شوف تشوف

الرأي

والآن ما هو الفيروس؟

بقلم: خالص جلبي

الفيروس كائن عجيب فلا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى، بل هو بين بين.
تارة يعد مادة جامدة، لا حياة فيها فيتبلور مثل الملح، وينساه الناس، وتارة ينشط من همود؛ فيتكاثر ويضرب ويوجع كما فعل فيروس (الإيبولا) قبل أن يرجع فيهجع في الغابة من جديد حتى حين..
هل هو ميت؟ يقولون نعم ولا.
هل هو حي؟ فيقولون نعم ولا.
وسبحان من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله ربكم فأنى تؤفكون. عند هذه العتبة من الانتقال بين الجمادات والأحياء بيت الفيروس، ومكان عشيرته، ومرتع صباه وفتوته.
وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
إنه صغير يحتاج إلى تكبير عشرات الآلاف من المرات، حتى يرى، ولكنه يتكاثر كلمح البصر أو هو أقرب، وأحيانا بالثواني.
لقد عرف أن هذا العالم المغيب مثل عالم الجن الدقيق، يعج بقبائل ضاربة من العوامل الممرضة، هي خلف الأمراض التي تفتك بنا.
فهناك اللولبية الشاحبة تسبب مرض الإفرنجي الزهري، وهناك الأشكال المكورة مثل عناقيد العنب، وهناك الأشكال المنتفخة، مثل الأكياس المحشية، أو مثل شكل الكوسا والباذنجان، ومنها ما له شوك خارجي، أو دبابيس، أو شعر، ومنها ما هو أملس، واليوم نعرف ما لا يقل عن خمسين ألف نوع من هذه القبائل الممرضة.
منها ما هو ممرض للبشر، وغير مؤذي للقرود مثلا، كما اكتشف في فيروس (الإيدز)، ولم يعرف علة ذلك تماما.
ومنها ما يغير طبيعته باستمرار، وهو ما يقف حائلا حتى اليوم، أمام تطوير لقاح ضد (رشح) الإصابة بالبرد الشتوي، مع انقلاب الجو (كما حصل معي في شتاء 2019 م في كندا، فضربتني الأنفلونزا فأطاحت بي أرضا وفوقها التهاب صاعق في الخصية!)
ومنها (الكريب) البسيط، الذي يغير طبيعته، كما حدث مع الكريب (الأنفلونزا) الإسباني، عام 1919 فقضى على ملايين الناس، وهم يرتجفون هلعا، ويسترجعون الذاكرة لأيام الجوائح القاتلة، من طواعين العصور الوسطى.
إن البشرية والحضارة كائنان هشان للغاية، وهناك من كتب كتابا مثيرا، عن أثر الأمراض في رسم مصير التاريخ والحضارة، مثل الطاعون الذي قضى في العصور الوسطى على ثلث سكان مدينة لندن، أو كان له دور في القضاء على حضارات أمريكا الوسطى بالجدري، فاجتمع عليهم الطعن والطاعون والنهب والطرد.
لقد كان الناس في ما سبق تأتيهم الجوائح والطواعين، وهم لا يعلمون كيف جاءت ولماذا غادرت؟ فكان الناس ينحنون على المريض فيقبلونه؛ وهم يبكون عليه، فينتقل المرض منه إليهم وهم لا يدرون، فلم يكن الطب معروفا، وكان الدجل سائدا، والخرافة متفشية.
وأنا شخصيا أتذكر نفسي وأنا طفل، عندما حضر إلى والدي رجل، قد اصفرت عيناه، فلما انصرف؛ روى لي والدي، أن سبب المرض هو الخوف الشديد، وكانت المفاجأة لي، عندما علمت أنه حتى يشفى، فلابد من تخويفه بجرعة رعب أفظع من التي تلقاها.
وكان السؤال من يقوم بهذه المهمة؟
وحتى نأخذ فكرة عما يمكن أن يفعل الفيروس إذا انتشر، فيجب رؤية فيلم (الانفجار Outbreak) أو تذكر «الإيبولا» وأنفلونزا عام 1918م.

أنفلونزا 1918 م
كانت البداية بسيطة وبريئة فعند الصباح تقدم جندي أمريكي في ثكنة عسكرية في ولاية أركنساس، أنه ليس على ما يرام.
كانت الشكوى آلام مفصلية ووهن عام مع ترفع حروري. وسجل الجندي مريضا في ذلك الصباح، ولكن اليوم لم يكتمل إلا وسجلت عشرات الحالات من نفس الشكوى، ولم يعثر الأطباء على سبب.
وقيل لاحقا إن حرق كمية كبيرة من السماد لربما حركت المرض، ولا يعرف أحد السبب على وجه الدقة حتى اليوم.
ولكن الشيء الأكيد الذي يعرفه التاريخ، أن المرض أخذ إلى المقابر في أمريكا 550 ألف ضحية، أكثر مما أخذته كل الحروب الأمريكية.
ودفع العالم الثمن رهيبا يومها فبعد أن استفحل واشتد عوده، انتشر إلى كل القارات وقضى على ثلاثين مليونا من الأنام فتبارك اسم ربك ذي الجلال.
وذكر الشهود الأحياء أن أحدهم كان يستيقظ ضاحكا نشيطا، وفي المساء ميتا طريحا.. يودعه أحبابه إلى عالم القبور والبلى.
كان المرض يضرب بدون رحمة في أمريكا، التي كانت تعتبر نفسها أمة قوية فتية، فكادت أن تتلاشى من الوجود.
وخيم الرعب على الناس ففرغت الشوارع من الناس، وبدت المدن مهجورة لأن كل شيء أغلق خوفا من شبح الموت، الذي يعس في الأزقة على مدار الساعة، يبحث عن ضيوف جدد يضمهم إلى قائمة الأموات.
تقول سيدة نجت من الموت؛ لقد نشطت تجارة الصناديق الخشبية للأموات، وكان النجارون أكثر الناس الذين يكسبون، وباتوا لا يلحِّقون صناعة التوابيت! فلقد كان الأموات أكثر من الصناديق.
ثم عمد الناس إلى طريقة جديدة بوضع أمواتهم أمام البيوت مثل القمامات، حتى تمر البلدية فتأخذ الجثث كما تجمع النفايات إلى الحاويات.
كان منظرا مرعبا بحق، وكان هذا مع مطلع القرن العشرين ولم يكن قابلا للتصديق، ولكنها حفرت في الذاكرة بسطور من دمع ودم.
وكان أكثر ما يقضي على الناس الازدحام، وكانت الحرب الكونية الأولى ناشطة في أوربا، ووقف رئيس الولايات المتحدة يومها ويلسون حائرا أمام الجائحة، والجبهات تطلب المزيد من المقاتلين؛ فاجتمع على الناس الطعن والطاعون.
ومن أعظم الأشياء إثارة أن التاريخ حفظ لنا أفلاما من الجائحة؛ فقرب إلينا ماذا كان يفعل الطاعون في العصور الوسطى، حينما كان يهجم على الحضارات فيمحو محاسن تلك الصور.
وحاول الناس حماية أنفسهم بكل طريقة ممكنة، فحاولوا وضع الكمامات على الأفواه حتى يحتاطوا، ولكن مثلهم كان مثل من يضع الأسلاك الشائكة لحماية نفسه من دخول الغبار، بسبب بسيط أن الأطباء لم يكونوا يعرفون يومها الفيروسات، بسبب قوة المجاهر المحدودة، وعدم التوصل إلى اختراع المجهر الإلكتروني الذي يكبر عشرات الآلاف من المرات.
وعندما درس الأطباء سوائل المرضى المصابين تحت المجهر العادي المتوفر يومها بتكبير ألفي مرة، عثروا على الجراثيم المرافقة للالتهاب، الذي كان يترافق بأشكال حادة من التهابات الرئة، فظنوا أنهم وصلوا إلى العلاج، ولكنه كان سرابا خادعا لم يفعل شيئا، وكان مثلهم مثل من يبحث في أنقاض الزلزال ولا يعرف بعد شيئا عن تسونامي وعلم طبقات الأرض والحركات التكتونية.
تماما كما كان الحال مع الكمامات، التي لم تكن تغني أو تسمن من جوع. وفي شهر واحد قضت الجائحة في مدينة بوسطن على 11 ألف إنسان.
وبدأ موسم حفر القبور الجماعية، فكان الناس يتعانقون في عالم الآخرة. وتذكر كاتبة صحفية لامعة أنها هوت إلى وهدة المرض؛ فأشرف على العناية بها حبيب قلبها، ولكنه دفع حياته ثمنا للحب، وتذكره الفتاة بعد طول السنين بدمعة حارة.
ثم انقشع المرض كما ظهر بدون سبب، واليوم يعرف الطب أن السبب كان فيروس الأنفلونزا. ويحاولون فحص بقايا الجثث التي ضربها الفيروس وحفظت في صقيع كندا.
وهذا يعني أن الجنس البشري مهدد بأصغر الكائنات وأضعفها، وفي كل لحظة، ولم يكن عبثا أن ضرب القرآن المثل بالذبابة والبعوضة، والنحل والنمل، وما يعقلها إلا العالمون. لنتذكر عبارة وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب.

فيروس «الإيبولا» دراكولا مصاص الدم
إنه فيروس ليس كالفيروسات، يلتوي على نفسه في أعداد لا تنتهي مثل الديدان أو العرى أو الأفاعي، باطنه شحنة من الأحماض النووية تبلغ ضعف ما هي في فيروس الإيدز سيئ الذكر، الذي لم يطوق حتى الآن بعلاج أو لقاح، ومعطفه الخارجي طبقة شحم، وتبرز من أطرافه نتوءات تشبه أقدام الزاحفة (أم أربع وأربعين).
عرف عنه أن فيروس الإيدز أمامه مثل الفرق بين البعوضة والذبابة، ففيروس الإيدز أمامه رحمة!
فيروس الإيدز يمشي كلصوص الليل المتسللين، ولا يعلن عن هويته مثل المنافقين، ويضرب ضربته في الظهر بعد حين مثل كل الغادرين. أما فيروس الإيبولا الذي أخذ اسمه من نهر في الزايير، حيث زمجر المرض وكشر عن أنيابه، فهو يضرب بسرعة ووضوح وبمنتهى القسوة وبشكل دموي، فحضانته لا تحتاج كما في الإيدز إلى سنوات، بل هي بين 2-21 يوما، وإذا بدأت مظاهر الحمى والألم فيبقى دور الطبيب دور الشاهد، على فصول الموت الأخيرة لا أكثر.
وكما انتشر فيروس (الإيدز) سابقا بواسطة الدم وأخلاط البدن والعلاقة الجنسية المشبوهة، فإن فيروس (الإيبولا) يعيد نفس السيرة السابقة.
فيروس (الإيدز) يستخدم استراتيجية التغيير في التركيب الكيماوي الحيوي، حيث يقتحم تركيب الحامض النووي فيصبح قطعة منه، أما استراتيجية فيروس (الإيبولا) فهي أدهى وأمر، حيث يعمد إلى العنف في التركيب الجزيئي، بمعنى أنه يعرف لغة واحدة فقط هي:
التكاثر والتكاثر والتكاثر…
فيروس (الإيدز) يسطو على أنواع من الكريات البيضاء في الجهاز المناعي، أما هذا فيستخدم أي خلية مطية لهدفه المدمر، فباعه في الحيل أوسع وأمكر، إنه يتودد إلى دوريات الحراسة من الخلايا المهتمة بتصيد الأجسام الغريبة (المعروفة بالبالعات MACROPHAGES) فتنخدع به فيمتطيها، فإذا أصبح في داخلها ضرب ضربته فنسف البناء من داخله، فتسرب إلى كل الأجهزة النبيلة والأعضاء الحساسة، وبذلك تحترق خلايا الكبد، وتدمر مصافي تكرير بترول الجسم (الكليتان) وينعطب الطحال، وينسف الكظر غدة ما فوق الكلية، وتتدمر الطبقة الباطنة للأوعية الدموية فينهار جهاز لزوجة الدم بالكامل، فحيث يسبح الدم بنعومة بين التميع والتخثر، وينساب كأنه اللحن العذب يضخ الحياة في طرقات مملكة البدن التي تبلغ مائة ألف كيلومتر، يحدث الانقسام والنزاع في هذه المملكة اللطيفة، فيتحول كل قسم من الدم إلى حزب، جزء متطرف يتكتل على نفسه فيكون الخثرات مثل القطران الأسود، وجزء كسل رخو مهمل يفقد كل قابلية للتماسك، فيتسرب الدم من كل مكان شيعا وأحزابا وكل حزب بما لديهم فرحون!
هذه الظاهرة هي التي يخشاها كل الأطباء ويرجفوا منها، ويرمز لها بحروف مخيفة (DIC) أي انحلال الدم الشامل، فيصبح الدم برقة الماء بدون أي تماسك، فهذا ما يفعله فيروس (الإيبولا) الدراكولا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى