شوف تشوف

الرئيسية

الغلظة واللين وجها لوجه

لم تحدثني نفسي يوما عن المعاناة التي تعيشها «زينب» وهي تخرج من البيت في الخامسة صباحا لتعود مساء وقد جنَّ الليل.. ولم تحدثني أيضا عن «الذئاب» البشرية التي تتحرش بها في طريقها إلى المصنع.. ولا عن «الكابران» الذي يريد أن يستبيح جسدها البريء.. تقاوم كل ذلك من أجل أن توفر لي لقمة عيش وأنا مهووس باتباع «معالم في الطريق».. أبحث في الليل والنهار عن أشياء لعلي أجدها في كتب الأوائل الذين أكل الدهر عليهم وشرب.. أفنيت وقتا في جلسات ظننت أنها توصل إلى الله.. تنقذ «الكاريان» من العفن والتيه.. ومن الدعارة والشيرا.. ومن جبروت «البودالي» و«شقيفة».. لكن في نهاية المشوار تبين لي أن هذه الجلسات لا توصل إلى بر الأمان.. وإنما تُمَهِّد الطريق إلى البرلمان..
كان الأجدر بي أن أطلب من أختي أن تجلس في البيت لأتحمل أنا مسؤولية إعالتها.. فبدل أن آمرها بأن ترتدي الحجاب، كان لزاما علي أن أهتم أولا لشؤونها وأستجيب لمطالبها وأن أعتني بحالها.. في هذه الحالة كان سيكون لكلامي فائدة ما.. إن للدعوة إلى الله سلوكا وآدابا.. وهي حب الناس.. وإرشادهم إلى الخير والفضيلة.. وليست أوامر جافة.. وغلظة في القلب.. وفظاظة في اللسان..
في السبعينات والثمانينات، تعامل «الإخوان» مع الناس بمنطق الاستعلاء والانفراد بالمعرفة والعلم.. فكان على الآخرين أن ينصتوا إليهم فحسب.. وأن يسلكوا طريقهم دون تفكير أو نقاش.. لذلك تميز سلوك «الإسلاميين» في بداية الأمر بالشدة حيال الناس.. وفي بعض الأحيان بالغلظة تجاه الأقارب والوالدين.. أي دعوة إلى الله بعد هجر الأم أو الأب أو الأخت؟
كنا كمن استورد بضاعة من الخارج ويريد أن يبيعها في الداخل.. استوردنا العمل الحركي من المشرق وأفنينا أعمارنا في عرضه على الناس في المغرب..
لم تكن «الحركة الإسلامية» فكرة مغربية بأي حال من الأحوال.. عبرت الحدود دون أن تخضع للرقابة الجمركية.. ودون أن تؤدي واجبات التعشير.
سمع «محمد» بالنقاش الحاد الذي وقع بيني وبين أختي ووالدتي.. كما أسلفت الذكر، فقد التحق أخي بمعهد التعليم الأصيل بعد أن أكمل حفظ القرآن الكريم.. كانت حياته هادئة بالمقارنة مع مسار حياتي الصاخب.. استوطن في داخلية المعهد.. وأفرغ كامل جهده في تحصيل العلوم القديمة، حسب النظام التربوي التقليدي.. سهر الليالي في حفظ متون النحو والفقه والشعر وغيرها مما أبدع فيه الأوائل من معارف..
كان لـ«محمد» مزاج معتدل.. يروم كل ما هو سهل وقريب المنال.. ابتعد عن شغب الكاريان وعربدة السكارى ومجون الحيارى.. وجد ضالته في سكون المعهد ومصاحبة أساتذته وشيوخه.. كان نظام حياته رتيبا جدا، حيث يجلس إلى مدرسيه في النهار وينام في أول الليل، ويصحو قبيل الفجر بسويعات قليلة من أجل استكمال حفظ الدروس وأداء صلاة الصبح.. لا تفتأ أمي تَذْكُرُ «محمد» في كل ساعة، بل في كل دقيقة.. عندما يشتد النقاش بيني وبينها تنتقل إلى الحديث عنه وعن أدبه وهدوئه.. أشعر أحيانا بغيرة حياله.. لكن حبي له يغلب كل إحساس غير جميل نحوه..
جئنا إلى الدنيا في نسختين متناقضتين.. أحب ما يكرهه.. وأكره ما يحبه ويريده.. اختلفنا حتى في منهج القراءة وتحصيل العلم.. بينما هو اتجه إلى النهل من معين «المتون» وإنتاج القدامى من الفقهاء.. اتجهت أنا إلى قراءة كتب الفكر الإسلامي الحديث والاتجاهات الفلسفية المعاصرة وكل ما له علاقة بالحركات الإسلامية في العالم.. لم يحصل أن اتفقنا في يوم من الأيام.. كنت أغبطه فقط على حفظه للقرآن الكريم..
عندما قصَّت أمي عليه واقعة خصامي مع «زينب» حول الحجاب، انزعج كثيرا وأبدى تبرما واضحا مني.. لم يتمالك نفسه هذه المرة، فعاتبني قائلا:
ـ لقد اشتكت إلي الوالدة من رعونتك نحوها ونحو «زينب»..
ـ لم أقم تجاههما إلا بما يرضي الله.. أمرت «زينب» بأن تغطي رأسها وتستر عورتها.. وليس في ذلك أدنى خشونة نحوها.. أما أمي، فقد سبق أن اعتذرت لها عن حدتي في الحديث معها.. طلبت منها المسامحة، لكني ما زلت أشعر أن قلبها لم يصف لي تماما..
أشاح «محمد» بوجهه عني وتابع حديثه عن أمر الحجاب:
ـ إذا رأيت أن الحجاب واجب، فهناك ما هو أوجب منه وهو الصلاة.. فأنا أتساءل لماذا لم تأمر أختك بالصلاة أولا، قبل أن ترغمها على ارتداء زي هي تجهل مقاصده كليا.. الأحرى أن تحاول حملها على تلك الفريضة، فهي السبيل الوحيد إلى فهم الواجبات الأخرى للدين.. لا أفهم كيف ستلتزم أختك بالحجاب وهي لا تفقه شيئا عن الطهارة وسنن الوضوء ومستحبات الصلاة.. أفحمني حديثه وأبرم عقدة في لساني.. صمتُّ برهة.. وجمعت تفكيري.. وحاولت أن أرد على كلامه مستغيثا بما قرأته من أدبيات إسلامية:
ـ اسمع أخي.. الزي الإسلامي هو فريضة على كل امرأة مسلمة.. إن الحجاب يدخل في إطار النظام العام.. العمل به يحافظ على تماسك المجتمع ويساعد على القيام بأوامر الله ويدرأ الفتنة عن الناس.. ثم انظر إلى حال مجتمعنا الآن، وقد بلغ فيه العري مبلغا ينذر بعقاب من الله تعالى..
جوابي أسكت أيضا «محمد».. فما كان منه إلا أن أثار مسألة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.. التقط أنفاسه ووجه إلي الحديث وهو ينظر إلى أمي وأختي، وقد جرى هذا الحوار بمحضرهما:
ـ إن الله أرسل رسوله رحمة للعالمين.. وقد كان مثالا رائعا في الحلم على الناس والصبر عن أذاهم.. ولم يكن أبدا فظا غليظ القلب، لأنه لو كان كذلك لانفض الناس من حوله.. وأنت أخي «فلان» لم تتأس برسوله.. نهرت أمك وصرخت في وجهها، وربما هي غاضبة عليك.. وأغلظت القول لـ«زينب».. قد تغطي أختك رأسها إرضاء لك، مقابل أن تجني أنت سخط والدتك.. إنك لن ترتاح بعدها أبدا ولو أنك قمت بواجبك نحو أختك.. لا بد أن نأخذ الناس باللين والمحبة لإرشادهم إلى ما فيه خير لهم.. هذه المرة لم أجد جوابا أدافع به عن نفسي.. ارتميت على رأس أمي أقبله وأطلب منها العفو عما بدر مني في حقها.. ووجدت أن هذه مناسبة سانحة لتثير أمام «محمد» مسألة علاقتي بأصحاب «اللحى»:
ـ أطلب من الله أن يهدي ولدنا ويبعده عن طريق «الإخوان».. الناس جميعهم في الكاريان يتحدثون عنه.. وعن جسارته في اعتراض سبيل الناس.. ودعوتهم إلى الصلاة والتزام الإسلام.. سمعت أن «القايد» يكن عداوة شديدة لهؤلاء «اللحى».. وكما ترى، فإن أخاك أرخى هذه اللحية الطويلة.. وأنا أخاف عليه من أن يختطفوه.. أو يسجنوه.. أو يقتلوه.. ولا حديث للناس إلا عن هذا الموضوع الخطير..
استرسلت أمي في الكلام عن علاقتي الجديدة بالإخوان والتغير الكبير الذي حصل في حياتي.. وذكرت أني لا أفارق المسجد.. ولا أفارق الكتاب.. كما أني لا أفارق الإخوان أبدا.. وتابعت حديثها وقد استغلت حضور أخي لتبدي مخاوفها وتروح عن نفسها بعض الشيء:
ـ أنا أكد في النهار وفي الليل لتتعلما وتشتغلا وتصبحا أغنياء وتريحا أختكما من العمل عند الناس.. انظرا إلى ظهري وقد انحنى من جراء عمل البيت.. هلَّا أشفقتما على أختكما من الشغل في المصانع، ومنعتما عنها تحرشات المنحرفين.. عانت أمي كثيرا في البادية وهي ما زالت تعاني في المدينة.. طأطأتُ رأسي إلى الأرض ولم أبد حراكا.. كما أن أخي سكت بدوره ولم يعلق على كلامها.. يبدو من ملامحه أنه هو أيضا متأثر بما سمع.. إنها لأول مرة تبوح بما يجول بخاطرها أمامنا.. أما «زينب»، فلم تنبس ببنت شفة..
لم أتحدث عن أبي لأن وجوده في الدار أصبح كعدمه.. لا يقدم ولا يؤخر من الأمر شيئا.. وبيعه للخضر في الكاريان كان وسيلة أبعدته عن هموم المنزل فترة من الوقت.. لم يفق بعد من صدمة بيع أرضه الفلاحية وعيشه كلاجئ بالكاريان، فوجد راحته، أخيرا، في المسجد.. وفي الصلاة..
تمددت على فراشي.. أغمضت عيني.. استحضرت حياتنا في الكاريان وضنك العيش الذي نحن فيه.. ووصلت إلى علاقتي بالإخوان وانعطاف مسار حياتي إلى اتجاه أجهله نهائيا.. شعرت بالغم وانقباض نفسي موحش.. استبدت بخاطري أسئلة خطيرة.. لماذا ارتبطت بالإخوان؟ هل هي هداية ربانية إلى الطريق المستقيم؟ هل استدرجت رويدا إلى شباك «الإسلاميين»؟ هل تدَيُّنِي كله هو نتيجة ضغط الواقع وما تعرضت له أسرتي من ظلم وغبن؟ هل نفسي تواقة إلى الانتقام، فلبست لبوس الالتزام كطريق إلى تحقيق رغبة كامنة في داخلي؟
لا أدري.. لم أستطع الإجابة بصراحة عن هذه الأسئلة في تلك اللحظة.. هل هو نوع من التأجيل أو الهروب إلى الأمام… المهم أني الآن أصبحت «إسلاميا» بمعنى الكلمة..
لا أدري لماذا اتخذت قرارا مفاجئا هذه الليلة بأن أغير مكان فراشي في البيت.. ما إن وضعت رأسي على الوسادة سمعت «لالة خديجة» تقول لـ«عمي براهيم» كلاما لا يحق لي أن اطلع عليه بأي حال من الأحوال.. نهضت مسرعا وعزمت أن أبيت الليلة في المطبخ.. من اليوم لن أرخي أذني للاستماع إلى حديث الفراش.. صحيح أني أرغمت على ذلك منذ البداية، إلا أن هذا الفعل لم يعد مقبولا مني بتاتا..
التقيت مرة «سي براهيم» أمام البيت، فطلبت منه أن يسامحني إن كنت قد آذيته في شيء دون أن أكشف له سبب ذلك الأذى.. لم أفصح له عن حقيقة الأمر.. لم يفهم المسكين مناورتي هذه وأبدى تعجبا ملحوظا على ملامحه.. ربما قال في نفسه إني بدأت أفقد صوابي، أو إني سائر لا محالة في طريق الجنون..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى