شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الفوضى والاستقرار في المجتمع

عبد الإله بلقزيز

 

يقع على الاجتماعي ما يقع على السياسي والاقتصادي والثقافي من حالات استقرار وفوضى.

قد تقع عليه هذه الحالة أو تلك في الوقت عينه الذي يسري فيه مفعولها في صعيد آخر من الصعد الاجتماعية؛ والغالب على ذلك أن يحصل في لحظات التأزم الشامل، وقد يتأثر منفردا بهذه الحال أو بتلك من غير أن تسري أحكامها على غيره. في الأحوال جميعا، يتقرر استقرار مجتمع أو فوضاه بتأثير من جملة من العوامل – أو من واحد منها – قد يكون من أظْهرِها عاملان اثنان: عامل الاندماج الاجتماعي والمستوى الذي بلغه في المجتمع؛ وعامل قوة الدولة والنظام السياسي ومدى اكتسابهما إياها أو افتقارهما إليها.

حين يُحْرِز مجتمع ما نصيبا كبيرا من الاندماج الاجتماعي بين فئاته؛ أي حين تمحي – أو تتآكل إلى حد بعيد – الانقسامات الأهلية فيه فتتوقف عملية التبنْيُن والاصطفاف فيه عن أن تكون على أسس تقليدية وعصبوية (عمودية)، لتتخذ شكلا اجتماعيا – طبقيا مبْناهُ على التفاوت في العلاقات الاجتماعية الإنتاجية، تتضاءل فيه الأسباب الحاملة على انتقال العلاقات بين فئاته وطبقاته من حالة التبادل الاجتماعي والتنافس والصراع السلمي إلى حالة التنازع الأهلي المتوسل أدوات العنف، هذا إنْ لم ترتفع أسبابها رأسا. أما حين يعجز المجتمع عن تحقيق قدر من الانصهار بين جماعاته في تكوين اجتماعي مندمج ومتعال عن الانقسامات الأهلية؛ وحين تعْصوصِبُ جماعاتُه على نفسها وتنغلق أمام غيرها، ويميل المنتمون إليها إلى التعبير عن الولاء لجماعاتهم الأهلية وعصبياتهم لا للدولة والوطن، فإن أيلولة مثل هذا المجتمع إلى الفوضى وعدم الاستقرار تكُون.

الفارق بين مجتمع الاستقرار ومجتمع الفوضى، إذن، هو عينه الفارق بين مجتمع السلم المدنية ومجتمع الحرب الأهلية؛ بين مجتمع البناء ومجتمع التخريب. وليس معنى هذا أن مجتمع الاستقرار- المحصن بالاندماج الاجتماعي – خلو من أي لون من ألوان الصراع بين مكوناته الاجتماعية (من طبقات وفئات)، بل هو يشهد على أشكال عدة منها يحْمل عليها، موضوعيا، تضارب المصالح والنزاع عليها. غير أن المجتمع هذا – خلافا لمجتمع الحرب الأهلية العصبوي – يستطيع أن يستوعبها ويعقلنها من طريق القواعد التي يرسمها لها، فيمنع بذلك من أن تتحول إلى نزاعات عنيفة أو دموية أو مُودية بالاستقرار والسلم الاجتماعيين.

على أن فعل هذا العامل (= الاندماج الاجتماعي) وقْفٌ على وجود دولة قوية ونظام سياسي متماسك وشرعي، وعلى نجاعة في أدائهما وظيفة تنظيم المجتمع وإنتاجِ أسباب صهر تناقضاته الأهلية وتوليد علاقات الاندماج فيه؛ تلك التي تجد أعلى تبدياتها في سيادةِ نظامِ المواطنة الذي يقضي بتصنيع ولاء أعلى مشترك هو الولاء للدولة/ الوطن. ما من إمكان لتحققِ اندماج اجتماعي في مجتمع لا تقوم فيه دولة قوية، ولا يسيطر فيه نظام سياسي يتمتع بقدر من التمثيلية يمنحه شرعية؛ ذلك أن الاندماج الاجتماعي من منتوجات الدولة في المقام الأول؛ إنه ليس معطى من معطيات المجتمع بل مشروع يُبْنى بناء اجتماعيا- سياسيا من قبل الدولة، ومن خلال برنامج من التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الشاملة. إن الدولة القوية المستقرة وحدها تملك أن تصنع استقرار الصعيد الاجتماعي من طريق تهْيئتها شروطه (الاندماج الاجتماعي). في المقابل، فإن فرص تمتع الاجتماعي بالاستقرار في أي بلد يتضاءل كلما كان كيان الدولة فيه هشا أو عُرضة لموجات من التأزم السياسي العاصف. أما حين تفقد الدولة – ومعها النظام السياسي – القدرة على أداء أضعف أدوارها في إدارة شؤون المجتمع على قواعد السلم، فإن ذلك يفتح الاجتماعي على فوضى عارمة تفتك بوحدته!

من البين، إذن، أن كلمة السر في موضوع الاستقرار والفوضى في أي مجتمع هي الدولة؛ إذِ الدولة من يصْنع من سياساتها أسباب هذه الحال أو تلك من الأحوال التي تعْرِض للمجال الاجتماعي: تقْوى وتتماسك، ثم تستقر لها الأحوال، فيقوى المجتمع، بالتبعة، ويتماسك وتستقر أحواله، والعكس صحيح. إذا كان من فروق بين مجتمعاتنا العربية، مثلا، والمجتمعات الغربية أو مجتمعات شرق آسيا أو بعض مجتمعات أمريكا اللاتينية على صعيد درجة الاستقرار أو الفوضى فيها – وهي فروق هائلة – فإن مردها إلى الفوارق بين مستويات الاستقرار والقوة بين دول هذين العالميْن. في كل مجتمع من مجتمعات العالم من التكوينات الاجتماعية الباعثة على النزاعات ما في المجتمعات العربية، غير أن إنتاج الاستقرار في المجتمعات الأخرى من ثمرات النظام السياسي الذي يقوى على تصنيع مواد لحمتها وعلى حفظ استقرارها.

 

نافذة:

الفارق بين مجتمع الاستقرار ومجتمع الفوضى إذن هو عينه الفارق بين مجتمع السلم المدنية ومجتمع الحرب الأهلية بين مجتمع البناء ومجتمع التخريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى