شوف تشوف

الرئيسية

العبادةُ وعلامة الاعتماد على العمل

في زمننا المعاصر نكاد نجد لكل شخص مسلم تعريفه الخاص للعبادة أو جواباً عن: كيف نعبد الله تعالى؟ غير أني لم أر قطّ في تجارب الناس سوى تجارب أهل الصفاء والنقاء والمحبة الإلهية، هؤلاء الذين ذكرنا بعضهم هنا في هذه الزاوية طيلة الأيام الماضية من رمضان الكريم. يعبدون الله بمحبة، لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن لأنه ربهم ومحبوبهم. فهل مثل هذه المعاني نعيشها اليوم في حياتنا الروحية مع الله تعالى؟
ولأن المحبين من أمثال الجنيد البغدادي، والمولى عبد السلام بن مشيش، وأبو الحسن الشاذلي .. يغلب عليهم العمل، فقد قال الله العظيم في كتابه الكريم: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» ﴿الحجر: ٩٩﴾. ويضع أهل الفن من الصوفية مستويات ثلاثة من هذا النوع من العمل الديني: عبادة، ثم عبودية، ثم عبودة.
فالعبادة لعوام الناس من المؤمنين.. لمن له علم اليقين وهي لأصحاب المجاهدات، والعبودية لخاصتهم.. لمن له عين اليقين وهي لأرباب المكابدات، والعبودة لخاصة الخاصة.. لمن له حق اليقين وهي صفة لأهل المشاهدات.
وقيل: العبودية أن تسلم إليه كلك، وتحمل عليه كلك.
وقيل من علامات العبودية ترك التدبير، وشهود التقدير.
وقال ذو النون المصري : العبودية أن تكون أنت عبده في كل حال، كما أنه ربك في كل حال.
ولا يكتفي العابد بالاعتماد على العمل؛ ففي ذلك شيء من نفسه، وها هنا حكمة بديعة للعارف بالله بن عطاء لله السكندري حيث يقول فيها: «من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل»؛ أي على المريد العابد ألا يعتمد في سلوكه إلى الحضرة الربانية، إلى ملك الملوك وعلام الغيوب، على نفسه أو عمله ولا على حوله وقوته، وإنما يعتمد في كل ذلك على فضل الله، والشاهد على ذلك أن العبادات كلها لا يمكن أن نقوم بها إلا بالله، قال تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» [الفاتحة: ٥]، وقال أيضا: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ» [الأنعام: ١١٢].
ويقول العارف بالله أحمد بن عجيبة الحسني شارحا كلام حكيم الصوفية بن عطاء الله السكندري: «فالاعتماد على النفوس من علامة الشقاء والبؤس، والاعتماد على الأعمال من عدم التحقق بالزوال، والاعتماد على الكرامة والأحوال من عدم صحبة الرجال، والاعتماد على الله من تحقق المعرفة بالله. وعلامة الاعتماد على الله أنه لا ينقص رجاؤه في العصيان، ولا يزيد رجاؤه إذا صدر منه إحسان».
وهنا إشارة في غاية الروعة، حيث إن السالك قد استوى خوفه ورجاؤه، ولا يتغيران بزيادة الأعمال ونقصانها، حتى يفنى عن نفسه ويبقى بربه، ويصل إلى منازل القربات، فيشرب من كأس المحبة شربة يزداد بها ظمأ، وبالسكر قلقا؛ فصفاء معاملاته يوجب له ذوق المعاني، ووفاء منازلاته يوجب له الشرب، ودوام مواصلاته يقتضي له الري.
ومن قوي حبه تسرمد «أي دام» شربه، فإذا دامت به تلك الصفة لم يورثه الشرب شكرا، فكان صاحيا بالحق، فانيا عن كل حظ: لم يتأثر بما يرد عليه، ولا يتغير عما هو به.
ومن صفا سره، لم يتكدر عليه الشرب. ومن صار الشراب له غذاء لم يصبر عنه، ولم يبق بدونه.
العباد هم أولئك الذين يصاحبون الدنيا بأبدانهم، لكن قلوبهم مفارقة، لا لشيء.. سوى لأمر ما وقر في قلبهم، فصاروا هاربين من الشهوات، فارين إلى الله، إذ سمعوه يقول: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّـهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ» ﴿الذاريات: ٥٠﴾، وسمعوا نبيهم يدعو قائلا: «اللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك».
هكذا سمت أرواحهم، وتطهرت سرائرهم، وهجموا بالنفوس على معانقة الأعمال، «واغتنموا سلامة الأوقات وسلامة الجوارح». أي أن العباد لهم أرواح تتردد في أجساد قد أذبلتها الخشية، أنسها خلوة في ميدان الفكرة، وشعارها الذكر الكثير والتوجه السليم حتى يكون له سيرا سليما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى