المكناسي تكلف بتهريب المقاومين إلى تطوان ووصل عددنا في الأخير إلى 120 لاجئا

يونس جنوحي
قُلت إنني كنت ثالث من يأتي إلى المنطقة الخليفية في تطوان، لاجئا. سبقني كل من الصحافي أحمد زياد وعبد الكبير الفاسي الذي استقر في مدريد، ولعب دورا مهما في جمع المساعدات المالية والسلاح للمقاومة. كان يزوره الدكتور عبد الكريم الخطيب كثيرا، وكثيرا ما تواصلتُ معه هاتفيا من مسكن سي عبد الكبير الفاسي عندما يزوره في إسبانيا.
لا أذكر بالضبط من الذي لحق بي من الإخوان إلى تطوان، لكن عددا كبيرا من المقاومين جاؤوا باعتبارهم لاجئين خلال سنة 1954.
وكلما جاء أحد اللاجئين الجدد، خصوصا الذين يُلقى عليهم القبض من طرف الشرطة الإسبانية، كنت آتي إلى السجن وألتقيه وأعرف منه اسمه وقضيته، وآخذ المعلومات إلى أحمد زياد. وبهذه الطريقة توفرت لدينا ما يمكن أن نسميها «ورقة تقنية» أو «تعريفية» عن كل لاجئ.
ومن جهة أخرى، كان عبد الكبير الفاسي هو المكلف بالتواصل مع الإسبان.
كان بيننا والإسبان اتفاق أن يسمحوا للمقاومين بالبقاء في تطوان، شريطة ألا نتدخل نهائيا في الشأن السياسي أو أي نشاط من شأنه المساس بسياسة إسبانيا. وهذا الاتفاق كان عبد الخالق الطريس، زعيم حزب الإصلاح الوطني، طرفا فيه أيضا.
وجوه منسية
أذكر من المقاومين الذين جاؤوا من بعدي، الحاج أحمد العتابي، الذي كان في لجنة جمع المال لدعم المقاومة، وأحمد منير، وبلمختار وإبراهيم فردوس، بعد التورط في ما عرف وقتها – في سنة 1954 دائما- في الدار البيضاء بقضية «إيرو». إذ اتُهم مجموعة من المقاومين بالتخطيط لقتل الفرنسي الدكتور إيميل «إيرو»، وفرّوا إلى تطوان. وبعد هؤلاء جاء فوج آخر.
وحدث، في بعض الأحيان، أن كان هناك اكتظاظ، سيما عندما وصل عدد اللاجئين جميعا إلى 120 لاجئا ولم يعد الإخوان يجدون أماكن مناسبة للمبيت. حتى أن استوديو التصوير تحول في أكثر من مناسبة إلى مكان للمبيت رغم أنه كان مجرد غرفة صغيرة جدا. وكان يقع في منطقة «الوطية».
ورغم ضيق المساحة، كان مجموعة من الإخوان ضيوفا على ذاك الاستوديو، أذكر منهم المقاومين سعيد بونعيلات، عبد الله الصنهاجي وعباس المساعدي..
جُل المقاومين كانوا يعيشون في ظروف صعبة، بعكس ما تم تداوله من أن المقاومين كانوا يعيشون بحبوحة العيش بفضل أموال المساعدات.
مرت أيام لم يكن المقاومون يجدون فيها الطعام الكافي. وكان يتكلف اثنان من الإخوان بإحضار وجبات الطعام من منازل بعض العائلات التي انخرط أصحابها في حزب الإصلاح الوطني. إذ أن سي عبد الخالق الطريس أمر بعض أعضاء الحزب بأن يتطوع بعض منهم لإعداد وجبات الطعام بالتناوب، لفائدة اللاجئين.. لكن ذلك لم يغير الكثير من واقعنا وخفف نوعا ما من المعاناة.
عبد الله الصنهاجي كان مقاوما معروفا في مدينة الدار البيضاء، وكان لديه محل تجاري لبيع الحليب في بداية الخمسينيات. والحقيقة أنه كان من أوائل من التحقوا بالمقاومة. وفي رحلته للجوء، مر أولا بمدينة القصر الكبير، واستقر بها لبعض الوقت وفتح هناك مقهى وتزوج من إحدى العائلات.. لكن المقاومة كانت في حاجة إلى من يكون بجانب عباس المساعدي، لكي يتكلف بالتموين في الناظور، في مقر جيش التحرير المغربي.. بينما عباس المساعدي كان مكلفا بكل ما له علاقة بالعمليات الميدانية الموكولة إلى الفرع.
طُرح مشكل أمام الصنهاجي قبل الانتقال، وقال للإخوان إنه لا يستطيع مغادرة القصر الكبير في ذلك الوقت بحكم ارتباطاته التجارية وبحكم أن لديه بعض الديون التي تجب عليه تصفيتها قبل الرحيل عن المدينة. وحرص الإخوان، وعلى رأسهم المقاوم حسن صفي الدين، على تسوية هذا الأمر.
المقاوم حسن صفي الدين جمعتني به صداقة متينة جدا، وكنا نلتقي باستمرار بمناسبة وبدونها إلى أن توفاه الله. وكان يحظى بتقدير خاص جدا من الملك الراحل الحسن الثاني. كان أحد أهم الأسماء القيادية التي كانت معنا في تطوان، إلى جانب عبد الكريم الخطيب وحسن اليعقوبي وآخرين..
كان صفي الدين بين المقاومين الذين انضموا إلى المقاومة في الدار البيضاء، ويحظى بالإجماع. وهذه نقطة مهمة جدا قلما توفرت لدى الأغلبية. وعندما استُشهد أحمد الزرقطوني حل محله وأصبح الرجل الثاني في جماعة الزرقطوني، وبات مطلوبا لدى الفرنسيين، ففر إلى تطوان لكي يلتحق بالإخوان.
للأسف لم تكن بيني وبينه أي سابق معرفة في الدار البيضاء. ولم أتعرف عليه إلا عندما جاء إلى المنطقة الخليفية في تطوان. ولاحقا عشتُ معه محطات مهمة من تاريخ المقاومة، وبعد الاستقلال أيضا..
كان معنا أيضا المقاوم محمد المكناسي، وكان ينحدر من منطقة «تيسّة»، بإقليم تاونات. كان معروفا ببنيته الجسمانية الهائلة ولياقته البدنية العالية. وكانت مهمته تهريب المقاومين، لكي يصلوا إلى تطوان في رحلة لجوئهم.
في بداياته كان سائقا ماهرا، وقيل لي إن لديه خبرة واسعة في تلك المنطقة الجغرافية الشمالية، كما أن لديه دراية كبيرة بأسرار التهريب على المنطقة الحدودية. كان «بروفايلا» مناسبا لمهمة تهريب المقاومين المبحوث عنهم من طرف فرنسا، إلى المنطقة الخليفية في تطوان. وهو الذي تكلف بتهريب المجموعة التي كان فيها إبراهيم الفردوس، بعد مقتل الدكتور «إيرو». وخلال رحلة تهريبهم بسيارته، نجح في التخلص من الملاحقات أثناء الطريق من الدار البيضاء، وبفضله لم يُلق عليهم القبض.
ومع توالي العمليات التي شارك فيها لتهريب المقاومين من الدار البيضاء، أصبح اسمه مكشوفا لدى الفرنسيين، ونصحه الإخوان بالرحيل فورا. كان عليه أن يهرب بدوره، حتى لا يتم اعتقاله ومحاكمته.
وبحكم أنه ينحدر من نواحي تاونات، كلفه الإخوان بهذه المنطقة، وشن مجموعة من العمليات ضد الجيش الفرنسي، وشارك بقوة في عمليات 2 أكتوبر 1955. بعد الاستقلال عُين عاملا على إقليم العرائش.
أشير أيضا إلى مقاوم آخر، اسمه عبد السلام اللفت، وكان يسكن في طنجة. كان معروفا في أوساط الطنجاويين بكرمه الشديد. أقل ما يقال عنه أنه كان أسطورة في الكرم.
هذا الرجل كان يتكلف بإحضار الملابس للإخوان اللاجئين كلما جاء إلى تطوان. وأذكر أنه حضر عندما زارنا سي علال الفاسي في تطوان، وأحضر لنا مجموعة من الملابس وُزعت على جميع اللاجئين.
ومن أطرف ما يتعلق بشخصية عبد السلام اللفت، الرجل الطيب صاحب اليد البيضاء على المقاومين، أنه كان يتحسس من ذكر كلمة «العسل». وكلما أراد المقاومون ممازحته، إلا وذكروا هذه «الكلمة» الممنوعة أمامه، ليضرب بيده من يجلس بقربه. وحدث خلال الزيارة «التاريخية» للزعيم سي علال الفاسي أن حاولتُ ممازحته، وذكرتُ -عمدا بطبيعة الحال- كلمة «العسل» قي الوقت الذي كان فيه هذا المقاوم يجلس إلى جنب سي علال، فاهتز الرجل من مكانه، ولامست يده وجه سي علال وساد الصمت لثوان، قبل أن يضحك علال الفاسي ويغرق الجميع في موجة من الضحك.
ومن أغرب ما يتعلق بشخصية سي عبد السلام اللفت أنه كان يسافر كثيرا، وزار إسبانيا، وكان يحكي لي عن سفره.. حتى أنه مرة زار المكسيك، وأحضر من هناك اللحم المقدد، الذي يُحضّره المكسيكيون بطريقتهم. ولأنه كان رجل نكتة، كان يقول لنا إنه أحضر «الخليع» من المكسيك.
البحث عن مصدر للمعلومات
بحكم أنني كنت أشتغل في ما أسميناها «استعلامات المقاومة»، كنت أعد ملفا كاملا عن كل واحد من الإخوان، ووجدتُ أنني صرتُ صديق الجميع وأقضي وقتي مع الجميع.
كان يتعين علينا، باعتبارنا لاجئين، أن نتحسس الأخبار من حولنا. وقد وجهني الإخوان إلى هذا الباب، بحكم النقص الكبير في الأخبار. كنا شبه معزولين في البداية. وهكذا اهتديتُ إلى شخص «أحمد الله أكبر»، وكان هذا اسمه.
هذا الرجل ينحدر من فاس، لكنه وُلد في تطوان وترعرع فيها. وفتح وكالة عقارية، وبلغني أن لديه علاقات وطيدة مع بعض موظفي الاستعلامات العامة الإسبانية في المدينة. وهكذا أصبح سي أحمد مصدرا مهما للمعلومات.
وكلما كانت المعلومات التي آتي بها إلى الإخوان دقيقة وموثوقة، إلا وكان الدكتور الخطيب يمازحني ويسألني عن مصدر معلوماتي.
والحقيقة أن الإسبان كانوا يغضون الطرف عن بعض أنشطة المقاومين، خصوصا عندما تعلق الأمر بجمع الأسلحة. ما كان يهم المقيم العام الإسباني، «ڤالينو»، ألا تُستعمل الأسلحة ضد الإسبان. ووقعت بعض الأحداث التي جعلتني لاحقا أفهم جيدا كيف كان ينظر إلينا الإسبان وكيف كانوا يدبرون ملفنا.
وفي الوقت الذي كنا نحن نتحسس فيه الأخبار، كان الأمريكيون بدورهم يرغبون في معرفة ماذا يقع بالضبط في تطوان. وراجت إشاعة عن كون مدينة تطوان أصبحت بؤرة للشيوعيين! وهو ما لم يكن صحيحا بطبيعة الحال. فجاؤوا إلينا لكي يتأكدوا بأنفسهم، واستقبلناهم.