التاريخ المنسي لفرق الإغاثة المغربية
قصص المتطوعين في الكشفيات والمساهمين في الأشغال:
يونس جنوحي
تأسست الكشفية الحسنية المغربية سنة 1933. وكانت أول إطار تعلم فيه المغاربة العمل الاجتماعي. ومع بداية العمل الجمعوي في المغرب، تعلم الشبان المشاركة في المبادرات الوطنية مثل التلقيح وتوزيع المساعدات على المغاربة. ثم جاءت سنة 1975 لكي يتأسس الهلال الأحمر المغربي. وألمت بالمغرب أزمات وحوادث وفواجع، ساهم الهلال الأحمر في مواجهة تداعياتها جنبا إلى جنب مع الفرق الأجنبية التابعة للصليب الأحمر.
+++++++++++++++++++++++++++++++
عندما تضامن المغاربة وشقوا الطرق ووزعوا الإعانات
ليس زلزال الحوز، أو إقليم تارودانت، أول مرة يختبر فيها المغاربة توزيع الإعانات وفك العزلة عن القرى المنسية. ورغم أن هناك إجماعا وطنيا على أن هذه الحملة التي نعيش أجواءها هذه الأيام، أكبر حملة للتضامن في تاريخ المغرب، إلا أن للمغاربة تاريخا طويلا من التضامن والعمل الاجتماعي قبل حتى أن تتأسس بعض الإدارات المغربية.
أول عملية تضامن مغربية لفك العزلة، وأشهرها أيضا، كانت هي طريقة الوحدة التي بدأت أشغالها سنة 1957. ورغم أن العملية لم تكن سياسية بالدرجة الأولى، إلا أنها عكست وقتها مدى تنظيم حزب الاستقلال، بحكم أن المهدي بن بركة كان هو المشرف الأول على الأشغال والمسؤول الأول عنها أمام الملك الراحل محمد الخامس.
ساهم قدماء المقاومة المغربية بالدرجة الأولى في شق الطريق بالفؤوس، والمعاول والأدوات اليدوية التقليدية، وسرعان ما وُفرت آلات ومعدات ثقيلة لتعبيد الطريق ومدها لكي تصل بين منطقة الشمال ووسط المغرب، في إشارة إلى استكمال المغرب وحدته الترابية، وسحق النظرية الاستعمارية التي كانت تقسم المغرب إلى منطقة إسبانية وأخرى فرنسية. وهكذا وحدت هذه الطريق، ولذلك سُميت “طريق الوحدة”، وربطت بين فاس وتاونات، بطول بلغ 80 كيلومترا.
كان الخطاب الذي ألقاه الملك الراحل محمد الخامس بالمناسبة، حاسما في حشد المتطوعين من كل الانتماءات للمساهمة في الأشغال. كما أن وصول ولي العهد وقتها الأمير مولاي الحسن إلى مكان الأشغال، وإصراره على المشاركة فيها وتناول وجبة بسيطة مع المتطوعين، ألهبت حماس مزيد من الشباب للتطوع. حتى أن بنية بعض الشبان لم تكن تسعفهم لمواصلة الحفر، بينما واصل قدماء المقاومة وبعض المناضلين العملية التي استمرت لأسابيع قبل أن تبدأ أشغال التعبيد.
كانت هذه الطريق عملا مغربيا خالصا بعيدا عن الأشغال الفرنسية التي عملت على مد الطرق في مختلف مناطق المغرب منذ الحماية. لذلك كان النزعة الوطنية حاضرة بقوة في هذا المشروع الذي كان أول تجربة مغربية في مجال العمل الجماعي لفك العزلة عن قرى كثيرة واقعة على امتداد طريق الوحدة.
لم تقع أي حوادث خلال الأشغال، رغم محاولات التشكيك في قدرات المغاربة على شق طريق بجودة عالية. ولعبت تلك الطريق دورا كبيرا في فك العزلة عن مئات الدواوير. واستعملت لتسريع تزويد مئات القرى بالمواد الغذائية خلال مرحلة الانفلات الأمني التي عرفتها المنطقة بعد الاستقلال، بسبب الصراعات السياسية بين بعض قدماء المقاومة وزملائهم الذين انضموا إلى إدارة الأمن. إذ تم تطويق بعض المناطق ومنع الدخول إليها.
من الأحداث الأخرى التي شكلت بداية العمل التضامني المغربي، بعض الحرائق التي وقعت في نواحي خنيفرة، واحترقت بسببها المزارع، بسبب حادث عرضي يتعلق بعطل في برج لأسلاك الكهرباء التي تخترق المنطقة. وتمت عملية الإنقاذ بمشاركة الشبان المغاربة، وحدث هذا قبل تأسيس فريق الإغاثة المغربي، وانخرط مئات الشبان من مختلف مناطق المغرب لتقديم المساعدات للمتضررين والسيطرة على الحريق باستعمال شاحنات لتحميل المياه.
تجدر الإشارة إلى أن المغرب ورث فعلا في الدار البيضاء شاحنة لإطفاء الحرائق، ورثتها الإدارة المغربية عن نظيرتها الفرنسية. إذ كان فريق إطفاء تابع للإدارة الفرنسية يشتغل في كل من الدار البيضاء والرباط، ولم تُعمم التجربة على بقية المدن المغربية، لكن أدوات إطفاء الحرائق التي خلفها الفرنسيون في الإدارة آلت إلى المغاربة واستعملت في إخماد أولى الحرائق التي عرفها المغرب بعد الاستقلال.
الكشفية.. المدرسة الأولى التي تفجرت منها فُرق الإنقاذ المغربية
دائما ما ارتبطت الكشفية بالعمل السياسي، خصوصا عندما تفرعت عن الأحزاب السياسية كشفيات ضمت أبناء منخرطي حزب الاستقلال، وكان وقتها المهدي بن بركة يشرف عليها قبل حصول المغرب على الاستقلال، وكان معروفا أنها ذراع للأنشطة الاجتماعية لحزب الاستقلال، ومنها ظهرت الأنشطة الأكثر شعبية لما كان يُعرف وقتها بـ “آميج”، وهو اختصار لاسم الجمعية التابعة لحزب الاستقلال. وكانت أنشطة هذه الجمعية تحظى بشعبية كبيرة بين المغاربة في منتصف الخمسينيات على وجه الخصوص.
لكن أول “كشفية” في المغرب، فقد تأسست سنة 1933 وأطلق عليها وقتها اسم ولي العهد الأمير مولاي الحسن. وما وقع أن حزب الاستقلال اتُهم بالاستيلاء عليها، رغم أن تدبيرها قد فوض في البداية إلى أعضاء من الحركة الوطنية، وكانوا جلهم منخرطين في حزب الاستقلال. وهكذا، أطلق وطنيون من حزب الشورى، كشفية أخرى لتمثيل شبابهم، وأطلقوا عليها اسم “الكشفية العبدلاوية”، في نسبة إلى الأمير مولاي عبد الله، حتى لا تستمر عملية هيمنة الاستقلاليين على الكشفية بشكل عام.
من هذه الكشفية، تفرعت أنشطة مهمة ساهمت في تجاوز المغاربة لعدد من الأزمات. إذ كان الأطر والمتدربون، يتلقون تكوينا في إطفاء الحرائق والتعامل مع الكوارث مع الطبيعية، وتقديم الإسعافات الأولية. وكانت تلك أول عملية عصرية لتعليم المغاربة كيفية التعامل مع الكوارث الطبيعية، بعيدا عن الطرق الارتجالية ومحاولات الإنقاذ العشوائية.
وظهر هذا الأمر جليا في عدد من الحوادث التي عرفها المغرب في منتصف الخمسينيات، حيث انبرى دائما أعضاء الجمعية التابعة لحزب الاستقلال، أو منخرطو الكشفية، لتقديم المساعدات وإطفاء الحرائق التي كانت تشب في أحياء المدن المغربية القديمة، بالإضافة إلى تقديم المساعدات في المناطق القروية، خصوصا مساعدة المسنين على عبور الوادي في سنوات الفيضانات.
من بين الأنشطة المهمة التي تكلف بها أعضاء الكشفية، نصب مستوصفات متنقلة أثناء حملات التلقيح الجماعية الأولى في المغرب سنة 1956. إذ ساهم منخرطو الكشفية، وأعضاء جمعية حزب الاستقلال، الذراع الحزبي للأنشطة الاجتماعية، في حملات تعميم التلقيح للأطفال والبالغين، ضد الأمراض المزمنة مثل السل والحمى وغيرها من الأوبئة التي كانت تودي بحياة آلاف المغاربة سنويا.
وهؤلاء الشباب، رغم أنهم لم يكونوا ممرضين، إلا أنهم تلقوا تكوينا سريعا في طرق نصب الخيام وترتيب الأدوية، وطرق الحفاظ على عينات اللقاح حتى لا تفقد مفعولها. كما ساعدوا الأطر الطبية، وكان أغلبهم فرنسيين، في ترتيب لوائح المستفيدين، وتعقيم المعدات.
وقد لعب هؤلاء الشباب المغاربة دورا كبيرا في سد الخصاص الذي كان يعاني منه المغرب في الأطر الطبية، إذ لم يكن هناك ممرضون ولا ممرضات لتغطية المغرب كاملا بما يحتاجه من الخدمات الطبية المستعجلة.
+++++++++++++++++++++++++++++++
كارثة «كاريان سنطرال» سنة 1952.. أول تجربة للمغاربة مع عمليات الإنقاذ
عندما اغتيل فرحات حشاد في تونس، قامت الدنيا في أغلب الدول العربية والإسلامية. في المغرب، كان الحدث فتيلا لإشعال المظاهرات في الشوارع. مظاهرات مناوئة للاستعمار ولسياسة فرنسا في المغرب الكبير.
ارتكب الجيش الفرنسي كارثة إنسانية عندما تقرر قمع المظاهرات التي أقيمت يومي 7 و8 دجنبر 1952.
إذ جوبه المتظاهرون السلميون المغاربة، وأغلبهم من أبناء الطبقات الشعبية المستوطنة لكاريان سنطرال التاريخي، برصاص الأمن والجيش الفرنسي، ونزلت الدبابات إلى الأرض لطويق المكان الذي كان يغص بجثامين الشهداء، من مختلف الأعمار.
كانت الكارثة الإنسانية إحدى أصعب اللحظات التاريخية التي عاشها المغاربة في مواجهة فرنسا.
نترك هنا المجال، لاحد أقدم أعضاء المقاومة المغربية وأبنائها، والذي كان شابا مشاركا وقتها في المظاهرات، وأحد أنشط أعضاء خلايا المقاومة في حي الكاريان سنطرا بالدار البيضاء عند اشتعال الأحداث، في حوار سابق له مع «الأخبار». يقول:
« في ذلك اليوم أصدر عسكري فرنسي تابع للإقامة العامة، وكان وقتها يشرف على الأمن في الدار البيضاء، أوامر صارمة بإطلاق الرصاص على المتظاهرين. وهنا أستحضر ذكريات مؤلمة جدا، لأن المتظاهرين سقطوا شهداء برصاص الفرنسيين وكانوا يتسابقون لتلقي الرصاص. كان أغلب الضحايا ذلك اليوم يتسابقون للاستشهاد. فقد كان إيمانهم راسخا.
أثناء المظاهرة، كان الرصاص يمر بجانبي. كنتُ يافعا جدا ومتحمسا، وكنا جميعا نتقدم في المظاهرة رغم أن القمع بالرصاص كان في تزايد. رأيت المئات يسقطون بالرصاص بعد أن يصابوا مباشرة في الرأس أو الصدر. كما أن عدد الجرحى كان كبيرا جدا. هناك من أصيبوا بجروح بالغة لأن الرصاص أخطأ إصابتهم في مقتل، وجرحوا على مستوى البطن أو الفخذ. ونزفوا بشدة. لقد رأيت الموت بشكل جلي في ذلك اليوم.
المهم. انخرط الشبان في سحب جثث الموتى والجرحى أيضا، وهنا أريد أن أشير إلى الدور البطولي الذي لعبته بعض النساء داخل الكاريان. لقد كانت لديهن الشجاعة لتضميد جراح الجرحى رغم أن تعليمات البوليس الفرنسي كانت صارمة وتوعدوا من خلال المقدمين والقياد، بعقاب كل من ضُبط وهو يساعد المصابين.
تم تطويق الكاريان سنطرال بشكل مرعب وصارم حتى لا يدخل إليه أحد.
بقينا على تلك الحال طيلة المساء واستمرينا في نقل جثث المصابين والشهداء إلى حدود الخامسة صباحا. تصور أن أغلب الشبان لم يناموا نهائيا في تلك الليلة. فقد كانت الأوامر لرجال البوليس تقضي بإطلاق النار وقتل كل من يتحرك في الشوارع والأزقة.
المهم أن تلك الليلة كانت تاريخية بكل المقاييس. وعاشها سكان الكاريان بكثير من الترقب. إذ كان داخل الكاريان مسجد تحول إلى مكان لإبعاد جثث الموتى هن الأنظار. قضينا نحن الشباب الليلة في نقل الجثث».
وبخصوص عدد الجثامين، يعلق الزنفري في الحوار مع «الأخبار»:
« لا أذكر بالضبط. كانت عملية انخرط فيها عدد كبير من الشبان والنقابيين التابعين لحزب الاستقلال واستمرت لساعات طويلة. ومن كثرة الجثث المصفوفة تشبعت حصائر المسجد بدماء أولئك الشهداء. بينما الجرحى كانوا يعانون معلقين بين الحياة والموت. ومع طلوع شمس اليوم الموالي للأحداث كان الهاجس الأكبر هو البحث عن طريقة لإنقاذ أرواح الجرحى. وهكذا توجهت إلى عيادة الدكتور الخطيب لهذا الغرض».
كانت هذه الكارثة إذن أول تجربة للشبان الوطنيين المغاربة مع عمليات الإنقاذ وانتشال المصابين وإسعافهم. الدكتور الخطيب، الذي شارك بصفته طبيبا أول، قبل أن يكون وطنيا وأحد أهم الوجوه السياسية التي اشتغلت مع الملك الراحل الحسن الثاني، كان قد عاش بدوره تلك التجربة الاستثنائية حيث باشر إنقاذ المئات في تلك الليلة العصيبة، وإجراء عمليات إزالة الرصاص من أجساد للناجين وخياطة الجروح لوقف النزيف للعشرات، لتأتي بعدها مرحلة عصيبة أخرى تتمثل في تجهيز جثامين الشهداء للدفن. وكانت تلك الكارثة بإجماع الوطنيين من متخلف الانتماءات السياسية، واحدة من أصعب اللحظات التي عاشها مغاربة الدار البيضاء على الإطلاق.
الزيارة المنسية للأميرة لالة مليكة لمقر الصليب الأحمر في جنيف
في أكتوبر سنة 1960، حلت الأميرة لالة مليكة في سويسرا، ووقعت في الكتاب الذهبي لكبار الشخصيات، في مقر الصليب الأحمر الشهير.
كان وقتها الهلال الأحمر المغربي قد تأسس قبل ثلاثة سنوات فقط، والغرض من الزيارة كان تمكين التجربة المغربية من خبرات الصليب الأحمر.
اهتمت الصحافة في سويسرا بزيارة الأميرة لالة مليكة، خصوصا وأنها منحت تصريحات لمجلة سويسرية كشفت فيها رغبتها في رؤية تعاون مستقبلي بين المؤسستين مستقبلا.
الأميرة لالة مليكة كانت مرفوقة في تلك الزيارة، بكل من الدكتور عبد القادر العراقي، الذي كان يشغل منصب الكاتب العام للهلال الأحمر المغربي، والمختار الحاج ناصر الذي كان يمثل المغرب دبلوماسيا في سويسرا.
للأسف، لا تتوفر معطيات كافية عن تفاصيل المهمة التي حلت من أجلها الأميرة لالة عائشة في مقر الصليب الأحمر السويسري الشهير، ولكن ما كتبته الصحافة لمح إلى إبرام تعاون ودي بين المؤسستين.
السياق التاريخي الذي تمت فيه الزيارة كان يحمل أكثر من دلالة. إذ لم يكن قد مر وقتها على زلزال أكادير المدمر، أكثر من سبعة أشهر، وكانت مختلف تمثيليات الصليب الأحمر دوليا قد أبلت جيدا في إنقاذ ضحايا الزلزال الذين كانوا بالآلاف، بالإضافة إلى انتشال جثامين الشهداء من تحت الأنقاض، والذين تجاوز عددهم عشرة آلاف ضحية.
الصليب الأحمر السويسري كان حاضرا بقوة في المغرب ما بين سنوات 1959 و1960 المتزامن مع زلزال مدينة أكادير.
وهو ما جعل ممثليه يربطون اتصالا مباشرا بالأميرة لالة مليكة التي ترأست الهلال الأحمر المغربي منذ تأسيسه في دجنبر 1957.
بالعودة إلى ما نشرته الصحافة في جنيف السويسرية، فإن وصول الأميرة لالة مليكة إلى جنيف أثار فضول نساء سويسريات كثيرات، تسابقن للوقوف بالقرب من مقر الصليب الأحمر لتحيتها. بل إن نساء من المجتمع السويسري طلبن موعدا مع الأميرة، رغم علمهن أن جدول أعمالها مزدحم بالمواعيد، وأن مدة الزيارة قصيرة جدا، بحكم أن الأميرة كانت لديها ارتباطات أخرى.
خلق وصول الأميرة لالة مليكة إلى جنيف الحدث، وحظيت نساء سويسريات بشرف استقبالهن من طرف الأميرة لالة مليكة التي كانت وقتها مثالا لتمكين المرأة المغربية من الوصول إلى المناصب الرئاسية، وهو الأمر الذي كان نادرا حتى في أوروبا. إذ لم يكن الوصول إلى منصب رئاسة مؤسسة للإغاثة، متاحا أمام النساء في أغلب الدول الأوروبية، فما بالك ببلد مثل المغرب، كان قد حصل لتوه على الاستقلال.
وهذه الجزئية بالضبط، هي التي جعلت الصحافة السويسرية تهتم بشخصية الأميرة لالة مليكة، وطبيعة المهام التي كانت تقوم بها على رأس مؤسسة الهلال الأحمر المغربي.
كان الهلال الأحمر المغربي، يحظى بسمعة في الوسط الدولي منذ تأسيسه. إذ أن الكوارث التي عصفت بالمغرب، خصوصا كارثتي الزيوت المسمومة في مكناس سنة 1959، وزلزال أكادير المدمر بعدها بسنة، شكلتا معا تجربتين ميدانيتين، لوضع الهلال الأحمر المغربي تحت الضغط المباشر، وتمكين أفراده من خبرة ميدانية حقيقية. ويكفي مثلا معرفة أن الهلال الأحمر المغربي كان حاضرا في الكارثتين معا، بكل أطقمه التي عملت جنبا إلى جنب مع فرق إغاثة من سويسرا وألمانيا وهولندا وحتى أمريكا وكندا، وهو ما أكسب الهلال الأحمر المغربي خبرة كبيرة على الميدان.
كارثة مكناس.. أول امتحان للهلال الأحمر المغربي
عُرفت أكثر بكارثة الزيوت المسمومة في مكناس. وتزامنت مع العطلة الصيفية لسنة 1959. ولم يكن وقتها قد مضى على تأسيس الهلال الأحمر المغربي سوى سنتين فقط، وبالكاد كان يتم تجهيز الأطر الأولى للعمل الميداني.
سبق في «الأخبار» أن تناولنا موضوع الزيوت مكناس المسمومة وتداعياته بالتفاصيل، وتزامن التحقيق مع بث فيلم وثائقي يحكي تفاصيل وشهادات عن هذه الكارثة الإنسانية التي خلفت أزيد من عشرة آلاف مصاب، لا يزال عدد قليل منهم على قيد الحياة الآن، بعد مضي 65 سنة.
بدأ كل شيء في مكناس، عندما راجت في كميات من زيت الطبخ في الأسواق، كانت في الحقيقة تحتوي على نسبة مرتفعة جدا من زيت محركات الطائرات التي تبقت من مخلفات مستودع القاعدة الجوية الأمريكية، وتسربت في ظروف متداخلة، لكي تقع بين أيدي تجار الزيت الذين قاموا بمزجها مع زيت الطعام وتوجيهها نحو الاستهلاك.
هذا الغش التجاري الذي تسبب في واحدة من كبريات الكوارث الإنسانية خلال القرن الماضي، وضع المسؤولين المغاربة أمام لغز محير. إذ كان الضحايا يتساقطون أرضا بالآلاف بوتيرة متسارعة جدا. وأعطى الملك الراحل محمد الخامس وقتها أمرا فوريا لفتح تحقيق في الموضوع. وعندما انتشر الخبر دوليا بسبب تغطيات الوكالات الدولية للأنباء للكارثة، حلت فرق طبية أجنبية من ألمانيا وفرنسا وهولندا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث احتملوا في البداية أن يكون الأمر يتعلق بوباء غامض، فجاؤوا لمحاولة السيطرة عليه قبل أن يتمدد إلى دول أخرى. لكن أحد الأطباء الأجانب انتبه إلى اللون الحائل لزيت الطبخ في بعض القنينات الزجاجية المعروضة في الأسواق، وأجرى عليها تحاليل مخبرية أثبت على الفور أن الزيت تحتوي على كمية كبيرة جدا من زيت تنظيف المحركات، وهي التي تسببت في إصابة الضحايا بالشلل الفوري والتشوه على مستوى المفاصل.
انتشر الخبر في كل الصحف الدولية، وأصبح الضحايا موضوع اهتمام العالم حيث أحدثت مراكز ميدانية لإيواء الضحايا وإخضاعهم لحصص ترويض على يد فرق متخصصة من مختلف الجنسيات. وسُجلت وقتها أوسع حملة تضامن مع المغاربة حيث خصص الصليب الأحمر مساعدات مهمة للعائلات المتضررة ووضع أجهزة للترويض رهن إشارة المركز الذي فتح في مكناس لتقديم المساعدة لهم.
كانت الأطر الطبية المغربية وقتها في طور التكوين بحكم أنه لم تمض سوى ثلاثة سنوات على استقلال المغرب. وهؤلاء شكلوا أول فريق إنقاذ طبي مغربي بعد الكارثة، حيث عهد إليهم الخبراء الأجانب بمواكبة حصص الترويض واستكمالها بعد رحيل وحدات الصليب الأحمر. حيث يتذكر الناجون من تلك الكارثة كيف أن ممرضات سويسريات الجنسية، كن يشرفن على تدريب ممرضات ومسعفات مغربيات لتقديم المساعدة للضحايا. لكن الأطر المغربية في الهلال الأحمر المغربي، ساهموا أيضا في عمليات ترويض المصابين، وإسعاف الذين تأثروا بالكارثة، وازداد ثقل دور الهلال الأحمر بعد رحيل أغلب الأطر الأجنبية التي كانت تابعة للصليب الأحمر الدولي من مختلف الجنسيات. وكانت هذه التجربة، أول انطلاقة حقيقية لأطر الهلال الأحمر المغربي في العمل الميداني بعد تأسيسه.
قصة فريق الإنقاذ متعدد الجنسيات.. تجربة ماتت قبل أن تنقذ الأرواح
لا يتوفر أرشيف مهم عن فريق الإنقاذ الذي تأسس في مدينة طنجة بعد ظروف سنة 1889، لكن الإشارات التي تحدثت عنه في كتابات الأجانب الذين عاشوا في المدينة أو اشتغلوا فيها، لمحوا إلى أن هذه التجربة تأسست خوفا على أرواح الجاليات الأجنبية التي كانت تعيش في المغرب. خصوصا بعد اندلاع حريق خطير في الغابة المجاورة لطنجة سنة 1886، وكاد أن يودي بأرواح عشرات المواطنين الإنجليز الذين كانوا يخيمون في الغابة الدبلوماسية لممارسة رياضة الصيد.
ومنذ تلك الحادثة تقرر أن يتم تأسيس فرقة إنقاذ مقرها مدينة طنجة الدولية، ويتطوع لتشكيلها مواطنون من الجنسيات الإسبانية والبريطانية والألمانية، ثم البلجيكية والفرنسية.
وما وقع أن خلافا حدث بين المفوض الإسباني والبريطاني، وتوجد إشارة إلى هذا الموضوع في أرشيف صحيفة «التايمز». إذ أن الإسبان كانوا يرغبون في رئاسة فريق الإنقاذ، ومنحه عقارا مملوكا لإسبانيا في قلب مدينة طنجة، لكن البريطانيين اقترحوا أن يتولى فريق خاص من فريق الإنقاذ الملكي في لندن، مهمة تدريب المتطوعين، وتجهيزهم، وهو ما رفضه الإسبان الذين كانوا يرون أنهم الأحق بتدريب فريق الإنقاذ ما دام العقار الذي سوف يكون مقرا له، ملكية إسبانية.
تشكل فعلا الفريق الأول للإنقاذ في مدينة طنجة، وكان عمله يتركز أساسا على إخماد الحرائق، ومراقبة الميناء في حالة ما وقع اصطدام بين سفينتين، للتدخل السريع وإسعاف المصابين.
نشرت الصحافة الدولية في طنجة سنة 1893، أن حريقا نشب في عمارة في قلب طنجة، أودى بحياة سيدتين إسبانيتين، تصدت له فرقة الإنقاذ وحصرته حتى لا ينتقل إلى عمارات سكنية أخرى، واتضح أن سبب الحريق تماس كهربائي في مخزن في الطابق السفلي للعمارة، كان مالكه الإسباني يخصصه لتخزين الصوف. وتسبب الحادث في خلاف كبير بين مكونة فريق الإنقاذ في طنجة، خصوصا وأن الفريق وجد صعوبات كبيرة في توفير الماء الضروري لإخماد الحريق، رغم أن العمارة تقع في قلب المدينة. عجّلت الحادثة إذن بنهاية تجربة فريق الإنقاذ متعدد الجنسيات، لتحل محله تجارب أخرى، خصوصا مع ازدياد عدد سكان المدينة، وتقدم الإمكانيات الطبية واللوجستيك المستعمل في عمليات الإنقاذ. ولم تكد تحل سنة 1914، حتى كانت طنجة تتوفر فعلا على قوات للإنقاذ جاهزة للتدخل لإخماد الحرائق ومواجهة الحوادث المفاجئة، إلى أن عادت المدينة لتصبح تحت السيادة المغربية سنة 1956.
