شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الحق المزعوم في الكذب

 

 

مصطفى خُلَالْ

 

لاحظنا في ثلاث لحظات من التاريخ الجاري «اندهاش» المسلمين من الكذب الذي يطلع به الغرب على البشرية كلها، على شعوبه وعلى باقي الشعوب. يمارس هذا الكذب معظم قادة وسياسيي وإعلاميي الدول الغربية لترسيخ تلك الأكاذيب السياسية… وذلك من أجل تبرير حرب أو اعتداء على دول وشعوب عربية أو إفريقية أو أمريكية – لاتينية أو أسيوية مناهضة لسياسة ذلك الغرب.

لحظة الاعتداء على شعب ورئيس العراق صدام حسين، ولحظة ما سمي ربيعا عربيا لهدم نظم سياسية عربية في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا… واللحظة الحالية التي تُمارَسُ فيها أكبر إبادة جماعية في التاريخ على الشعب الفلسطيني في غزة.

في لحظة الاعتداء على دولة وشعب وحضارة العراق، كان جورج وولتر بوش أذاع أكاذيب عديدة، سجل التاريخ بمداد من العار واحدة منها على لسان وزير خارجية بلاده، كولن باول، التي لن ينساها التاريخ زاعما أمام أعضاء هيئة الأمم المتحدة توفر دولة العراق على أسلحة الدمار الشامل، المحظورة دوليا. وهي الكذبة التي صارت تسمى في الأدبيات العالمية «كذبة القرن». كذبة بسط فيها المسؤول الأمريكي طيلة ساعة كاملة استغرقها خطابه أمام الهيأة الأممية ومعددا مجموعة أدلة كلها كاذبة من أجل تبرير حرب شرسة، إجرامية دامت عقدا من الزمن وقتلت فيها القوات الأمريكية والإنجليزية أكثر من مليوني عراقي من بينهم خمسمائة طفل ظلما وعدوانا فضلا عن هدمها دولة يعود تاريخها وحضارتها إلى آلاف السنين قبل الميلاد. ففي حركة مسرحية رفع كولن باول أمام المجلس الأممي قارورة صغيرة تحتوي مسحوقا أبيض على أنه دليل على توفر العراق على أسلحة الدمار الشامل.

وفي لحظة ما سمي ربيعا عربيا انبرى عتاة الإعلام في دول الغرب ورؤساؤه لصناعة أكاذيب استغلوا فيها معطى الفساد في تلك الدول المعنية بالانتفاضات التي حدثت فيها والتي أطلق عليها وصفا كاذبا، وصف «ثورات». ولقد احتفظ ويحتفظ التاريخ بالأكاذيب التي أطلقها الغرب على ليبيا مثلا، وعلى رئيسها، وذلك من أجل التغطية على فساد علاقات هذا الغرب بالرئيس الليبي الذي دبروا اغتياله بأبشع أسلوب قمة في القذارة لم يعرف له التاريخ نظيرا.

وفي اللحظة الجارية التي تمارس فيها إسرائيل بمشاركة أمريكا ودول غربية أخرى حرب إبادة وتجويع لم يعرف لهما التاريخ مثيلا، ما أكثر الأكاذيب التي يبرر بها المعتدون ومعهم معظم رؤساء الغرب، ومعظم إعلامييه، ومعظم نشطائه ومثقفيه حرب الإبادة تلك.

كذب الساسة عموما معهود. أما كذب ساسة الغرب فهو مسلك ثابت يبرر به جرائمه كلها. برر به حروبه الصليبية وبرر به هجومه على ضعاف الشعوب من أجل استعمارها ونهب خيراتها وتشويه ثقافاتها وتحريف قيمها.

لقد رأى نزهاء إعلاميي الغرب نفسه ونزهاء مثقفيه أن الرئيس الأمريكي بوش ورئيس وزراء إنجلترا طوني بلير كانا يعيان كذبهما معتبرينه «كذبا مشروعا» (كذا؟)، أي أن «لهما الحق في الكذب» من أجل «القضاء على أسلحة الدمار الشامل» ومن أجل «إحلال الديمقراطية في العراق مكان الديكتاتورية».

ذكرنا هذا السلوك في اعتبار الكذب السياسي «حقا» بكتب فلاسفة مشهورين بتحريرهم أعمالا تناقش أطروحة (الحق في الكذب). لعل أهمها وأشهرها في نظرنا كتاب الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» والذي يحمل عنوان: «نظرية وممارسة الحق المزعوم في الكذب لغاية إنسانية – نهاية كل شيء». في هذا الكتاب يرفض كانط كل حق في الكذب، الكذب تجاه الذات، والكذب من أجل تخطئة الغير والاستحواذ على عقله وتدمير صدق وعيه. إنه لا حق في نظر كانط إلا الحق في قول الحقيقة والصدق. وليس عجبا ولا غريبا مجابهة أطروحة الفيلسوف الألماني، كانط، من طرف مسؤول سياسي ذي شهرة واسعة، هو الفيلسوف والكاتب «بنيامين كونسطانت».

ففي العام 1797 عرفت الساحة الفلسفية والسياسية مجابهة قوية بين الفيلسوفين بخصوص كتاب كانط حول الحق في الكذب: الكذب «لغاية إنسانية». دارت المجابهة حول قضية فلسفية دقيقة تتعلق بالمشكلة «الأخلاقية والسياسية». لقد اعترف كونسطانت بـ «المبدأ»، مبدأ الانتصار لـ «الحقيقة» الذي ينبغي أن يوجه سلوك الإنسان، اعترف أن التأسيس الكانطي لهذا المبدأ صحيح فعلا. غير أن الحق في ممارسة الكذب وارد بل واجب حين يتعلق الأمر بالدفاع عن مصلحة المعني بالأمر.

والرأي عندنا أن تصور بنيامين كونسطانت، وخاصة في جداله ومواجهته لإيمانويل كانط، شكل ويشكل الأساس النظري لممارسة الكذب في السياسة لدى الغرب الرسمي سواء في أبعادها المحلية أو في أبعادها الدولية على النحو الذي تعاني منه البشرية من جراء ممارسات هذا الغرب الرسمي الاستعماري الذي وإن رحل عن الأوطان المستعمرَة فإن مسلكه اللا-أخلاقي في تعامله مع الشعوب ثابت لم يتغير بعد. وهو المسلك الذي تناهضه كافة العقول النيرة بما فيها عقول غربية تستقبح مسلك الغرب الرسمي ذاك…

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى