شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

«الكارني»

 

 

 

يونس جنوحي

 

في أكثر من مدينة مغربية، عادت تجربة «الكارني» إلى الحياة مرة أخرى، على يد «فاعلي الخير» والنشطاء الجمعويين الذين يعرفون هول الهشاشة الاقتصادية، التي يعاني منها ملايين الأسر المغربية القابعة في الأحياء الشعبية والمدن الصغرى والمداشر العشوائية المُجاورة للمصانع والضيعات الفلاحية.

«مول الحانوت» المغربي يعرف عن الأسر المغربية ما لا تعرفه معظم إدارات الدولة، وعُرف «الكارني» يبقى هو العُملة الرسمية المتداولة في أغلب الدكاكين، بدون علم بنك المغرب.

وفي رمضان، تتجدد حملات جمع التبرعات لأداء ديون الأسر المُعوزة، المتراكمة لدى أصحاب الدكاكين، خصوصا في الأحياء الشعبية التي تعرف كثافة سُكانية عالية.

والحال أن ثقافة «الكارني» ليست مُستحدثة، وإنما هي عادة ضاربة في القدم، وتعود إلى مئات السنين وتوجد أدلة ملموسة على تعامل المغاربة بها قبل حتى أن تُعمم العملات النقدية والورقية في المغرب.

حتى أن بعض الكوارث الاجتماعية التي ضربت المغرب، أتت على «الكارني» بمفهومه القديم، وكشفت أن المغاربة كانوا يتعاملون بالسلف بدون أي ضمانات ويقتنون السلع من أصحاب الدكاكين، ويكتفي هؤلاء بتسجيلها في «الكارني» إلى أن يُؤدي أصحابها ما في ذمتهم.

تُجار مراكش القدامى، الذين كانوا يُزودون كل مدن الجنوب ومنطقة سوس خصوصا بالسلع والمواد الأولية، كانوا أقدم من تعاملوا بنظام «الكارني». والعُملة الحقيقية التي تعاملوا بها هي «الثقة» وليس «الشيك». إذ كانوا يُحملون السلع للباعة، الذين يرحلون بها لمئات الكيلومترات لبيعها، ويُسجلونها دون أخذ أي ضمانة، على أن يُسددوا قيمتها لاحقا عندما تنتهي عملية البيع، ويعودون لاقتناء سلع أخرى.

والمثير أن هذا التعامل كان يجمع المغاربة، مُسلمين ويهود، وفي بعض القرى المغربية، خصوصا نواحي تنغير  والرشيدية، لا تزال بعض المخطوطات القديمة تحفظ أثر هذه التعاملات التجارية والتي يعود بعضها إلى أكثر من قرن ونصف. وهذه المخطوطات تؤكد أن التجار المغاربة، مسلمين ويهود، تعاملوا بينهم بنظام «الكارني» وتبادلوا السلع بدون أي ضمانات باستثناء تسجيلها في «الكارني».

لكن الظهور الرسمي لهذا النظام في التعامل الاقتصادي، كان عندما بدأ العُمال المغاربة يتوجهون إلى أوروبا للعمل، ويتركون عائلاتهم في المدن والقرى والمداشر، بدون أي معيل. وهكذا فقد كان بقال الحي أو القرية، يمنحهم كل ما يحتاجونه من المواد الأولية، على أن يتم تسديد الحساب عند عودة مُعيل الأسرة لقضاء عُطلته السنوية في المغرب.

وتعزز هذا النظام أكثر بتوجه أعداد إضافية إلى الهجرة نحو أوروبا، أو نحو المُدن المغربية الكبرى، وظل معمولا به لسنوات.

وفي المناطق التي تعرف أنشطة محلية، مثل بيع الزعفران، أو حتى القنب الهندي، فإن التعامل بنظام «الكارني» يبقى هو السائد أيضا. ويُسدد الناس ديونهم لـ «مول الحانوت»، عندما يبيعون المحصول السنوي.

أما إذا فتحنا باب مأساة «الشيك» في المغرب، والذي يفترض أنه الوسيلة القانونية التي تُوفر ضمانة الأداء للطرفين، فيكفي أن تتأملوا لوائح المبحوث عنهم بتهمة إصدار «شيك» بدون مؤونة لكي تعرفوا أن هناك «شعبا» آخر، مبحوث عنه من طرف السلطات، يعيش بين المغاربة.

هذا يعني أن «الكارني» وسيلة أداء مضمونة مقارنة مع «الشيك».. إذ لا يمكن أن يتجاوز عدد الذين يُلاحقهم «الكارني» أعداد الذين أصدروا شيكات بدون رصيد. ثم إننا نسمع الآن عن حملات أداء ديون الذين تراكمت عليهم «الكارنيات»، ولم نسمع أبدا عن حملة لتسديد ديون الذين تُلاحقهم الشيكات والسلطات.. وهذا كاف لكي نبحث، من الآن، عن وسيلة لتسجيل هذا الـ «كارني» تُراثا مغربيا لدى اليونسكو إلى جانب أسوار المُدن وبقية المآثر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى