شوف تشوف

الرأيالرئيسية

إفريقيا الحائرة صحيا

 

القاهرة: خالد فتحي

 

تبدو طرق الارتقاء بالصحة طويلة ومعقدة أمام إفريقيا، فما إن تتبدى لها نقطة الوصول، حتى تظهر لها أشواط جديدة يتعين قطعها. هذا ما سجلته الجلسة العلمية الحوارية حول تحدي التطوير المهني المستمر بإفريقيا، بالمؤتمر الإفريقي الصحي الثالث بالقاهرة. والذي يعني مواكبة كل مهني صحي للمستجدات في مجال اختصاصه، سواء كان جراح دماغ أو طبيبا عاما أو مروضا طبيا أو نظاراتيا…

فلسفة هذا التطوير أن المهني الصحي يتلقى خلال سنوات الدراسة الجامعية تكوينا ابتدائيا فقط، لا يغنيه عن تطوير نفسه في ما بعد، لأن المعلومات والممارسات تتجدد وتتناسخ، وبالتالي من حق المجتمع والأفراد أن يستوثقوا بأن المهني الصحي يسدي لهم دائما خدمات صحية، وفق أحدث الابتكارات والممارسات، وأنه لم يقعد، بل حَيَّنَ معلوماته ومهاراته بدون انقطاع. وبالتالي ضرورة أن تفرض القوانين تقديم الدليل على بذل هذا المجهود كل 3 أو 4 أو 5 سنوات، لتجديد رخصة العمل.

هذا المفهوم الثوري لا يزال للأسف على الرغم من بداهته مشوشا لدى الأفارقة، حيث ما زال بعضهم يخلط بينه وبين التكوين الطبي المستمر الذي يعني فقط تنمية المعارف، بينما يعني التطوير المهني 3 جوانب، أن نطور المعارف، ونجود المهارة للجميع، وأن ندبر فوق ذلك المخاطر لبعض الاختصاصات وذلك بشكل منتظم ودوري. إنه يعني باختصار أن كلا من الطبيب والممرض والعامل الصحي سيصيرون طلابا مدى الحياة المهنية.

دول العالم المتقدم قطعت خطوات عملاقة في هذا المجال، لكن منظوماتنا الصحية ما زالت تتلكأ وتتجاهل. ليس لأنها لا تعرف أهمية التطوير، بل لضيق ذات الذات، خصوصا وأنه سيفرض اعتمادات هائلة لا تتوفر لدى غالبية المنظومات الصحية الإفريقية الشحيحة الموارد المادية واللوجستيكية والبشرية. بدأ هذا التطوير أولا بكندا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم إنجلترا، فأستراليا، وبعد ذلك تفرنس، فاعتمد تبعا لذلك من قبل كل الدول الأوروبية تقريبا. هو حراك صحي عالمي يفرض علينا وجوبا اللحاق به، لكن هذا الورش في السياق الإفريقي يطرح أكثر من تحد وأكثر من سؤال. فالفكرة ليست من بنات أفكار منظوماتنا، أو تشريعاتنا. نحن كما تخمنون منفعلون في هذا الحقل كعادتنا ولسنا فاعلين.

ولذلك إذا كان هذا التطوير ضروريا، وهو كذلك بدون شك، فهل سنقوم فيه بنسخ التجارب الغربية، مع الخطر الذي تتضمنه في أن نؤسس لتبعية جديدة للغرب، في زمن السعي إلى سيادة صحية إفريقية؟ أم علينا أن نتعظ بتجربة كورونا، ونترك للغربيين من الآن تطويرهم، ونخلق تطويرنا الخاص الذي يراعي الفجوة بين الصحة الغربية وبين الواقع الإفريقي ذي الخصوصيات والهموم والأولويات المختلفة؟ وهل إذا أردنا ذلك سنكون قادرين على الإنجاز؟ هذه بضعة أسئلة من أخرى كثيرة طرحتها في مداخلتي على الأطباء الأفارقة، أسئلة كانت تتفرع في عقولنا كما تتفرع أنفاق الميترو، فنتهيب معها ضخامة هذا الورش الذي ليس منه بد… في إفريقيا نعرف دائما طرح الأسئلة، لكننا لا نملك لها دائما الأجوبة الشافية المنقذة.

فهل على إفريقيا مثلا أن تطبق هذا التطوير على كل المهن الصحية كما فعلت الدول الغربية؟ أم تتدرج في ذلك، وتقصره بداية على الاختصاصات الحيوية؟ ثم هل تجعل هذا التطوير إجباريا، أم تتركه اختياريا؟ وكيف تدبره؟ هل من خلال هيئة تابعة للدولة، أو تخص به الهيئات المهنية، أو حتى تبقيه مشاعا بين الدولة والهيئات؟

ومن يمول هذا التطوير؟ إذا كانت الدولة، فهذا سيفرض عليها أعباء مادية لا قِبَلَ للكثير من الدول الإفريقية بها، وإذا نهض به المهنيون، ففي هذه الحالة من يمنع امتعاضهم؟ ومن يضمن انتظامهم فيه؟ ثم هل نستعين بالصناعة الدوائية في التمويل، أم نحرر التطوير منها بسبب تناقض المصالح عندها؟ وما هو دور الذكاء الاصطناعي، هل سيسهل مهمة إفريقيا، أم سيجعلها تجري دائما وراء السراب؟

التطوير المهني سيفرض شئنا أم أبينا تصنيفا جديدا، سوف نفرق من الآن فصاعدا، من خلاله بين مهني صحي محين وآخر غير محين، وبين منظومة صحية جاهزة متفوقة وأخرى متعثرة متخلفة. ولذلك لا مناص لإفريقيا من إرسائه. ولكن إرساءه في ظروفها الحالية، قد يشكل بالنسبة إليها سباقا محموما قد لا تطيقه…. شيئا أشبه ما يكون بسباق التسلح الذي كان بين أمريكا والاتحاد السوفياتي. ولذلك قد ينتهي رغم ملحاحيته وضرورته، مثلما انتهى الأمر بموسكو الى إنهاك إمكانيات الصحة الإفريقية. ما نخافه هو أن يستقطب الغرب بحثا عن هذا التطوير أطباء إفريقيا من خلال الهجرة، وأن يستقطب طلبا له كذلك مرضاها الميسورين، لأنه ينفرد بوضع المعايير وبإمكانياته سينفرد بالأطر الصحية التي تجدد دبلوماتها باستمرار، أي أنه سيستأثر بالجودة. وهذا مما سيربك أكثر منظوماتنا الصحية، في حال تأخرها في إنجاز هذا الانتقال..

خلاصة القول إنه لا بد أن تكون لإفريقيا وصفاتها، لا بد لها أن تتكاتف، وتتبادل التجارب وتتقسم المهام، لكي تصنع تطويرها المهني الذي يلائم أولوياتها الصحية.

إفريقيا تواجه عالما شديد المحال وفي تقلب مستمر يطال كل مجال، والانخراط في التحولات يتطلب حلولا إفريقية من خارج الصندوق، فهل قارتنا مستعدة لكسب الرهان؟ حقيقة هذا ما نستبعده وما لا نستبعده في الوقت نفسه. إفريقيا مفتوحة على كل الاحتمالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى