شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

أضرحة لاحقتها شبهات الشعوذة و«السياسة»

عندما هدم المخزن قبابا وحل زوايا تأديبا لمريديها 

«كل العقلاء، تداولوا بانتشاء صور عملية هدم البنايات المحيطة بضريح سيدي عبد الرحمان. حيث إن مشهد الجرافات وهي تحول «شبه الجزيرة» التي يوجد فيها ضريح سيدي عبد الرحمان بمنطقة عين الذئاب في الدار البيضاء إلى ركام من الأتربة، لا يمكن أن نفوته، دون أن نطرح السؤال بخصوص العلاقة الروحية لأغلب المغاربة مع هذا النوع من البنايات والقباب؟

وهل فعلا ضريح سيدي عبد الرحمان يستحق أن يُخلى من الدور التي بُنيت ملاصقة له، ليسكنها مُريدوه والمتبركون به؟

أضرحة كثيرة تنتشر في عموم التراب المغربي تشبه كثيرا ملامح ضريح سيدي عبد الرحمان، بل إن بعضها يستنسخ منه الممارسات نفسها الضاربة في القدم. فهل سوف تعرف الجرافات طريقها إلى الأضرحة الأخرى؟

 

يونس جنوحي

 

+++++++++++++++++++++++++++++

 

قرون من العلاقات المتذبذبة بين الدولة وشيوخ الزوايا

يبقى الباحث المغربي ربيع رشيدي، أحد أبرز الباحثين المغاربة الذين تناولوا موضوع علاقة الزعامات المحلية مع المخزن. إذ انكب في مؤلف يحمل عنوان: «الزعامات المحلية وعلاقتها مع المخزن»، على دراسة علاقة قبائل سوس وبعض الشخصيات التي حكمت القبائل، مع الدولة المغربية من خلال الزوايا التي كانت حاضرة دائما في قلب هذه العلاقة. وقد خص «الأخبار»، بتقديم لهذا الكتاب الذي صدر سنة 2020، جاء فيه:

«تبين من مظان هذا الكتاب، أن التأريخ لعلاقة الزعامات المحلية، سواء تعلق الأمر بشيوخ الزوايا أو زعماء دار إيليغ، يجعلنا نستشف العلاقة التي طبعت المخزن بالقبائل المحتضنة لهذه الزعامات، وبالتالي فالوقوف على علاقة القبيلة بالمخزن يضطرنا إلى البحث في علاقة الزاوية بالمخزن بشقيه المركزي والمحلي. لقد سمحت المادة المعتمدة في إنجاز هذا الكتاب بالوقوف على مميزات سوس الأقصى ومؤهلاته الاستراتيجية، والتي جعلته مجالا منيعا ومحصنا قادرا على احتضان زعامات محلية دينية (الحاج علي الدرقاوي والحاج الحسين الإفراني)، وأخرى ذاع صيتها في المجال الاقتصادي والسياسي، بناء على ما ورثته من رصيد صوفي يعود إلى القرن السادس عشر، يتعلق الأمر بزعيمي دار إيليغ الحسين أهاشم التازروالتي وابنه محمد، وكان لا بد للمخزن من أن يستميل هذه الزعامات في النهاية، لكي يجعلها سلاحا قادرا على ضبط المجال وتأديب القبائل الثائرة في وجهه، لكن هذه النتيجة لم تأت من فراغ، بل هي وليدة علاقة مد وجزر بين القطبين، المخزن من جهة والزعماء المحليين من جهة أخرى. لينتهي مسلسل الأحداث بينهما في النهاية إلى تمثيل القطب الثاني للقطب الأول، بناء على مصالح متبادلة بين الطرفين، حيث تجعل كل واحد منهما يحافظ على مكتسباته.

إن أصالة أفكار هذا الكتاب مرتبطة بتخصيص جزء كبير للتاريخ الديني، سيما أن معظم الدراسات المنجزة لم تخصص له سوى صفحات مشتتة الأفكار، لا تعدو أن تكون تكرارا لما هو موجود في بعض كتب الرحلات وتقارير الاستعلامات العامة. إن التركيز على التاريخ الديني مرتبط بكون شيوخ الزوايا وفقهاء الشرط والأعيان لعبوا أدوارا طلائعية، باعتبار تحركاتهم وأدوارهم هاته كانت محركا للأحداث في سوس في ما بين المركز والهامش؛ وكمثال عن ذلك الزاوية الدرقاوية الإلغية بقبيلة أيت عبد الله أُسعيد، والأدوار التي لعبها مؤسسها الحاج علي الدرقاوي الإلغي في تهدئة الأوضاع الداخلية، من خلال التحكيم وفض النزاعات بين القبائل المتناحرة، وتدخله بطرق غير مباشرة لصالح أبناء عمومته الذين أنعم عليهم المخزن بظهائر خطة القضاء، أو من خلال تكليف شيخ  الطريقة الناصرية بتِمْكْديشْت بظهير شريف يسمح له بجباية الأعشار وأخذ عشرها لتمويل الزاوية والإنفاق عليها .

إن نماذج الزعماء المحليين المعتمدين في هذا الكتاب بإمكانها تفسير العديد من القضايا التي ظلت مطروحة للنقاش في الساحة التاريخية منذ أمد طويل، من قبيل تفسير تحكم المخزن في مجال منيع ومحصن كما هو الشأن بالنسبة إلى سوس اعتمادا على هذه الزعامات، وكذا الدور الذي لعبته كوسطاء بين القبيلة والمخزن لتحصيل الجبايات وفرض الطاعة، وبخاصة خلال فترات المسغبات والفراغ السياسي».

في الأخير تختم هذه الورقة بخلاصة بليغة: «وفي النهاية يمكن القول إن شيوخ الزوايا، وضمنهم الحاج الحسين الإفراني وعلي الدرقاوي، لعبوا وذلك بصورة  مستمرة دور الوسيط في حل النزاعات المستمرة القائمة بين القبائل من جهة، وبين أطراف المخزن من جهة أخرى. وعن طريق تحكيمهم ووساطتهم لدى المخزن، نال الزعماء المحليون وفي مقدمتهم شيوخ الزوايا امتيازات اقتصادية واجتماعية عن طريق ضوابط اجتماعية متعددة. لقد حصل كل هذا لما نسج شيوخ الزوايا أفكارا كتلك التي قدمها الحاج علي الدرقاوي، حيث قبلها الجماهير وسلموا بها، وبالتالي كان لهذه الأفكار دور كبير في تموقع الشيخ داخل القبيلة ولدى المخزن، وبالتالي لم يكن أمام هذا الأخير سوى خيار استمالة الزعيم المحلي لضبط القبيلة ومحيطها، مقابل مصلحة موزعة بين الطرفين».

 

هدم ضريح سيدي عبد الرحمان.. هل هو بداية ثورة ضد «الدجل»؟

هناك من يشككون في وجود ولي صالح في أغلب الأضرحة المنتشرة في المغرب. ورغم الأصوات المطالبة بإغلاق بعض الأضرحة وهدم أخرى، إلا أنه نادرا ما نسمع عن قرار مشابه لقرار هدم ضريح سيدي عبد الرحمان في مدينة الدار البيضاء.

هذا الضريح الذي ظل لسنوات طويلة يحظى بشعبية كبيرة، ويقصده الآلاف سنويا لممارسة طقوس «غريبة» ظلت مرفوضة لدى العام والخاص، رغم اتساع رقعة الذين يؤمنون بهذا النوع من الخرافات.

علاقة المغاربة بالأضرحة كانت محط اهتمام باحثين ومؤرخين مغاربة. وبين رافض لفكرة ترسيخ وجود الأضرحة في حياة المغاربة وفي صلب معتقداتهم، ومؤمن بضرورة استمرار حضور الزوايا والأضرحة في الحياة العامة، هناك دراسات كثيرة كشفت أن بعض الأضرحة تبقى مجهولة التاريخ، مع وجود احتمال كبير في أنها قد تكون قبورا وهمية لا تاريخ لها، وقد تكون مجرد قبة أشيع أن وليا صالحا مدفونا تحتها.

الدراسة التاريخية وحدها كفيلة بتحديد الأضرحة التي لها فعلا جذور تاريخية معروفة، والأخرى التي نبتت كالفطر.

ورغم أن علماء كبارا، عبر تاريخ المغرب، دعوا إلى إغلاق الأضرحة وإنهاء الأنشطة التي تمارس في بعضها، والتي لا علاقة لها بالدين ولا العبادة، إلا أن استمرار الممارسات الغريبة داخل بعض الأضرحة، ظل دائما موضوع سؤال عن سبب تغاضي المسؤولين عما يقع داخل بعضها.

ضريح سيدي عبد الرحمان واحد من هذه الأماكن التي حظيت بشعبية كبيرة في مدينة الدار البيضاء، مع تضارب الروايات حول الأصول التاريخية للمكان، والقصة الحقيقية وراء تشييد الضريح، وهوية الشخص المدفون تحت قبته، وما إن كان فعلا من الأولياء الصالحين وشيوخ الزوايا الذين دخلوا التاريخ المغربي. المكانة التي يحظى بها ضريح سيدي عبد الرحمان، في المغرب وليس في الدار البيضاء وحدها، قبل هدمه هذه الأيام، تكشف أن الاهتمام بالأصول التاريخية لصاحب الضريح لم يكن يوما في قائمة اهتمامات المترددين على الضريح ولا على القائمين عليه، و«المشتغلين» في جنباته، والذين ظلوا يجنون ثمار شعبيته الكبيرة، خارج القانون. لهذا السبب قلما يُسمع السؤال التالي: «من يكون فعلا سيدي عبد الرحمان»؟

الأجانب الذين جاؤوا إلى الدار البيضاء قبل سنة 1912، انشغلوا فعلا بهذا السؤال، وقد رأوا كيف أن مغاربة منطقة الدار البيضاء، قبل أن تتوسع المدينة، كانت لهم علاقة وطيدة بالأضرحة، حتى أن قبائل الشاوية وعبدة التي هاجمت فرنسيي وإسبانيي الدار البيضاء سنة 1907، كانت الزوايا قد لعبت دورا كبيرا في تأليبها ضد فرنسا، ولم يفهم الفرنسيون كيف أن آلاف المغاربة كانوا مستعدين للتضحية بحياتهم وقتل أكبر عدد من «النصارى»، قبل أن تُجْهِزَ عليهم المدفعيات الفرنسية، فقط لأن الخطاب الذي نشرته الزوايا في أوساطهم، كان تأليبا لهم ضد فرنسا. ولهذا السبب باشر الفرنسيون منذ سنة 1912 سياسة استعمارية جديدة لتحويل الزوايا إلى داعم للحماية، وقد ورد في التاريخ أن بعض شيوخ الزوايا كانوا يرفعون الدعاء بالتوفيق للمقيم العام ليوطي، بعد أن كانوا ضد الحماية في البداية. فهل يُعقل أن تكون الممارسات المرتبطة بالخرافة قد ظهرت في الزوايا والأضرحة عندما استمالتها فرنسا، أم أن ممارسات الشعوذة والخرافة تعود إلى ما قبل دخول الفرنسيين أصلا إلى المغرب؟

+++++++++++++++++++++++++++++

 

معارك 1903.. عندما احتمى المغاربة بالزوايا وتهدم بعضها فوق رؤوسهم

في منطقة «فكيك» ما زالت أطلال بعض الزوايا والأضرحة القديمة موجودة إلى اليوم. وأغلب هذه الأضرحة كانت في قلب المواجهات بين القبائل المغربية والقوات الفرنسية منذ سنة 1830، تاريخ احتلال فرنسا للجزائر.

إذ إن بعض أتباع الزوايا الواقعة في التراب المغربي، كانوا جزائريين، وبحكم أنهم أصبحوا تحت رحمة الاستعمار الإسباني، فقد كان أصحاب الزوايا المغربية التي ينتمي إليها هؤلاء الجزائريون، يحسون بمسؤولية تاريخية أمام مُريديهم الذين صاروا تحت حكم الاستعمار الفرنسي، فهبوا إلى نجدتهم، وهو ما جعل أنشطة القوات الفرنسية تمتد في مناسبات كثيرة لكي تصل إلى المنطقة الحدودية الشرقية مع المغرب، لصد هجومات جيوش القبائل، التي كان أغلبها يحظى بمباركة السلطان ودعمه. وهكذا حدث أن وقعت مواجهات مع القبائل، وتعرضت بعض الأضرحة لقصف المدفعيات الفرنسية، وهو ما جعل السلطان يتدخل في بعض المناسبات، حيث جاءت الجيوش السلطانية من فاس ومراكش، لتأمين المنطقة الحدودية.

ورغم أن بعض القبائل كانت تدخل في صراع مع القوات الفرنسية دون الرجوع إلى العاصمة في اتخاذ قرارات الهجوم، إلا أن مسؤولية السلطان التاريخية، خصوصا المولى عبد الرحمان وبعده المولى محمد الرابع، مع ابنه المولى الحسن الأول الذي تولى الحكم سنة 1873، جعلت هؤلاء السلاطين يباركون أي تدخل للدفاع عن الأراضي المغربية ضد حملات الفرنسيين.

إلا أنه وبعد وفاة المولى الحسن الأول سنة 1894، وتغير مجريات السياسة عندما أصبحت الجزائر رسميا مستعمرة فرنسية، فقد أصبح المغرب أمام مرحلة جديدة، يفترض فيها ألا تدخل القبائل في أي مناوشات مع الجيش الفرنسي.

لكن في عهد المولى عبد العزيز، وبالضبط سنة 1903، فقد وقعت مناوشات في منطقة فكيك، سببها ولاء بعض القبائل الجزائرية للمغرب، وإصرارها على ضرورة زيارة أضرحة وزوايا توجد خارج نفوذ القوات الفرنسية التي كانت تحكم الجزائر.

كانت منطقة فكيك تحتوي على عدد من الأضرحة، وكان الفرنسيون يرمون إلى توسيع الهوة بين المغرب والجزائر من خلال وضع الحدود لتحول بين القبائل التي تربطها مصاهرات تعود إلى مئات السنين. وما زالت إلى اليوم قبائل في الجزائر تعتبر نفسها مغربية، وطالب أفرادها منذ سبعينيات القرن الماضي في عز حرب الصحراء ضد البوليساريو، بالسماح لهم بزيارة الزوايا لإحياء تقاليد الطرق الصوفية، معلنين أنهم مغاربة، رغم أن تلك القبائل تقع في منطقة الحدود الجزائرية التي رسمتها فرنسا.

كان الجيش الفرنسي على الحدود على موعد مع معركة عنيفة قادتها القبائل المغربية باستعمال البنادق المحلية، لكن نتيجتها حسمت لصالح المغرب، بحكم أن الهجوم كان كبيرا ومباغتا، ولم تملك القوات الفرنسية إلا الانسحاب.

سبب المعركة، أن بعض وحدات الجيش الفرنسي استفزت سكان منطقة فكيك من خلال بعض الأبحاث التي كانت تجريها للتنقيب عن المناجم لاستخراج الحديد. ولعبت الزوايا والأضرحة دورا كبيرا في حشد السكان وإلقاء خطابات حماسية فيهم، لكي يتوحدوا لمواجهة التدخل الفرنسي في المنطقة.

ورغم أن اتفاق لالة مغنية كان يكبل المغرب، إلا أن قبائل «فكيك» شنت الغارة ضد الفرنسيين ليلا، في منتصف مارس من سنة 1903، واستمر الهجوم على وحدات الجيش الفرنسي لساعات سقط خلاله آلاف الجرحى في صفوف الجيش الفرنسي، وتمت مصادرة مخازن الذخيرة التي نقلت على ظهور البغال إلى القصور الطينية التاريخية والقصبات التي تزخر بها المنطقة.

فشل الفرنسيون في استعادة السيطرة على الوضع، فقد هاجم آلاف الملثمين المغاربة فوق خيولهم الثكنات العسكرية التي كانت تنتصب وسط الصحراء، وتم تنكيس الأعلام الفرنسية.

مع مطلع الفجر، بدأ الفرنسيون في إحصاء الجرحى والقتلى، واعتبرت المعركة تأديبا كبيرا للجيش الفرنسي الذي أعلن يومها سحب وحدات كثيرة من قواته في اتجاه الجزائر، في وقت كانت خلاله القيادة الفرنسية تدرس طريقة مناسبة للرد عبر القصف بالطائرات. لكن المغاربة وقتها كانوا يعيشون حالة فرح عارم، بفضل الانتصار الكبير الذي أحرزوه ضد الجيش الفرنسي على الحدود، وتحدث عنه باحثون وصحافيون فرنسيون متخصصون في تاريخ الحروب الاستعمارية الفرنسية في المغرب، وأبرزهم «غوستاف بابين» الذي قال عن تلك المعركة إنها كانت أكبر إهانة للجيش الفرنسي في المنطقة، قبل حروب 1914.

كانت تبعات هذه المواجهة عنيفة ضد المغرب، حيث تعرضت قرى كثيرة في المنطقة الشرقية، وصولا إلى أقصى الجنوب الشرقي لقصف فرنسي بعد 1912، وكان الهدف تصفية مناطق تكتل القبائل التي تجمعها رمزية الأضرحة والزوايا، إذ إن الفرنسيين كانوا يُدركون مبكرا أن الزوايا مقدسة في المغرب، لذلك وضعوها نصب أعينهم.

 

 

الريسوني استعمل الزوايا لمواجهة إسبانيا

رغم أن بعض العلماء المغاربة، ما بين سنتي 1912 و1920، خصوصا علماء القرويين، حاربوا أغلب ظواهر الجهل التي عششت في بعض الزوايا، إلا أن شعبية الزوايا ظلت طاغية في أغلب مناطق المغرب. ولم يفلح الفقهاء المتنورون، وكبار الشيوخ، في مواجهة شيوخ الطرق الصوفية الذين كان بعضهم يستغلون الزوايا لجمع المال.

وسبب تقوي نفوذ هؤلاء الذين يتزعمون الزوايا، هو الولاء لشخصيات سياسية كانت تحكم المغرب أيام «السيبة». ومن بين هؤلاء نجد الريسوني الذي جمع بين العلم والسياسة واتُهم بأنه كان أيضا قاطع طريق، رغم أن ما يشفع له تاريخيا هو مواجهته لإسبانيا في منطقة الشمال، ونجاحه في الضغط على المفوضين السامين الذين تعاقبوا على منطقة الشمال، لكي ينتزع منهم المكاسب.

وهذا التذبذب بينه وبين الإسبان تسبب في عمليات قصف محت بعض القرى في المنطقة الشمالية من الخريطة، تماما مثل ما وقع لمنطقة «تازروت» نواحي القصر الكبير، وقرى أخرى قريبة قُصفت بالطائرات الإسبانية ودُمرت عن آخرها مرات كثيرة ما بين سنتي 1918 و1921، بسبب ولاء سكانها للريسوني وتمكسهم بالزوايا التي تعلن موالاتها له.

حتى أن بعض الزوايا، كان يُرفع فيها الدعاء مؤازرة للريسوني، وتدفع إتاوات مباشرة له لتمويل حربه ضد الإسبان، وضد قبائل مغربية أخرى، حيث إنه خاض حروبا ضد مغاربة، سقط فيها الضحايا بالآلاف، أكثر مما أصاب من الإسبان.

وهنا، نورد مقطعا من مذكرات الشريف الريسوني التي انفردنا بترجمتها إلى العربية في «الأخبار»، كما حكاها بنفسه للمغامرة البريطانية «روزيتا فوربس» والتي وصفت بنفسها علامات الدمار والخراب المنتشرة في أرجاء منطقة نفوذ الريسوني، بسبب القصف الإسباني:

«تم توجيه ضربة إليّ باسم مولاي المهدي، وكانت على شكل مصادرة ثانية لممتلكاتي. وقد تم تعميم قرار بهذا الأمر على كل القرى. جاء فيها: (صادروا كل ما يملك من متاع. في القرى والمدن. صادروا أحصنته وقطعانه وضيعاته وكل شيء فوق أراضيه، وحتى ما يملكه مساعدوه وموظفوه. ويجدر أيضا تجريده من الأموال التي يصادرها من الزوايا والأوقاف).

كانت تلك الرسالة جيدة، ولا بد أنها أعجبت أعدائي. لكن الأغراض الوحيدة التي كنت مهتما بها وقتها، هي البنادق ومحاصيل الحبوب. عرفتُ أنه سوف تكون هناك مجاعة أخرى في التلال، وقد حاولت أن أواجهها بتخزين كميات من الشعير في تازروت. وسرعان ما سمعتُ أن عدوي القديم «سيلفستر» قد عاد إلى المغرب.

لا بد وأنه سعيد بهذه الفرصة ليهزمني، لكنني أقسمتُ أن نهاية الحرب يجب أن تكون نهايته هو، أو نهايتي أنا.

قال لي بعض الرجال:

– إن هذا إشارة إلى أن الحرب لا رجعة فيها.

وأجبتُهم:

– لقد عاد الآن إلى المغرب للمرة الأخيرة في حياته، ولن يرى بلاده التي جاء منها مرة أخرى.

أعطيتْ تعليمات لسيلفستر في سبتة، وكنت أنوي وقتها أن أقابله وجها لوجه».

هذه المواجهة التي تحدث عنها الريسوني، وسجلتها روزيتا فوربس أثناء لقائها معه صيف سنة 1923، تمت فعلا، ولجأ فيها بعض أنصار الريسوني إلى الزوايا، ظنا منهم أنها سوف تكون حصنا منيعا يحول بينهم وبين هجوم الإسبان. لكن ما وقع أن بعض قبائل جبالة، لم تتردد في شن هجومها على هذه الزوايا، بعد أن انتشرت إشاعات مفادها أن الأضرحة استُعملت لتخزين الحبوب عندما انتشرت المجاعة!

 

 

مغامرة القنصل الأمريكي سنة 1909 مع زعيم «زاوية» مطلوب لـ«المْخزن»

يذكر القنصل الأمريكي، السيد إدموند هولت – والذي اشتغل في المغرب، داخل أروقة المفوضية الأمريكية في طنجة، والتي ما زالت موجودة إلى اليوم-  في مذكراته قصة عن زعيم قبيلة ينحدر من منطقة سوس، وكان لاجئا في طنجة، هربا ممن يحاولون تصفيته في منطقة نفوذ بعض القبائل المخزنية.

مثل هذه الصراعات، في السنوات القليلة التي سبقت إبرام معاهدة الحماية، كانت منتشرة، لكنها نُسيت وطواها التاريخ. ولعبت فيها الزوايا دورا كبيرا، إذ يكفي أن يعلن زعيم قبيلة من القبائل العداء مع قبيلة أخرى، حتى تُقحم الزوايا في الموضوع، وقد تنال نصيبها من الهدم أو تتعرض لهجوم لإخضاع مُريديها وضمهم إلى فريق دون آخر.

يقول القنصل الأمريكي متحدثا عن السوسي الهارب إلى طنجة الدولية، بعيدا عن نفوذ الزاوية التي كان على خلاف معها: «كان هناك متمردون تريد الدولة رأسهم، وتضع مكافآت لمن يأتي بهم، لكن لا أحد منهم ألقي عليه القبض يوما. لقد رأيت زعيما سوسيا، اسمه القائد بوسلهام، في طنجة. وكان وقتها موضوع جوائز كثيرة لمن يأتي برأسه. لأنه، وحسبما أذكر، فقد كان هذا القائد بوسلهام يرفض أداء الضرائب للدولة. والأكثر من هذا أنه تعرض لموكب عربة في الطريق ما بين «موكادور» (الصويرة) ومراكش، وأصابها بأضرار وقتل اثنين أو ثلاثة من الحراس المرافقين للعربة.

لقد كان ظهور بوسلهام أخطر خروج علني لخارج عن القانون. كان منظره مرعبا، ونظراته قوية، ويزيد من هيبته منظر لحيته السوداء الكثيفة وشارباه الضخمان، بينما نظراته كانت تبدو وكأنها تركز على سلسلة ساعتي أو حزامي. كان يترك انطباعا لدى الماثل أمامه، وكأنه سيهاجمه في أية لحظة، بمجرد النظر إليه.

لقد كانت مفاجأتي كبيرة عندما دعاني لزيارته يوما ما في سهول سوس كما يقول. لكني احتفظت بدعوته، وقلت في نفسي إن زيارتي إليه لن تتم إلا إذا أصابه خطب ما.

القائد أنفلوس المسكين، كان في طريقه إلى الترقية في سلك المخزن كموظف مخلص للدولة، ولكنه اغتيل في الطريق.

كان يتمشى في حديقة منزله عند الغروب، باغته أحد عبيده، بعد أن حصل على مكافأة من أعداء سيده لينفذ العملية، من الخلف وطعنه. تعين ابنه مكانه في السلطة بعد مقتله.

في سوس كانت هناك دويلة «فيدرالية» تابعة للدولة، والتي ينتمي إليها كل السوسيين.

في سوس، الأراضي كلها تابعة للسلطان، ولا أحد يستطيع امتلاك الأرض هناك دائما. قد يستطيع أحد الحصول عليها بالكراء، لكن يستحيل على أجنبي امتلاكها. بمعنى آخر، قد يستطيع أحد شراء ثمن استعماله للأرض إلى الأبد، لكنها تبقى دائما في ملكية السلطان».

كانت الزوايا حاضرة بقوة في هذه الصراعات «المغربية» التي أشار إليها القنصل هولت في مذكراته «أرض الغروب العجيب»، وقد كانت في عينيه أرضا عجيبة فعلا. كما أنه أشار في مذكراته، التي كانت أشبه بتقرير استخباراتي عن المغرب أكثر مما هي تسجيل لتجربة مهنية في المغرب، إلى أن التصوف هو السائد في المغرب. إذ قال إن أصحاب الزوايا احتفظوا لأنفسهم بقيمة رمزية كبيرة، رغم كل التجاوزات التي أقحمت فيها الزوايا أو الأضرحة.

 

 

عندما «ثارت» الدولة ضد الأضرحة..

رغم أن أغلب الشخصيات المخزنية والسياسية التي تعاقبت على حكم المغرب، كانت تبتعد قدر الإمكان عن إثارة غضب المشرفين على الزوايا والأضرحة، وتتجنب عدم الدخول معهم في حروب أو مواجهات، إلا أن بعض الظروف السياسية التي مر منها المغرب، فرضت أحيانا الدخول في مواجهات مع بعض الزوايا والأضرحة، التي كانت تمرر خطابات تهدد أمن الدولة واستقرارها.

ولعل واحدة من أعنف المناسبات التي استُعملت فيها الأضرحة ضد المخزن، عندما خرج المدعو «الروگي» والذي عُرف أيضا بلقب «بوحمارة» بعد وفاة المولى الحسن الأول سنة 1894، لكي يعلن أنه ابن للسلطان وأنه يسعى إلى حكم المغرب. فقد لجأ هذا الأخير إلى الأضرحة لحشد الأتباع، وفعلا نجح في هذا الأمر، وأقحم أضرحة ما بين تازة وفاس، وما أكثرها وبعضها لا يزال قائما إلى اليوم، في المعركة بينه وبين المخزن.

وبسبب هذا الإقحام، تعرضت بعض الأضرحة لهجوم من قطاع الطرق، وأحيانا من موالين للمخزن، لهدها فوق رؤوس المحتمين بها، والذين انضموا إلى ثورة «الروگي».

كانت هذه المواجهة قد كلفت أحد المخزنيين الكبار منصبه، يتعلق الأمر بوزير الحرب المغربي المهدي المنبهي الذي فشل في احتواء هذه الثورة، رغم تدخله لتأليب بعض الزوايا ضد الروگي، إلا أن تحرك هذا الأخير فوق الميدان فاق تحركات الوزير، وهو ما جعل القصر في فاس يتخلى عن خدمات الوزير المنبهي، لكي يغادر هذا الأخير إلى منطقة طنجة الدولية التي تقاعد فيها إلى آخر أيام حياته.

أحد الصحافيين الأجانب الذين كانوا في زيارة إلى المغرب تزامنا مع ثورة «الروگي» أو بوحمارة، هو الصحافي والرسام البريطاني «لاورنس هاريس»، صاحب مذكرات «خلف الكواليس مع المولى عبد الحفيظ»، حيث جاء في مذكراته التي كشف فيها عن بعض الممارسات التي كانت تقع داخل ضريح بمدينة العرائش: «لقد حظيت أيضا بزيارة ضريح في نواحي مدينة العرائش، وسمعت كثيرا عن النساء اللواتي يكن هناك، في انتظار أن تحل مشاكلهن في الإنجاب على يد المدفونين في الأضرحة. لكني لم أصدق هذه الأمور إلى أن رأيتها بعيني.

كان هناك رجل يخلع ملابسه كلها، ويكاد يكون عاريا إلا من ثوب متهالك يستر به عورته ويحمل وعاء معدنيا كان يغلي فوق الجمر، ويشربه ساخنا إلى درجة الغليان، دون أن يصاب بأذى. ولولا أنني لم أره مباشرة لما صدقت أن الأمر ممكن.. في المغرب، على الأقل.

بجواره كان شاب آخر يثقب لسانه بسكين، ويصيح منتشيا، ولم تكن تبدو على ملامحه نهائيا أي آثار للألم.

أخبرني مرافقي أن هؤلاء ليسوا من السكان المحليين، وأنهم جاؤوا من نواحي منطقة مراكش. يكسبون قوتهم بهذه الطريقة المفزعة، ويروضون الثعابين. يقضون السنة متجولين بين الأضرحة في مختلف المناطق، ويرضون بأي مال يُمنح لهم، ولا يناقشون أحدا، ويفضلون النوم ليلا في الطرقات.

حاولت الاقتراب قليلا من أحدهم. كانت الندوب تكسو جلده بالكامل، وأسنانه مهشمة. وبينما هو على تلك الحال، جاء إليه أحدهم بسكين، وبدأ يثقب جسده بالكامل إلى أن تشبع ثوبه بالدماء، وكان يغني بصوت مرتفع وهو يقوم بتلك العملية.

كان عشرات الشبان والأطفال يراقبون هذا المشهد، بل ويستمتعون بهذه الفرجة. بعض الأطفال كانوا مصحوبين بآبائهم، ويتابعون العرض باهتمام، رغم كمية العنف المرعبة التي تتضمنه. وقبل أن تزول عني الدهشة الممزوجة بالصدمة، رأيت بعيني كيف أن أصغر المشاركين سنا، وكانت لحيته الخفيفة في طور التكوين، يحمل جمرة صغيرة مشتعلة، بأعواد خشبية، ويضعها في فمه. ابتلعها مغمضا عينيه والناس يتابعون المشهد».

هذه الممارسات، حسب تحليل هذا الصحافي، تجعل الناس ينظرون بنوع من التقديس إلى بعض الأضرحة، وهو ما يجعل السيطرة عليهم سهلة، وقد استعمل «الروگي» هذا المبدأ لحشد أتباعه، وجر أضرحة كثيرة إلى قلب المعركة، وتسبب في هدمها أو إغلاقها بيد المخزن وإنشاء أخرى لتعويضها!

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى