شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

المتورطون في ثقافة الشيطان

 

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

زارني شاب من حزب (التحرير الإسلامي) ـ وهو حزب لم يبتل به المغرب بعد.. وكان قد سجن لأكثر من عشرين مرة. قال لي: لقد أمضيت مع شيوعي في السجن 11 يوما، ونحن نتناقش، ولا نكف عن الجدل، إلا لتناول وجبات الطعام. كان (التحريري) يريد إقناعه بفساد المادية الجدلية، وكان (الشيوعي) بدوره يريد أن يثبت لهذا (الرجعي) فساد المثالية.

وفي النهاية كف الحوار، وسكت الكلام، واشرأبت الأعناق وشمروا عن الأذرع والقبضات..

كان (التحريري) قد تم إلقاء القبض عليه، بعد توزيعه منشورات تتهم نظام الحكم أنه بريطاني، وكان الشيوعي قد تم إلقاء القبض عليه لاتهامه النظام بدوره أنه أمريكي..

أما أنا فكانت ثلاثة أسئلة تدور في بالي، وأنا أرى الصراع السياسي الضاري..

كنت أتساءل أولا: إذا كان النظام عميلا كما يزعمون، فيجب أن يسحقهم بدون رحمة، لأنهم يفضحونه.. وإذا كان شريفا فلهم الويل مما يصفون. وفي جو سياسي ملبد إلى هذا القدر، كان على شباب حزب التحرير والشيوعيين على حد سواء أن يدخلوا المعتقلات في كلا الحالتين مقرنين في الأصفاد.

وكنت أتساءل ثانيا إذا كان (التحريري) يرى (الشيوعي) أنه ضال وعميل، و(الشيوعي) يرى (التحريري) أن عقله غير علمي.. فهل يمكن للحجج العقلية والنقلية أن تثبت وجهة نظر أي واحد؟ إن هذا الصراع العقدي يذكر بتناحر اليهود والنصارى كما وصفهم القرآن؛ (تشابهت قلوبهم).

وكنت أتساءل ثالثا: أنه إذا كان يدين كل منهم الآخرين بهذا القدر من الجرعة السمية.. فكم ستكون مقدار (الأليرجيا) وردة الفعل عند الآخر؟

يقول «علي الوردي» في كتابه «وعاظ السلاطين»:

«تقص لنا الأساطير أن غرابا رأى زميلا له من نوعه، فهاله ما وجد في وجهه من القبح، ولو نظر لوجهه في المرآة، لرآه لا يقل قبحا عن وجه زميله! والمشكلة آتية من كون الغراب لا يملك مرآة يرى فيها وجهه. وهذه هي مشكلة البشر جميعا، فكل فريق يرى مساوئ غيره، ولا يدري أنه مبتلى بمثل تلك المساوئ على وجه من الوجوه». إن الإنسان لا يستطيع أن يرى وجهه إلا في المرآة، أما قفاه فيحتاج إلى أكثر من مرآة.

جاء في الإنجيل:

«لا تدينوا لكي لا تدانوا، لأنه بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم، ولا تنظر القذى في عين أخيك وتنسى الخشبة التي في عينك».

وفي كتاب «تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم» يذكر «محمد الرايس» أن الكولونيل الذي قاد الانقلاب العسكري، تواجه مع ضابط آخر جاء لإحباط الانقلاب، مثل أفلام «الكوبوي» وهما مسلحان بالمسدسات، ثم خاطب كل منهما الآخر: أيها الحقير توقف عما تفعل؟ وكان الثاني يجيب: بل أنت الحقير!

وبعد تبادل طلقات الكلام، جاء دور الطلقات الفعلية، فلعلعت النيران، وسقط أحدهما مضرجا في دمه قتيلا، أما الآخر فقد جرح جرحا بالغا، فأشرف على الموت. عند ذلك توجه إلى مساعده وقال له: اقتلني وهو آخر (أمر) مني إليك، لأنك إن لم تقتلني فلسوف أذوق ما هو أشد من الموت. فقتله المساعد! وكان كلامه صحيحا، لأن من كانوا معه دخلوا جهنم فعلية، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها، وبقوا في قبور فعلية مظلمة لمدة عشرين سنة، يموتون بالتدريج بالنزف والسل والجنون والانتحار.

إن المشكلة أن كل فريق ينظر إلى الآخر أنه شيطان مريد.

وكان «رونالد ريغان»، الرئيس الأمريكي الأسبق، يصف الاتحاد السوفياتي بأنه مملكة الشر.

وعندما يختلف السياسيون يتراشقون بتهم الخيانة والعمالة، أما المتدينون فجعبتهم مليئة بأسلحة أخطر من (الكفر) و(الردة)، وكلها مؤشرات على عدم نضج الأمة، وأنها ما زالت تعيش حياة عقلية طفولية.

كان «ابن تيمية» يقول العلماء يخطِّئون والمبتدعة يكفِّرون، واليوم في المحطات الفضائية أمكن عرض خبرة الكثيرين، ممن عاصروا أحداث القرن، وشاركوا فيها والكل يروي مذكراته تحت عنوان «الأيام المرة».

ولكن الكل إلا فيمن ندر يتهم الآخرين، ولا أحد يقول؛ لقد أخطأنا جميعا، وَرَبِّ إني ظلمت نفسي. وفي القرآن الكريم تعرض التراجيديا الإنسانية في قصة خلق آدم من خلال موقفين:

(الشيطان) الذي يرى أن موقفه سليم لا غبار عليه، وإذا كان قد حدثت تجاوزات في اختراق نظام الطاعة، فسببها (الآخر). إنه مبرأ من الخطأ، والله هو الذي أغواه (بما أغويتني)، ولكن (تنزيه الذات) يحمل تلقائيا ظلال (إدانة الآخر)، ودخول المشكلة طريق (الاستعصاء). في حين أن آدم وزوجته اعترفا بالخطأ فقالا: (ربنا إننا ظلمنا أنفسنا).

إن هذه القصة تحمل معنى فلسفيا عميقا عن اتجاهين:

ـ الأول (شيطاني) فقد إمكانية المراجعة والنقد الذاتي، وأن موقفه لا يحتمل الخطأ، ولا يتطرق إليه الخلل، وهذه هي (المعصية) دينيا، وهي الخطأ المعقد المركب فلسفيا.

والثاني (رحماني) وهو موقف آدم ومعه حواء، اللذان قاما بالمراجعة، واعترفا بالخطأ، وهو ما فتح الطريق إلى تصحيح المسار؛ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.

إن هذه القصة بترميزاتها العميقة تقول لنا إن (موقف آدم) هو الصحيح؛ فهو (يخطئ) ولكنه ينتبه إلى ارتكابه الخطأ؛ فيعترف (يتوب)، ويصحح مساره، ليوضع السلوك على (السكة) الصحيحة في عمل قابل للنمو.

كما أن القصة بالمقابل تحكي (موقف الشيطان)، الذي يلقي باللوم على الآخرين، ويحرم نفسه من المراجعة، وتتبلد عنده آليات النقد الذاتي، وتتوقف عملية التصحيح، ليدخل في حالة ضمور لا تعرف التوقف.

 

نافذة:

عندما يختلف السياسيون يتراشقون بتهم الخيانة والعمالة أما المتدينون فجعبتهم مليئة بأسلحة أخطر من الكفر والردة وكلها مؤشرات على عدم نضج الأمة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى