بالصويرة والتوقف بها للتزود بالمؤونة، طقسا مقدسا لدى كل سفن العالم التي تمر إلى الجنوب الإفريقي أو التي تلتف حول إفريقيا للوصول إلى تخوم آسيا قبل حفر قناة السويس.
وهكذا تحولت مدينة الصويرة منذ عهد المولى محمد الرابع، أي منتصف فترة خمسينيات القرن السابع عشر، إلى قطب اقتصادي كبير في المغرب.
والسبب وراء إنشاء مدينة الصويرة كان هو الرغبة المغربية في صنع مدينة منافسة مع أوربا في التصدير، وتم إيلاء مهمة بناء الاقتصاد في الصويرة لليهود المغاربة الذين حجوا إليها من كل مناطق المغرب. وهكذا أصبحت عائلات يهودية تنافس كبريات العائلات الأوربية في مجال تصدير المواد الأولية وحتى المصنعة.
وقبل وفاة المولى محمد الرابع ومجيء المولى الحسن الأول سنة 1873، كان قد كُتب له رؤية نجاح مدينة الصويرة التي وصلت في عهده إلى العالمية بدون مبالغة. أما مع المولى الحسن الأول فقد استمرت الصويرة في وهجها وظلت بعيدة تماما عن الأزمات السياسية التي عاشها المغرب لتصبح أول مدينة مغربية تدر لخزينة الدولة أرباحا بالملايين، حتى أن المغرب قد حل أزماته السياسية مع دول أوربية عظمى بفضل عائدات الجمارك من ميناء الصويرة.
والأكثر من هذا، أن الصويريين التجار استطاعوا إبرام صفقات باسم الدولة المغربية مع شركات أوربية متخصصة في صناعة السفن والسلاح، وهو ما جر على الوزراء المغاربة بعض المشاكل، خصوصا وأنه تم تزوير بعض الاعتمادات الرسمية للدولة المغربية ونصب بها بعض التجار المغامرين على شركات مرموقة في فرنسا وإيطاليا، ولكن تدخل السلطان الحسن الأول أوقف ذلك النزيف، واستمرت الصويرة في لعب دورها الاقتصادي إلى حدود أربعينيات القرن الماضي حيث تدخلت فرنسا في مفاصل الاقتصاد المغربي وقللت من أهمية ميناء الصويرة عندما بنت «بور ليوطي» الذي تحول اسمه إلى «القنيطرة» بعد الاستقلال، وتم تعزيز دور ميناء الدار البيضاء الذي أسسته فرنسا وهو ما جعل الصويرة تموت تدريجيا، إلى أن تصبح اليوم معروفة بين المغاربة بمدينة «الرياح» رغم أنها كانت أول مدينة مغربية تصبح معروفة في كل أرجاء العالم بمينائها الذي ترسو فيه سفن من كل أصقاع الأرض، إجباريا.

قبائل عبدة.. الأعيان الذين حكموا مغرب 1890 وكتبت عنهم الصحافة
منطقة عبدة التي تضم تجمعا قبليا كان يُعتبر الأقوى إلى حدود القرن العشرين مقارنة مع تجمعات قبلية أخرى سواء في الشمال أو الجنوب، عاشت تاريخا يستحق فعلا أن يكون «مجيدا» مقارنة مع واقع المنطقة الحالي.
إذ أن التجمع القبلي لقبائل عبدة جعلها تساوي رقما كبيرا في معادلة المخزن خلال القرن التاسع عشر على وجه الخصوص. ففي أزمنة عدم الاستقرار السياسي سواء خلال فترة حكم المولى عبد الرحمن ثم مع المولى محمد الرابع، ووصولا إلى عهد المولى الحسن الأول، حيث كانت أحداث سنة 1873 التي قرر خلالها المخزن تأديب كل القبائل المتمردة على سلطته وعزل الأعيان الذين رفضوا أداء الضرائب للدولة.
حتى أن ربورتاجا نُشر على «التايمز» البريطانية سنة 1909، بتوقيع الصحافي لاورنس هاريس، كان يضم معلومات مهمة عن شخصية عبدية لعبت دورا كبيرا في التوافق السياسي خلال فترة حكم المولى عبد الحفيظ. إذ أن منطقة عبدة انقسمت في تحديد موقفها مما يقع في فاس بعد وفاة المولى الحسن الأول سنة 1894. جاء في الربورتاج من قلب أحد أشهر أثرياء فاس الذي جمع شخصيات مهمة في داره: «سي عزيز هذا يتحدر من قبيلة عبدة، واحدة من أقوى قبائل الجنوب المغربي، قريبا من ميناء آسفي، أقرب ميناء بحري إلى مراكش. إنه محفوف بالمخاطر والإبحار منه ليسا آمنا أبدا. وينعدم فيه أي اتصال مع الدعم في الحالات الخطرة. ولا يمكن الاتصال بأي أحد إلا بميناء الصويرة، وهو الذي يلي ميناء آسفي مباشرة.
قبيلة عبدة تنحدر من أصول عربية خالصة، ويعرفون بالخيول، كما أنهم يعرفون بالإضافة إلى قبائل دكالة، بإنتاج الحبوب في البلاد كلها. الرجال الذين ينتمون إلى هذين القبيلتين مشهورون بقوتهم البدنية، لذلك كان يلجأ إليهم السلطان ليضمهم إلى صفوف المخزن.
قائد عبدة، واسمه موسى بن عمر، عرف بأنه من أقوى الرجال النافذين في المغرب، تماما مثل الكلاوي، حتى أن السلطان مولاي عبد الحفيظ جعله وزيرا.
سي عزيز، وهو للإشارة صديق قديم زرته قبل سنوات خلت في منطقة عبدة، وتعرفت عليه بسهولة عندما دخل إقامة عبد الله بن مقتة. كان بيته عبارة عن كومة من الخراب، وشيد جدرانا طويلة من التراب والتبن ليحمي زوجاته وأبنائه وإخوته ليلا وسبب تحول إقامته إلى خراب، كانت حرب السلطان مولاي عبد العزيز الذي استدعاه رفقة إخوته لخوضها ضد «بوحمارة»، ولما رجع وجد إقامته هدت عن آخرها ونهبت محتوياتها وأسرت عائلته التي كانت تقطن بها، وزج بوالده في السجن.
ورغم أن سي عزيز رابع إخوته، إلا أنه أقواهم وأكثرهم شجاعة، واستطاع في الوقت الذي انقطعت فيه الصلة بيننا أن يعيد جمع ثروة وإعادة بناء المنزل الكبير والعودة إلى التجارة، لأصادفه اليوم في منزل عبد الله بن مقتة.
سي عزيز يكن الولاء للمولى عبد الحفيظ، السلطان الجديد. وقال لي إنه جاء إلى فاس لكي يقابله حتى يحظى بعرفان وتوصية على خدماته».
بعد فرض الحماية على المغرب سنة 1912 عرفت منطقة عبدة واقعا سياسيا آخر تعزز فيه دور القياد، وبعد سنة 1956 طال المنطقة تهميش كبير اجتماعيا وسياسيا، لتدخل المنطقة إلى خانة النسيان بعد أن كانت رقما صعبا في معادلة السلطة بالمغرب.

حاضرة «أزمور».. ميناؤها كان ورقة تفاوض في جيب المولى إسماعيل
ورد في مراجع تاريخ المغرب أن أزمور كانت تحمل لقب «الحاضرة»، وهكذا كان يطلق عليها في المخطوطات القديمة لمراسلات أعيان المخزن «حاضرة أزمور»، في حين كان بعض العلماء وقتها، أي خلال القرن 18، يقارنونها بفاس التي كانت تلقب في نفس المراجع بـ «قرية» فاس.
إلا أن بعض الباحثين في التاريخ فسروا الأمر لغويا وذهبوا في اتجاه أن القدماء كانوا ينعتون المدن بالقرى، وفصلوا في أن تسمية «قرية» كانت تعني وقتها التجمع السكاني ولم يكن هناك تمييز كبير بين المفردتين، بحكم أن القدماء كانوا يطلقون على القرى تسمية «البادية».
إلا أن هذا الطرح العلمي اللغوي، يبقى ضعيفا إذا ما قورن بالواقع التاريخي المغربي.
فمدينة أزمور المجاورة للجديدة لعبت دورا تاريخيا كبيرا خلال فترات الهجومات البرتغالية على المنطقة، وكانت معقلا سياسيا كبيرا للمغرب، لأنها كانت منطلق عدد من العمليات العسكرية التي صنعت تاريخ المغرب الحديث.
كان هناك تنافس كبير بين أزمور و«مملكة» فاس التي كانت عاصمة للمغرب ووصلت شهرتها إلى أوربا وآسيا.
المثير أن أزمور قبل خمسة قرون كانت مستقلة تماما عن سلطة فاس، وكانت تدبر أمورها بمجلس خاص يتعامل مع السلطات البرتغالية.
والسبب حسب بعض المؤشرات التاريخية أن الدولة المغربية سنة 1497 كانت تمر بفترة ضعف تنظيمي وتراجع في الإمكانيات العسكرية ولم يكن ممكنا استرجاع المدينة، فتدبر أعيانها أمورهم بأنفسهم واستطاعوا فعلا حماية المدينة من البرتغاليين وجنبوا البلاد موجة استعمار برتغالي بعد أن وقعوا اتفاقية ثنائية بين المدينة والبرتغال تقضي بدفع غرامة مالية بانتظام مقابل بقاء ميناء أزمور تحت سيطرة تجار المدينة.
أما في عهد المولى إسماعيل، الذي حكم المغرب ما بين سنوات 1672 و1727، فقد تحولت أزمور إلى مدينة حقيقية تدر على الدولة المغربية مداخيل مهمة جدا، استعملت في بناء سور مدينة مكناس، بل واستطاع المولى إسماعيل، الذي وصلت شهرته إلى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا مفاوضة هذه الدول، بل وهددها من خلال أرشيف المراسلات بالحرب، بقوة ميناء أزمور لكي يحصل على تنازلات من دول أوربية مقابل السماح لها بالتعامل التجاري مع ميناء أزمور.
حتى أن أزمور لعبت دورا كبيرا في المفاوضات الأشهر التي قادها المولى إسماعيل مع البرتغال وأطلق خلالها سراح أسرى فرنسيين استعملوا في بناء سور مدينة مكناس التاريخي. هؤلاء الأسرى تم إطلاق سراحهم في إطار اتفاق بين الملك الفرنسي والسلطان المولى إسماعيل لعب فيه ميناء أزمور دورا كبيرا بحكم أن الاتفاق ضم بنودا تسمح لتجار فرنسا بولوج الميناء والاستفادة من رسوم خاصة بهم.
حتى أن سورها المهمل غير البعيد عن مصب نهر أم الربيع يبقى اليوم شاهدا على الفترات التي تعرضت خلالها أزمور لهجومات القوى الخارجية واستطاعت أن تبقى صامدة في عز فترات ضعف الدولة المغربية، واستطاعت أزمور أن تبقى في واجهة الأحداث طيلة سنوات محاولات إسبانيا والبرتغال احتلال السواحل المغربية.
لكن المدينة اليوم وميناءها نُسيا تماما، وتم تغييب تاريخ المنطقة رغم أنها لعبت دورا كبيرا في صناعة صورة المغرب وحاضره.

تارودانت.. أقدم عاصمة مغربية حيث «خراب» أول معمل بإفريقيا
عندما قرر السعديون إقامة دولتهم سنة 1554م اختاروا لها مدينة تارودانت التي تقع شرق «أكادير» وجنوب مراكش. هذا المثلث الجنوبي كان يضم أكبر قوة اقتصادية في ذلك الوقت على اعتبار أنه يجمع بين طرق الصحراء ويُفضي إلى وسط المغرب، بالإضافة إلى أنه يطل على المحيط.
سور مدينة تارودانت الذي يعيش حاليا أسوأ أيامه بسبب الاستغلال العشوائي لجنباته والحالة المزرية التي تعيشها «القصبة» من الداخل، كان رمز قوة المدينة وماضيها الاقتصادي والعسكري.
إذ أن مدينة تارودانت كانت أول منطقة في القارة الإفريقية يتم فيها بناء معمل للتصدير. وهذه المعلومة المُغيبة يؤكدها المؤرخان المغربيان الراحلان، عبد الكريم الفيلالي، وعبد الهادي التازي. كلاهما أجمعا على أن مدينة تارودانت أيام الدولة السعدية كانت عاصمة للدولة ومسرحا لبناء معمل متطور بمعايير تلك الفترة، لتصدير السكر إلى لندن حيث كانت الملكة البريطانية ترسل طلبات إلى المولى السعدي، آخر من حكموا الدولة السعدية، وترجوا منه السماح لتجار إنجليز بإنشاء شركة للسكر وشراء كل إنتاج المعمل في تارودانت لكي تنقله الشركة بحرا إلى لندن. وكان المولى عبد المالك السعدي، صلبا خلال تلك المفاوضات التي لا يزال أرشيفها كاملا معروضا في متحف لندن رغم مرور ستة قرون على تلك الأحداث.
كان معمل مدينة تارودانت لصناعة السكر يضم آلات بدائية، لكنها كانت متطورة وقتها، استعمل الخشب في صناعتها لصناعة قوالب السكر قصد تسهيل تخزينه وإعداده للتصدير، وكان إنتاج المعمل وقتها يعتبر ضخما جدا مقارنة مع الطلب البريطاني المتزايد ورغبة القصر البريطاني في احتكار استيراد السكر المغربي حتى لا تستورده دول أخرى.
كانت حدود الدولة المغربية التي كانت عاصمتها في تارودانت، تصل إلى تمبوكتو جنوبا، حيث كانت قبائل تارودانت ومراكش تأتي بالعبيد والخدم من هناك، وهو ما يفسر وجود عدد كبير من الأفارقة السود في منازل الأعيان المغاربة خصوصا في مراكش، عند تأسيس الدولة العلوية، إذ أن جميع العائلات الثرية وقتها كانت تملك تجارة واسعة في إفريقيا جنوب الصحراء، في عز قوة الدولة السعدية.
المثير أن تارودانت تحالفت مع لندن ضد إسبانيا سنة 1590. إذ أن مبعوثا خاصا جاء إلى قصبة تارودانت للقاء المولى أحمد المنصور الذهبي، اسمه «إدوارد برين» أرسلته ملكة بريطانيا إليزابيث الأولى لبحث خطة ضد إسبانيا والعمل على تولية أنطونيو على عرش البرتغال.
وحسب الأرشيف في لندن والذي جمعه الدكتور يونان لبيب رزق وألفه الباحث جورج روجرز والذي يحمل عنوان «تاريخ العلاقات الإنجليزية المغربية حتى عام 1900»، فإن إدوارد برين قال في مذكرته إلى الملكة إليزابيث إن «المولى أحمد المنصور الذهبي قد تسلم الرسالة مبديا مظاهر الفرح وبعد أن سأل عن حال جلالتها ذكر أنه أحب الملكة وأنه يتمنى لجلالتها النصر على كل أعدائها».
كانت هناك مراسلات أخرى بين الملكين قادها مبعوث آخر هو هنري برانل، وهذا الأخير قد زار وقتها مدن تارودانت مراكش، معقل قوة الدولة السعدية واطلع على مظاهر قوة المدينتين وعاد إلى لندن لكي يكتب تقريرا مفصلا للملكة إليزابيث يقول فيه عن تارودانت إنها مدينة تستحق أن تكون عاصمة لدولة تحكم المغرب والصحراء الإفريقية إلى الحد الذي جعل الملكة إليزابيث تثق في قدرات المنصور الذهبي وتقرر التحالف معه لتنظيم انقلاب في البرتغال وتنصيب ملك جديد يوافق على سياسة بريطانيا في إفريقيا، ويجنب المغرب تهديدات بحرية بعد أن اعتزم ملك البرتغال السابق شن هجومات على سواحل المغرب بين آسفي والجديدة.

قبائل حكم أبناؤها المغرب.. هوت بعد مجد وبعضها انقرض
قبيلة المنابهة التي أنجبت أحد أعظم الوزراء المغاربة وأكثرهم قوة في تاريخ المغرب، حيث كان مجرد عامل بسيط في دار المخزن ليصبح من كبار الملاكين وتصل ثروته حد بناء أول ملعب للغولف في تاريخ المغرب بمدينة طنجة التي فر إليها من فاس بعد صدور اتهامات ضده بسرقة أموال المغرب.
قبيلة المنابهة عاشت مجدها مع المنبهي عندما كان وزيرا وزرع أبناء قبيلته في مفاصل الجيش والإدارة المخزنية لتصبح قبيلته المصدر الأول لموظفي الدولة بين 1894 و1903، قبل أن يتم تسريح عدد كبير منهم ليعودوا إلى قريتهم، ومنهم من قرروا الاستقرار في فاس، وتطلب الأمر سنوات لكي تزول تلك «الوصمة» عن أبناء المنابهة.
نفس المنطق ينطبق على قصة الجامعي، الذين ينحدرون من «ولاد جامع» حيث أن هذه العائلة حكمت المغرب بدورها وكان أبناؤها يسيطرون على الوزارات والقضاء والمجالس التي يمثل فيها الأعيان السلطان ويتحكمون في التعيينات لأزيد من قرن ونصف، قبل أن يأتي المخزني «باحماد» ابن حاجب ملكي بسيط ويقرر سنة 1873، إنهاء سلطة أبناء «ولاد جامع» الذين حولوا قريتهم إلى معمل حقيقي لتصدير الموظفين وأهل السلطة.
يقول الباحث المغربي بوشتى بوعسرية في كتابه «معلمة المغرب» متحدثا عن آل الجامعي أنهم: «أسرة فاسية عريقة تنتسب إلى قبيلة أولاد جامع.. وأصبحوا ينتسبون هكذا: «الجامعي»، بدل «ابن جامع» منذ أن استوطنوا الجهة الشرقية الشمالية لمدينة فاس، وربما كان ذلك في عهد الدولة السعدية.. وانضمت هذه القبيلة سنة 1849 إلى الجيش المخزني الذي نظمه السلطان المولى عبد الرحمان بن هشام (1859/1822) على إثر هزيمة القوات المخزنية في معركة إيسلي (غشت 1844). وارتقى أفراد من الجامعيين إلى مستوى كاتب وزير خلال حكم السلطان المذكور، والمقصود هو العربي بن المختار الجامعي، واحتل ابنه محمد نفس المنصب في عهد سيدي محمد بن عبد الرحمان (1873/1859)، الذي كانت تربطه علاقة مصاهرة مع آل الجامعي، لأن زوجته للا الطام تنتمي لقبيلة أولاد جامع، وهي أم السلطان مولاي الحسن (1894/1873). ونظرا لهذه القرابة، فقد أصدر سيدي محمد بن عبد الرحمان ظهيرا بتاريخ 2 غشت 1866، أسدل به أردية التوقير والاحترام على أصهاره وخاصة منهم محمد بن العربي بن المختار الجامعي، كاتبه – أي وزيره – في حين أسند له ابنه مولاي الحسن منصب الصدارة العظمى».
أما نهاية أسطورة هذه القرية، «ولاد جامع»، فقد كانت على يد باحماد الذي كان يكن كراهية كبيرة لهم، بحكم أنهم كانوا ضد ترقية والده أيام المولى محمد الرابع ليجمد في منصب الحجابة داخل القصر الملكي.
قرية أخرى هي «أمزميز» التي كانت تضم من الأعيان ما جعلها ذات قيمة كبيرة أيام كانت مراكش مركزا للسلطة رغم أن عاصمة الدولة المغربية كانت هي فاس. إذ أن السلطان المولى الحسن الأول كان يفضل قضاء الوقت في مراكش أكثر من المكوث في قصر فاس، والسبب أنه كان يرغب في البقاء قريبا من القبائل المحيطة بمراكش، والتي كانت تجمع بيعة القبائل الملتفة حول السلطة.
وهذه القرية، أمزميز، كانت أيام الاستعمار بؤرة لقيادة العمليات المسلحة ضد الاستعمار سنة 1912، حيث انطلقت منها تمردات قبلية امتدت إلى حدود الأطلس ولم يقض عليها سوى الجنرال الفرنسي «دوغان» بتحالف كبير مع أسرة المدني الكلاوي الذي حاول أكثر من مرة محو تلك القرية من الخريطة، رغم أنها كانت شهيرة جدا في فاس. والمثير أن قرية «أمزميز» كانت على كل لسان بسبب الأحداث رغم أنها قرية جبلية صغيرة نواحي مراكش، ولا تزال كذلك إلى اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى