الملف المنسي للأسرى الأجانب في قصور مكناس ومراكش
هل كانوا يُرغمون فعلا على صيام رمضان؟
واحدة من قصص الأسرى الأجانب في المغرب، تتعلق بتجربة الأسر التي عاشها مهندس سكة الحديد الإسباني في الشمال، حيث وقع المهندس «لينتيسكيو» أسيرا بين يدي جماعة يتزعمها شخص اسمه «المودن».
وهو ما أغضب الإسبان، خصوصا وأن «المودن» رفض الإدلاء بمكان إخفاء المهندس، واستمر في ابتزازه لإسبانيا لأشهر، رغم مساعي شركة سكة الحديد لاستعادة مهندسها واستئناف الأشغال المتوقفة.
لم تكن الصحافة الإسبانية رحيمة بحكومة بلادها، وحملتها مسؤولية ما قد يقع للمهندس الإسباني، طيلة فترة اختطافه وأسره على يد من وصفتهم بـ«قطاع طرق من الهمج».
هذه الواقعة تحدث عنها الشريف الريسوني، بصفته وقتها المسؤول الأول عن المنطقة، لكنه لم يفلح في إقناع «المودن» بإطلاق سراح هذا الأسير.
وقد تحدث صحافيون إسبان مع الريسوني عن المودن، وطلبوا منه معلومات عنه، بعد انتهاء فترة الحرب بطبيعة الحال. وبقي بعضهم يتذكر كيف استطاع هذا الرجل الملقب بـ«قاطع الطريق»، أن يصيب حكومة إسبانيا ومسؤوليها الكبار ودبلوماسييها بالعجز لأشهر، رغم أن قواتهم العسكرية كانت تغطي منطقة «جبالة».
هذه واحدة فقط من قصص مثيرة للأسرى الأجانب في المغرب، طوال أربعة قرون مضت.
يونس جنوحي
حقيقة «النصارى» الذين رفضوا مغادرة المغرب بعد اتفاق تبادل الأسرى
ملف شائك ليس فقط بين بلدين أو ثلاثة بلدان، هي المغرب وإسبانيا والبرتغال. لكن الأمر يتعداه إلى ما هو إرث مشترك، تدخل فيه دول أخرى مثل فرنسا وبريطانيا بالدرجة الأولى.
يتعلق الأمر بموضوع الأسرى الأجانب في المغرب، وما إن كانوا قد عاشوا فعلا كل تلك التفاصيل التي تعج بها كتب التاريخ الأجنبية والتي تضرب في سمعة المغاربة.
بالمقابل، توجد أصوات أخرى تقول إن المغرب احترم تعاليم الإسلام، ولم يُكره الأسرى المسيحيين على اعتناق الإسلام.
وهنا نورد مثالا لما وقع أيام المولى إسماعيل، سنوات قليلة قبل وفاته في العام 1727.
إذ بعد توقيع اتفاق في مدينة مراكش بين السفير الفرنسي الممثل للملك لويس الرابع عشر، وبين وزير المولى إسماعيل، والذي يقضي بتبادل الأسرى بين فرنسا والمغرب، فوجئ الوفد الفرنسي بأن بعض الأسرى الفرنسيين يرفضون مغادرة المغرب، وظهر أن اعتناقهم للإسلام كان حقيقيا وليس مجرد تهرب من الأشغال الشاقة التي كان يُجبر عليها كل الأسرى الذين تمسكوا بالمسيحية. بالمقابل، كان الذين يعتنقون الإسلام على موعد مع حياة جديدة، ومنهم من عُرضت عليه زوجة مغربية وأنجب منها الأبناء وتعلم اللغة العربية.
وقف السفير الفرنسي على هذه الحقيقة، في الوقت الذي سلّم فيه الأسرى المغاربة إلى المغرب. وقد كانوا حجاجا ضلت سفينتهم طريقها في عرض البحر، وبدل أن تعبر في اتجاه مصر، صعدت نحو المياه الفرنسية وألقي القبض على كل من كانوا على متنها واقتيدوا إلى «مارسيليا»، حيث سُجنوا هناك في ظروف مهينة.
بعض الروايات التاريخية تؤكد أن بعض الوزراء المغاربة الذين تعاملوا بقسوة مع الأسرى الأجانب، خصوصا الفرنسيين والإسبان، كان السبب في ذلك راجعا إلى القصص التي كانت تصل عن معاناة الأسرى المسلمين عند «النصارى».
حتى أن بعض الوزراء والعلماء المغاربة جندوا أنفسهم للذهاب إلى تلك الدول والمطالبة بإطلاق سراح الأسرى المغاربة، وأطلق عليهم المؤرخون لقب «الفكاكين».
وهنا نورد تعليقا للمستشرق، البروفيسور بيتر شورد فان كونتجسفيلد، وهو متخصص في تاريخ الأسرى بين المغرب وأوروبا الغربية. يقول في واحدة من محاضراته في الموضوع: «من البديهي أن تبادل الأسرى كان فيه عزاء وتسلية لأولئك الذين لم يساقوا بعد إلى أسواق العبيد، حيث كانت هذه حال المحظوظين والبارزين من الأسرى الذين كانوا يخضعون لعملية تصفية أولية، يوضعون بعدها تحت تصرف الملوك المسيحيين قصد استخدامهم والمتاجرة بهم.
في حين كان يتم توزيع الغالبية العظمى من الأسرى خفية على أسواق العبيد بأسرع ما يمكن، ومن ثم يجري توزيعهم على صعيد دولي بعد ذلك.
إلى جانب هذا الاهتمام الرسمي من السلطات الإسلامية، كانت هناك أيضا مبادرات فردية أدت إلى إيجاد وظيفة خاصة عرفت باسم الفكاك.
وغالبا ما كان هذا الفكاك تاجرا أو صاحب علاقات دولية لديه الاستعداد للعمل على افتداء الأسرى خلال رحلاته التجارية، حيث كان يبرم العقود مع المالكين الأحرار من أجل افتداء أسرى معينين في بلاد النصارى مقابل مبالغ مالية محددة.
ولقد عرفت نشاطات هؤلاء الفكاكين من خلال المصادر الأوروبية، حيث كان المدعو «علي الغرناطي المسلم» على سبيل المثال مقيما خلال عام 1404 في منطقة غوسيونRoussillon ، جنوبي فرنسا، قصد افتداء الأسرى المسلمين».
ومن النقط المثيرة أيضا التي تتعلق باعتناق الأسرى الأجانب للإسلام، ما راج في الصحافة الأجنبية عن إجبارهم على صوم رمضان أيضا. وهو المعطى الذي عرف نقاشا كبيرا لدى مؤرخين أجانب وقفوا على مراسلات توثق معاينة سفراء وسياسيين فرنسيين وإسبان لوضعية أسرى من بلديهم في المغرب، خلال توقيع اتفاقيات مع المغرب بين عهدي السلطان مولاي إسماعيل ومحمد الرابع في القرنين 17 و18، مفادها أن بعض الأسرى اعتنقوا الإسلام، وكانوا صائمين في شهر رمضان رغم حرارة الطقس، دون أن يجبرهم أحد على ذلك.
«بيرديكاريس» أشهر أسير أجنبي في مغرب القرن العشرين
هذا الثري الذي لم يكن أمريكيا خالصا، وإنما من أصول يونانية مع تأثر كبير جدا بالثقافة البريطانية، وجد نفسه في قلب زوبعة كبيرة كادت أن تتسبب في حرب بين الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب.
إذ إن الرئيس الأمريكي وقتها، ثيودور روزفلت، أطلق سنة 1904 شعارا تناقلته الصحافة الأمريكية بكثير من الحماس، بل وبنى عليه حملته الانتخابية وقتها، وهو: «بيرديكاريس حيا أو الريسوني ميتا».
ما وقع أن هذا الثري الذي استقر في منطقة غابوية تطل على البحر المتوسط في أعلى نقطة بمدينة طنجة، أصبح رقما في مخطط نفذه الشريف الريسوني بكثير من الدهاء. إذ كان الشريف يحتاج إلى المال لتسديد نفقات الحرب التي دخل فيها ضد إسبانيا في ذلك التاريخ، وكان يعلم أن رأسي هذا الثري وزوجته لا بد أنهما يساويان الكثير من المال لدى الحكومتين الأمريكية والبريطانية.
لذلك عمد بعض رجال الريسوني إلى التسلل خفية في ساعة متأخرة من الليل إلى قصر بيرديكاريس مستغلين وجوده في مكان معزول وسط الغابة، وقاموا باحتجازه داخل منزله، وطلبوا منه بأمر من الريسوني أن يكتب رسالة إلى الحكومة الأمريكية لكي يطلب منها أداء فدية مالية مقابل إطلاق سراحه. وهو ما اعتبره الأمريكيون مسا بسيادة بلادهم، وهددوا باستعمال المدافع لدك مدينة طنجة.
لكن المثير أن رواية أخرى تقول إن الريسوني كان فقط يؤدي تمثيلية اتفق عليها مع صديقه «بيرديكاريس»، وإن العلاقة بينهما كانت أمتن من أن يستغلها الشريف للحصول على المال من الأمريكيين أو الإنجليز. وهذه الرواية روج لها بعض الأجانب الذين كانوا يعيشون في طنجة وقتها، وكانوا قريبين جدا من الملف، وهو ما أكسبه نوعا من المصداقية، سيما وأن الريسوني قد عرف عنه الدهاء الشديد.
بينما تصريحات الريسوني نفسها للصحافيين الأجانب الذين تقاطروا عليه بالعشرات لكي يحصلوا منه على تصريحات بخصوص ملف «بيرديكاريس»، فقد كان دائما يؤكد لهم أنه لم يلحق أي أذى الأسير وعائلته، وأنه احتجزه رهينة بشكل حضاري وألزمه منزله فقط، ولم يسجنه أو يمارس عليه ما كان يروج وقتها عن قسوة الريسوني وقوته في منطقة نفوذه في «بلاد جبالة»، الواقعة خارج طنجة الدولية.
«مويط».. الفرنسي الذي كتب مذكرات أسره عند مولاي إسماعيل سنة 1670
تبقى مذكرات الأسير الفرنسي «مويط» في المغرب، أحد أقدم بل وأندر الكتابات، إن لم تكن الوحيدة التي وثقت ليوميات الأسرى الأجانب في المغرب.
هذا الفرنسي، سافر بحرا في آخر أيام شهر يوليوز من سنة 1670، لكنه وقع في أسر البحارة المغاربة في إطار ما كان يُعرف وقتها بالجهاد البحري، بعد أزيد من شهر تاهت خلاله السفينة في عرض البحر، ليتم اقتياد الركاب إلى مرفأ مدينة سلا، عاصمة «القراصنة»، وبذلك تتحول رحلته البحرية إلى تجربة سجن طويلة استمرت 11 سنة بالضبط. إذ جيء به، وبيع في سوق النخاسة في مدينة الرباط – بالضبط قرب باب القنانط – أيام دولة المولى إسماعيل. يحكي عن هذه التجربة في مذكراته الأصلية التي ترجمها الباحثان المغربيان، محمد حجي ومحمد الأخضر، ويقول:
«جاء ثلاثة من سادتي الذين لم يكونوا يملكون مني سوى النصف، ليروني حالا. يسمى أكبرهم محمد المراكشي. وكان يستأجر غابات الملك. ويسمى الثاني محمد البيوس، تاجر في الصوف والزيت، وهو رجل طيب كما عرفته في ما بعد. أما الثالث فكان يهوديا واسمه ربي يمين. فاشتروا لي بعض الأسمال، ثم ذهب بي المراكشي إلى منزله ليقدمني إلى زوجته. فأحضرت إلي على الفور خبزا أبيض وسمنا وعسلا وقليلا من التمر والعنب. وهي تقول: «كل. كل». وبما أنني كنت جائعا لم آكل بعدُ، فسرعان ما أتيت على جميع ما قدمت إلي. وأرادت أن تزيدني، عندما رأت أنني أكلت كل شيء، لكنني أشرت إليها برفع قبعتي، أنني اكتفيت..
(..) في اليوم الموالي وضعوني بين يدي محمد اليبوس، فأخذني هذا الأخير معه إلى منزله. حيث وجدت حماته وزوجته اللتين كانتا أندلسيتين، فأخذتا ترثيان لتعاستي. وأطعمتاني جيدا، ثم أعطتاني كيس قمح لطحنه في طاحونة يدوية كانت في مطبخهما. ذلك هو العمل العادي الأكثر بالنسبة إلى الأسرى الموجودين في المراسي البحرية، لعدم وجود طاحونات أخرى. إن هذه الحرفة القاسية تتطلب مجهودات كبيرة، وبما أنني لم يسبق لي أن عملت، فقد أخذ ذلك يزعجني منذ الحين الذي استخدمت فيه. وجعلت أنجز العمل وأصنع لهما دقيقا غليظا لا يمكن عجنه. فاضطرت سيدتي إلى أن تسلم إلي طفلا صغيرا لها لأتجول به عبر المدينة. وقد ألفني بحيث لم يعد يريد الذهاب مع الآخرين، ولا أن يضطجع إلا بجانبي. وسيدتي التي كانت شابة جميلة جدا تتكلم الإسبانية بطلاقة، عندما رأت ما يكنه لي ابنها من محبة، رخصت لي في أن أذهب به أينما شئت. وكانت تمتعني بخبز السميد الأبيض. وأزاحت عني سلسلة كانت تزن خمسة وعشرين رطلا كان زوجها قد أغلني بها، وكانت تناشدني أن أتحمل أسري بصبر، وحمتني من ضرب زوجها وسبابه، وطلبت مني مرارا أن أسلم، لتبرهن لي أكثر عن محبتها، وتزوجني من إحدى بنات أخيها».
تجربة الأسر عاشها «مويط» مع أزيد من أربعين رجلا فرنسيا، بالإضافة إلى أربع نساء. وقد عاشوا جميعا مرحلة بناء مدينة مكناس، حيث وصف الأشغال الشاقة ومراقبة السلطان مولاي إسماعيل لتقدم أشغال البناء بنفسه في مدينة مكناس، وكيف كان يأمر المخزنيين بإطعام الأسرى لكي تتقدم الأشغال أكثر، بل إن «مويط» يحكي أن المولى إسماعيل سمح للأسرى الفرنسيين بالحصول على المشروبات الكحولية في مناسبات دينية مسيحية، لتحفيزهم على الاشتغال بهمة أكبر.
لكن في المقابل، لم يفت هذا الأسير أن يُشير إلى مسألة تظاهر بعض الأسرى ممن كانوا معه باعتناق الإسلام، لكي يفروا من جحيم الأعمال الشاقة وحمل الأحجار.
والمثير في تجربته أنه بعد عودته إلى باريس في يوم 19 يوليوز 1681، بعد أن افتداه رهبان فرنسيون زاروا المغرب وأطلق المولى إسماعيل سراحه، عرفت منعرجا مهما، إذ زار فرنسا سفير المولى إسماعيل، الحاج محمد التطواني، فانشغلت الصحافة الفرنسية وقتها بالكتابة عن مفاوضات هذا السفير لأسابيع طويلة مع الملك لويس الرابع عشر. ففكر «مويط» في كتابة مذكراته باللغة الفرنسية في السنة نفسها، مغتنما انشغال صحافة فرنسا وقتها بالقضية المغربية وبالمولى إسماعيل.
المهندس لينتيسكو.. «جبالة» يأسرون العقل المدبر لسكة الحديد بالمغرب
يتعلق الأمر برئيس المهندسين في شركة إسبانية جاءت إلى المغرب في فترة الحرب الإسبانية بمنطقة الريف، ما بين سنتي 1920 و1922.
هذا المهندس الإسباني كان مكلفا بالإشراف على أشغال تأسيس سكة الحديد ومرورها عبر القرى والقبائل في منطقة جبالة، في الخط الذي ربط لاحقا بين طنجة والعرائش.
وقد وقع أسيرا في يد جماعة يترأسها مغربي اسمه «المودن».
ووضع الإسبان مكافأة كبيرة ووزعوا منشورات في مدينة طنجة، لتشجيع الناس على المساعدة في عملية إلقاء القبض على «المودن»، بعد تلقي المفوضية الإسبانية في طنجة شكايات كثيرة بشأن عمليات قطع الطريق واعتراض سبيل المسافرين الأجانب في المنطقة.
لكن النقطة التي أفاضت الكأس عند الإسبان، إقدام «المودن» على أسر المهندس الإسباني «لينتيسكو»، ومطالبته الحكومة الإسبانية بفدية، ورفضه الإدلاء بمكان إخفاء المهندس، واستمرار ابتزازه لإسبانيا لأشهر، رغم مساعي شركة سكة الحديد لاستعادة مهندسها واستئناف الأشغال المتوقفة.
لم تكن الصحافة الإسبانية رحيمة بحكومة بلادها، وحملتها مسؤولية ما قد يقع للمهندس الإسباني، طيلة فترة اختطافه وأسره على يد من وصفتهم بـ«قطاع طرق من الهمج».
هذه الواقعة تحدث عنها الشريف الريسوني، بصفته وقتها المسؤول الأول عن المنطقة، لكنه لم يفلح في إقناع «المودن» بإطلاق سراح هذا الأسير.
وتحدث صحافيون إسبان مع الريسوني عن «المودن»، وطلبوا منه معلومات عنه، بعد انتهاء فترة الحرب بطبيعة الحال. وبقي بعضهم يتذكر كيف استطاع هذا الرجل الملقب بـ«قاطع الطريق»، أن يصيب حكومة إسبانيا ومسؤوليها الكبار ودبلوماسييها بالعجز لأشهر، رغم أن قواتهم العسكرية كانت تغطي منطقة «جبالة».
وقد حكى عنه الريسوني في مذكراته «سلطان جبالة» للمغامرة «روزيتا فوربس»، عن واقعة اختطاف «المودن» للمهندس الإسباني قائلا:
«لقد كان هو الذي اختطف «لينتيسكو»، مهندس سكة الحديد، واحتفظ به أسيرا لأشهر، لأن الشركة رفضت أداء الفدية. كان مع المودن خمسة عشر رجلا، وترك نصف هذا العدد لتوفير الحراسة خلال عملية انسحابه.
ومع من تبقوا معه، ظهر فجأة وسط مخيم المهندسين بالقرب من تيزنيت، واعتقل لينتيسكو.
لم يحدث قتال كبير، لأن المغاربة الذين كانوا يعملون في أشغال إنشاء السكة بعضهم هرب، بينما الآخرون بقوا يتفرجون على المشهد. قُتل إسبانيان، وأصيب لينتيسكو بجروح طفيفة.
كان عملا عظيما، لأن المُختطَف قد هُرّب بسرعة عبر البلاد الخاضعة لإسبانيا، دون أن يجرؤ أحد على إنقاذه.
طلقات متفرقة وقليلة لاحقت الفرسان، لكن استداروا وردوا عليها بحزم، وأصابوا عددا من عمال سكة الحديد بجروح.
بعد ذلك غادروا في سلام، حيث تم حبس الإسباني في منزل. كان يعتقد أنه بئيس جدا، فقد كان لديه القليل فقط من الضوء، ولم يكن لديه سرير لينام عليه، باستثناء بعض الأكياس. لكن هذا حدث في فصل الربيع، وكان الجو دافئا. اشتكى من رداءة الطعام، لكنه كان يحصل على الحصة نفسها لرجال القبائل. خبز أسود وبعض الزيت».
يقول الريسوني في مذكراته إن المودن جاء عنده في ذلك الوقت لكي يخبره باختطافه المهندس الإسباني، وهكذا صار الريسوني على علم بالموضوع قبل الصحف الإسبانية، لكنه طلب من المودن أن يُطلق سراح الأسير، خصوصا وأن المهندس أبان عن شجاعة كبيرة في مواجهة سجانيه وتشاجر معهم مرات كثيرة، أثناء مطالبته بتحسين ظروف اعتقاله. لكن الصادم أن الحكومة الإسبانية ماطلت كثيرا في المفاوضات، ولم تقبل أن تؤدي مبلغا كبيرا مقابل إطلاق سراحه.
حتى أن هذا المهندس كتب بنفسه رسائل توسل فيها لإدارة شركته لكي تدفع الفدية مقابل إطلاق سراحه، لكن مسؤوليها تماطلوا كثيرا وراوغوا حتى لا يدفعوا أي مقابل، رغم أنه تحدث في الرسائل عن ظروف اعتقال سيئة تمثلت في إجباره على شرب ماء وضوء حراسه، وتدهور حالته الصحية.
مغامرات الإنجليز لإطلاق سراح أسراهم في المغرب أيام الحسن الأول
يبقى السيد «جون دريموند» أحد أهم من فاوضوا باسم بريطانيا، لإطلاق سراح الأسرى البريطانيين والأوروبيين عموما في المغرب.
فقد كان هذا الدبلوماسي البريطاني، الذي كان في الحقيقة أهم من كل وزراء خارجية بريطانيا خلال القرنين 18 و19، يتمتع بمكانة خاصة جدا في المغرب، وتمكن من خلال صداقاته مع مخزنيين مغاربة ممن نالوا صفة «المحميين» وحصلوا على جوازات سفر بريطانية، من دخول القصر الملكي في فاس بسهولة، وحظي بأكثر من لقاء مع مستشاري السلطان.
سجل الصحافي البريطاني «لاورنس هاريس» في زيارته إلى المغرب سنة 1908 باهتمام، مسار مفاوضات إطلاق سراح الأسرى الإنجليز في المغرب. وكتب في مذكراته قائلا: «قيل لي أيضا إن السلاطين كان لهم عبيد من النصارى الأوروبيين. حصلوا عليهم كأسرى في حروب سابقة. لقد تم استعمالهم، لسوء حظهم، في بناء قصور في مكناس ومراكش وفاس. كان المشرفون على بناء القصور يعمدون إلى أخذ كل عبد أظهر تقاعسا أو عياء في مواصلة أشغال البناء ورميه في التراب والكلس، وتغطيته بهما ودكه إلى أن يختفي وسط الجدار الذي كان في طور البناء. في سنة 1721، أرسل «ستيوارت» كسفير من إنجلترا ليقوم بشراء العبيد الأوروبيين ويعيدهم إلى أرضهم، لكنه وجد أغلبهم تحول إلى دين الإسلام حتى تنتهي معاناتهم الفظيعة في الأشغال الشاقة. لقد تم إنقاذهم وتعامل المغاربة معهم معاملة جيدة، على عكس أولئك الذين فضلوا البقاء على ديانتهم النصرانية. أما النساء فقد تم إلحاقهن بـ«الحريم».
في 1817، ومع تعاظم قوة إنجلترا وسيطرتها على مضيق جبل طارق، خاف السلطان سليمان من ذلك الامتداد، وحد من عمليات القرصنة البحرية، ولم تعد سفنه تمارسها بالأشكال السابقة وإنما بسرية، ولم تنته إلا في 1856، عندما نجح «السير جون دريموند» في تحرير جميع العبيد والمسجونين. كان هذا في أيام مولاي الحسن».
المثير أن مغامرات الإنجليز لإطلاق سراح أسراهم، تزامنت مع فترة حرجة جدا، لكنها لم تكن إلا بداية لما هو أسوأ.
إذ إن أحلك فترات احتجاز الأجانب في المغرب جاءت بعد إعلان إسبانيا الحرب في منطقة الشمال، وبعد اقتراب توقيع معاهدة الحماية الفرنسية. إذ إن جل الأجانب الذين تم احتجازهم في تلك الفترة، شكلوا ضغطا على حكومات بلادهم للتراجع.
بعكس مرحلة المولى إسماعيل وصولا إلى المولى الحسن الأول، حيث كانت عمليات احتجاز الأسرى الأجانب تتم غالبا في عرض البحر، ويتم اصطحابهم بالقوة إلى المغرب واحتجازهم للتفاوض بهم، لإطلاق سراح أسرى مغاربة وقعوا بدورهم في الأسر لدى فرنسا أو بريطانيا.
مبدأ التفاوض لإقامة مبادلات للأسرى، لم يعد قائما في القرن العشرين. حتى الحالات التي سُجلت في سنوات السباق الأجنبي على احتلال المغرب، كان الأسرى خلالها يأتون بأرجلهم إلى المناطق التي احتجزوا فيها. ووجدت الحكومة البريطانية والفرنسية والإسبانية مصاعب كثيرة في سعيها إلى إطلاق سراح مواطنيها، لأنها لم تكن تفاوض القصر كما في السابق، بل أصبحت أمام رجال القبائل ومحترفي المطالبة بالإتاوات، مقابل السماح بالمرور من نفوذ قبيلتهم الترابي. ورغم ذلك فقد سجل البريطانيون الفوز بمفاوضات كثيرة لإطلاق سراح الإنجليز الذين وقعوا في الأسر، حيث كان في مقر المفوضية البريطانية في طنجة موظف خاص بالتفاوض، كلما وصله خبر احتجاز مواطن بريطاني على يد من كانت الصحافة البريطانية تسميهم «قطاع الطرق». لكن بريطانيا رغم ذلك لم تكن تدفع المال في كثير من الحالات، بقدر ما كانت توفر بعض الامتيازات لمسؤولين مغاربة لكي يتوسطوا، مقابل إطلاق سراح مواطنيها. ورفض موظفو المفوضية البريطانية في مدينة طنجة وقتها فتح باب الحوار مع المختطفين، في أكثر من مناسبة.
رفضوا العودة.. برتغاليون وإسبان اختاروا الإقامة في «الجديدة»
في أيام السلطان محمد الرابع، ورث المغرب أفواجا من الأسرى الأجانب. بعضهم لم تفلح مساعي إطلاق سراحهم منذ أيام المولى إسماعيل ونسي أمرهم لسنوات، قبل أن تتجدد مفاوضات إطلاق سراحهم، وبقيت منهم أفواج لم يعودوا إلى ديارهم أبدا.
وهو ما جعل مؤرخين مغاربة وأجانب يفتحون تحقيقا واسعا، للتدقيق في الوثائق التي تعود إلى فترة القرنين السابع عشر والثامن عشر، سيما وأن بعض وثائق ورسائل التخطيط لاتفاقيات تبادل الأسرى تبقى غير مكتملة، ولم يُعرف بالضبط ماذا وقع بعدها، رغم حرص المراجع الأجنبية على التوثيق المحكم لعلاقاتها مع المغرب، خصوصا الفرنسيين والإسبان.
أما بخصوص كل من الأسرى الإسبان والبرتغاليين، فقد ارتبط مصيرهم بنتائج المعارك بين المغرب وبلديهم، خصوصا وأنهم وقعوا في الأسر إما خلال الاشتباكات البحرية، أو أثناء عمليات الجهاد البحري التي أطلقها سلاطين الدولة العلوية في أكثر من مناسبة، لحماية «الثغور» المغربية من الاحتلال الأجنبي.
الوقوع في الأسر في «مازاگان» كان يعني أن صاحبه سوف يعيش تجربة عصيبة جدا، بحكم أن المدينة كانت دائما محط أطماع الإسبان والبرتغاليين. وهو ما جعل وقوع هؤلاء الأسرى في قبضة البحارة المغاربة محكوما بمنطق الحرب،
سيما وأن أخبار احتجاز سفن مغربية في البحر المتوسط كانت تصل بدورها إلى «مازاگان»، لتزيد من تعميق الأزمة.
ففي عهد المولى إسماعيل جاء سفير خاص من إسبانيا لكي يتوسط لإطلاق سراح الأسرى الإسبان والبرتغاليين، لكنه لم يفلح، بل وتوجد كتابات تتهم السلطان مولاي إسماعيل بمعاملة هؤلاء المبعوثين معاملة غير لائقة.
ورغم أن المولى إسماعيل سجل تاريخيا أنه وقع اتفاقا لتبادل الأسرى مع الفرنسيين، إلا أن الواضح أن علاقته بالإسبان والبرتغاليين كانت تحكمها الكثير من المؤثرات.
الجهاد البحري الذي طالما اعتبره المغرب في تلك الفترة ركنا من أركان الحكم، كان سببا في تعميق مشكل الأسرى الإسبان والبرتغاليين، وما زاد أيضا من تعميق المشكل، الغارات التي كانت تنفذها الدولتان في محاولاتهما احتلال المدينة.
كتابات تاريخية كثيرة تحدثت عن اعتناق الأسرى الإسلام عن قناعة وبمحض إرادتهم بعد طول مكوثهم في الأسر، ورفض آخرين العودة إلى بلدانهم بعد أن تحرروا من الأسر عقب اعتناق الإسلام، ومنهم من كون عائلة في المغرب. ليبقى هذا الملف أحد أكثر المواضيع حساسية في التاريخ المشترك.
اريد الاشتراك سنويا للحصول على نسخة من جريدتكم عبر pdfوشكرا مسبقا ورمضان مبارك