شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

الأقلية المبدعة

 

 

بقلم: خالص جلبي

دراسة التاريخ تفيدنا بأن انطلاق الحضارات يبدأ دوما من «قلة» نادرة مبدعة، تسوق الناس على لحن المزمار، فتتبعها الأكثرية بآلية المحاكاة والإعجاب.

ويحصل العكس في أطوار تصدع المجتمعات، حيث تتحول هذه «القلة» بعد أن فرغت شحنتها الإبداعية إلى أقلية مسيطرة مستبدة تسوق الناس بالسوط والإرهاب، وهي إشارة الانتهاء لمسيرة المجتمع الحضارية.

المقارنة بعالم النبات:

أمامنا حديث يصف الإنسان الجديد المكيف، ولكن يهمنا من ما ذكرنا من المنظر السنني الشمولي، أي محاولة النظر في الطبيعة الإنسانية من خلال الوجود الواسع (عالم المادة- عالم النبات- عالم الحيوان وهكذا).

أما الحديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى تهيج، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على أصلها لا يفيئها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة»، صحيح مسلم. وهذا المثل النباتي يشير إلى مرونة المؤمن، وكيف تنضجه الأحداث.

والقرآن ككتاب تربوي نزل وأوصى بهذه الطريقة، ولم يتنزل وثيقة باردة أو نظرية للدراسة، بل كان يتنزل مع الأحداث، وعندما أراد المشركون تنزيله دفة واحدة: {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة}، [الفرقان: 32]. كان الجواب: {كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}، [الفرقان: 32]. فالقلب يثبت من خلال التنزيل المتدرج مع الحوادث بالطريقة التربوية التي هي النقش على الأعصاب، أو الضرب على الساخن، بحيث تعيش الكلمات مع ذكريات حيوية للحوادث، وقد شبه القرآن المؤمنين بالزرع أيضا.

كان تعبيره دقيقا في النضج «حتى يهيج» {كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفرا، ثم يكون حطاما}، [الحديد: 20]. {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلط فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}، [الفتح: 29].

المقارنة بعالم الحيوان…

جاء في الحديث الصحيح: «تجدون الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة»، صحيح مسلم.

هذه المقارنة تدرب عقولنا أيضا على النظر السنني، فكما أننا يجب أن لا نتوقع في الإبل إلا نسبة 1 في المائة، مما تصلح لعبور المفازات، كذلك أصناف البشر، فالطلائع اليقظة التي تتمتع بحس دقيق لحمل فكرة والتضحية من أجلها، هي نسبة ضئيلة في حدود 1 في المائة من البشر ولا غرابة في ذلك، وكذلك العناصر القيادية التي تقود الجماهير فهي دوما نسبة صغيرة.

وهذا مهم أيضا أثناء ممارسة العمل، فعندما نرى تساقط العناصر يجب أن نعلم أن هذا هو الأمر الطبيعي، ومع هذا فلا يجب أن نستسلم ونقف مكتوفي الأيدي، فلا بد من الاتصال بهذه العناصر مرة أخرى، لإيقاظ الحماس فيها حتى تتابع الطريق، فمن الخطر أن يؤثر فينا تساقط هذه العناصر فيكون مصيرنا السقوط.

إذن فطبيعة النظر السنني تجعل هناك قدرة في السيطرة على المشاكل..

وفي قصة طالوت وجالوت- كما ذكرها القرآن- معنى عظيم يبين فكرة النسبة المئوية التي ذكرت، ففي مراجعة النص تشعر أن كثافة الجموع الأولى غربلت فلم تبق إلى القلة، وتتضح كما يأتي:

أولا: قوله تعالى: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم}، [البقرة: 246]. (لنفترض بقاء 10 في المائة وتراجع 90 في المائة، أو بقاء 10- 20 في المائة وتراجع 80- 90 في المائة).

ثانيا: الغربلة الثانية عند عبور النهر في قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا منهم}، [البقرة: 249]. (لنفترض أيضا نفس حجم التصفية السابقة، أي من أصل 20 في المائة بقاء 2 في المائة، أو من 10 في المائة بقاء 1 في المائة).

ثالثا: نقطة الامتحان الثالثة: ولم يذكر النص القرآني تراجعهم، كل ما ذكر خوف قسم منهم من هذا اللقاء، كما في قوله تعالى: {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}، [البقرة: 249]. وهذه النسبة الضعيفة هي المبتغى كما جاء في الحديث، أي 1 في المائة وهي التي كتب على يدها النصر.

فإذا أنجزنا هذه الفكرة بشيء من السرعة، قلنا إن هناك عوامل تتعاون في إيجاد محصلة لنوعية معينة من طبيعة البشر، وقد أكدنا في ما مر على جانب النظر الثابت (الاستاتيكي)، والآن سنلفت النظر إلى الجانب الحركي (الديناميكي).

المستوى الثاني: تأمل النفس البشرية من خلال منهج حركي سنني…

أي إمكانية تدخل التوجيه في تطوير الطبيعة البشرية.

بحث الإنسان المكيف:

الفكرة الأولى: يجب أن ندرك في مدخل البحث أن مستوى أو قطاع النفس البشرية عالم يقوم على سنن الله في خلقه، كما هو الحال في عالم المادة أو الخلية أو النبات أو الحيوان الأدنى منه، أو إذا اتجهنا إلى أعلى، أي إلى الجماعة والمجتمع، والحضارة والإنسانية، والقرآن أشار بثبات إلى هذا الجانب، والشيء الذي تناوله هو جانب السنن الاجتماعية أكثر من السنن المادية، وهذه لم يسلط عليها الضوء إلا من خلال السنين الخمسين الأخيرة.

الفكرة الثانية: إذا ثبتت هذه الفكرة قلنا إن هناك تداخلا بين عالم الحرية والقانون، فقابلية الإنسان لاعتناق فكرة، أو قابلية تربيته لأن يكون فعالا هي في مستوى قوانين النفس، ولكن القناعة بفكرة دون أخرى إنما هي في عالم الحرية الواعي لدى الإنسان، وهناك صلة خفية بين طبيعة الأفكار التي يحملها الإنسان والعالم النفسي الميكانيكي الداخلي، فنوع من الأفكار يمنح الفعالية، والآخر الكلل.

ودور الجهد البشري هو محاولة التدخل ليس في تطوير الطبيعة الأساسية للبشر، بل لتعديل هذه بما يتفق مع طبيعة أفكار تعطيها الفعالية والانطلاق.

وهي هنا في إطار المحنة تعطيه فهما واعيا ورد فعل واع، وبالتالي تماسكا عقلانيا واضحا أمام ما يحدث، فإلى ضبط المحنة وتجاوزها.

وهذا البحث يعتبر من أخطر البحوث، أشرت فقط في هذه الأسطر القليلة إليه، على أمل أن أستطيع بحثه في مكان آخر بشكل أوسع.

نافذة:

هناك صلة خفية بين طبيعة الأفكار التي يحملها الإنسان والعالم النفسي الميكانيكي الداخلي فنوع من الأفكار يمنح الفعالية والآخر الكلل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى