الرأيشوف تشوف

وريه وإلى عمى سير وخليه

كثيرا ما يعتقد القراء أن دور الصحافي لا يجب أن يقتصر على انتقاد من يسير الشأن العام، بل عليه أن يقدم حلولا لهذا الأخير. هذه الفكرة خاطئة من أساسها، لأن دور الصحافي هو أن ينظر إلى نصف الكأس الفارغة وليس المملوءة، وأن يهتم بالقطارات التي تصل متأخرة لا بتلك التي تصل في الموعد، فالقطار الذي يصل في الموعد ليس خبرا، كما هو معروف لدى طلبة السنة أولى في معاهد الصحافة عبر العالم.

مقالات ذات صلة

ومع ذلك، دعونا نلبي طلب القراء الذين يعتقدون أن الصحافي يجب أن يلعب دور المستشار ومكتب الخبرة الذي يقدم الاستشارة لمن يسيرون الشأن العام ويتقاضون أجورهم من أموال دافعي الضرائب للقيام بذلك.

بالنسبة لوزير الصحة، الحسين الوردي، الخبير في «التبناج»، والذي قال للطلبة الأطباء المضربين عن العمل إنه يعتبر نفسه والدهم ويتعامل معهم على هذا الأساس، فعليه أن يعرف شيئا مهما، وهو أن هؤلاء الطلبة الأطباء يطلبون منه أن يتعامل معهم كمسؤول وليس كأب، لأن كل واحد منهم لديه والده الحقيقي وليسوا بحاجة لآباء إضافيين بقدر ما هم بحاجة لوزير يفكر في مصلحة الأطباء أكثر مما يفكر في مصلحة لوبيات المصحات والدواء.

وإذا عجز سعادة الوزير عن مواجهة هؤلاء الجبابرة الذين يمتصون دماء المغاربة لمراكمة الأرباح، فعلى الأقل يمكن أن نقدم إليه اقتراحا بسيطا للغاية سيشكره عليه ملايين المغاربة.

الاقتراح هو أن يشكل وزير الصحة لجنة مكونة من تقنيين وأطباء للقيام بزيارات ميدانية للمستشفيات العمومية والوحدات الاستشفائية التابعة للوزارة لإنجاز تقرير مفصل حول أجهزة السكانير.

الجميع يريد أن يعرف لغز الأعطاب التي تطال هذه الأجهزة التي تشتريها الدولة بزبالة ديال الفلوس، وفي الأخير عندما يأتي مريض لكي يأخذ موعدا مع السكانير في مستشفى ابن رشد مثلا، يقولون له إنه «ما خدامش». وطبعا ينصحونه بالتوجه إلى المختبر الذي يوجد قبالة المستشفى من أجل إنجاز الصور الإشعاعية بأثمنة مناسبة، لأن السكانيرات في تلك العيادات «خدامة مزيان».

نريد من وزير الصحة أن يحل مشكلة «الراديو اللي خاسر» دائما بشكل نهائي، بحيث تصبح كل راديوهات المستشفيات العمومية «خدامة»، وبمجرد ما «يخسر» أحدها يتم تحديد السبب ومعاقبة المسؤول، لأن «تخسار» الراديوهات في المستشفيات العمومية تستفيد منه العيادات الخاصة، وهناك من يستغل المستشفيات العمومية لكي يقوم بدور «الحياح» لصالح العيادات الخاصة، فيقوم بتوجيه المرضى اليائسين من تلقي الخدمات الصحية العمومية نحو المصحات والمختبرات الخاصة لسلخ جلودهم وجيوبهم.

ولو نجح وزير الصحة في إنهاء معاناة ملايين المرضى المغاربة مع شبح «الراديو الخاسر» في سبيطارات المملكة، فسيغفرون له جميع زلاته الأخرى، فنحن نعرف أن سعادة الوزير أضعف من أن يتواجه مع لوبيات الدواء، فقد حاول قبل سنتين وتلقى رسائل التهديد بالقتل واغتصاب بناته، ولذلك فالجميع يتفهم دخوله «سوق جواه» من هذه الناحية.

ولو كان وزير الصحة «محزم بالصح» لكان أعلن الحرب على شركات الدواء الأمريكية التي تعتبر المغرب ضيعة خاصة تبيع فيها الدواء بأسعار لا تستطيع أن تتجرأ في أمريكا على الإعلان عن ربعها.

وفي كل بلدان العالم تسقط أدوية القلب والسرطان في المجال العام بعد عشر سنوات من اختراع الدواء، أي أن المختبرات تصبح غير مجبرة على اقتناء براءة الاختراع من المختبر الذي توصل إلى اكتشاف الدواء، وتنتج بالتالي أدوية جنيسة لهذا الدواء.

إلا عندنا في المغرب، فالشركات الأمريكية، وعلى رأسها «روش»، تشترط عدم إسقاط أدوية القلب والشرايين والسرطان ضمن المجال العام والاستمرار في اقتناء هذه الأدوية منها بأسعار خيالية.

وإذا عرفنا أن أمراض القلب والشرايين والسرطان هي أول أسباب الوفاة في المغرب، فهمنا أن الشركات المحتكرة لأدوية هذه الأمراض ترى في المرضى المغاربة زبائن يجب استنزاف جيوبهم حتى آخر زفرة.

والمصيبة أن شركة «روش» مثلا لا تنتج أدويتها الباهظة بنفسها في المغرب، بل إنها تكلف شركات مغربية، كشركة STERIFIL وsterifam اللتين تملكهما عائلة البوري، للقيام بما يسمى بالفرنسية le façonnage لهذه الأدوية.

وهكذا لا تفعل هذه الشركة الأخطبوط في الواقع سوى مراكمة الأرباح وتحويلها بالعملة الصعبة إلى الشركة الأم دون أن تساهم لا في تحريك عجلة الاستثمار ولا التشغيل، بحكم أنها تفتقر إلى وحدة إنتاج خاصة بها ضدا على المادة 74 من قانون مديرية الأدوية والصيدلة.

وما يلزم الوزير القيام به ليس التطبيل لأسطورة خفض الأدوية، والذي كان في صالح شركات التأمين أولا، بل المطلوب منه هو مراجعة الطريقة التي كانت تحصل بها شركات الأدوية على الموافقة على الأسعار التي كانت تقترح.

بمعنى آخر، يجب فتح تحقيق حول ممتلكات رؤساء الأقسام في مديرية الدواء والصيدلة منذ ما قبل عهد ياسمينة بادو وإلى اليوم، خصوصا إذا عرفنا أن أحدهم تقدم بطلب التقاعد النسبي وذهب يشتغل مع شركات دواء خاصة، بينما أحرق آخر وثائق مهمة قبل مجيء قضاة المجلس الأعلى للحسابات.

ولو أن وزير الصحة، الدكتور الحسين الوردي، كان يريد فعلا خفض سعر الدواء لفعل كل ما بوسعه لتسريع وتيرة تجنيس الأدوية، والحال أن نسبة الدواء الجنيس في المغرب لا تتعدى ثلاثين بالمائة، في الوقت الذي تصل فيه نسبته في أمريكا مثلا إلى تسعين بالمائة، وفرنسا إلى سبعين بالمائة.

لهذا نفهم لماذا سعر الدواء مرتفع عندنا أكثر مما هو عند أمريكا وفرنسا، فالمغاربة يشترون الدواء بسعر أكبر مما يشتريه الأمريكيون والفرنسيون، والسبب هو أن حكومات دولهم جنست تقريبا كل الأدوية بينما عندنا يتباطؤون ويتكاسلون من أجل فسح المجال أمام شركات الأدوية الجشعة لكي تمتص جيوب المغاربة.

وعندما نرى كيف ينفخ الوزير الوردي الريش على أطباء متخرجين حديثا ناعتا إياهم بالنقص في الوطنية، ونقارن ذلك بوداعته واستسلامه أمام لوبي صناعة الأدوية، نخرج بنتيجة واضحة وهي أن الوزير يتحمس لتطبيق القانون على الصغار فقط، أما الحيتان الكبيرة التي سبق لها أن هددت ابنته بالاغتصاب فإنه لم يعد يجرؤ على مجرد الاقتراب منها.

فشركة الأدوية العالمية «روش» وشركتا «إم إس دي» و«نوفاغتيس» ليست لديها وحدات إنتاج خاصة بها في المغرب لتصنيع الأدوية التي تروج، بل إنها تفوز بالصفقات وتعطيها لمختبرات محلية لديها وحدات إنتاج لكي تصنع لها الأدوية.

نحن إذن أمام شركات عالمية للأدوية لا تستثمر أي درهم في المغرب لتشغيل اليد العاملة المحلية أو المساهمة في الاستثمار وتحريك عجلة الاقتصاد، بل تقتصر على المناولة.

ولهذا نفهم لماذا ارتفعت تحويلات الشركات الأجنبية العاملة بالمغرب إلى الخارج من العملة الصعبة بنسبة 11 بالمائة مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية.

وحتى ذلك النصر الذي يريد وزير الصحة نسبه لنفسه والمتعلق بتصنيع دواء الالتهاب الكبدي الوبائي في المغرب، فإن الواقع يكشف أن دور الوزير لن يتعدى منح رخصة لشركة الحلو «فارما5» التي اشترت من الهند «موليكيل» دواء Sofosbuvir المضاد لالتهاب الكبد الفيروسي والذي تبيعه الشركة الأمريكية العملاقة Gilead بخمسين مليون سنتيم للعلبة، والذي يقضي نهائيا على الفيروس في غضون ثلاثة أشهر من تعاطي الدواء، لتسويقه في المغرب، وهو كما نرى دور إداري محض.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى