شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الوثنية تجدد نفسها

 

بقلم: خالص جلبي

 

يبدو أن أصنام قريش دبت فيها الحياة مرة أخرى، ولكن بدون حجر وتمر. وبمطالعة الديكتاتورية في العالم العربي، يبدو أن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تعيش في أفضل أوضاعها. ومن الغريب أنه من حيث طرد الشيطان من أرض العربان وتحطمت الأوثان، عادت وكأنها تريد الانتقام.

وحيث يدخل المواطن العربي أقطارا شتى يواجه أوثانا في صورة مركب الأقانيم الثلاثة بدون كنيسة، على شكل صور هائلة مبجلة مخصصة للأب والابن والروح القدس. وإن دخل بلدا ثوريا عليه أن يبادر بالتوبة، فيحج أولا لضريح الزعيم، ثم يعرج فيرمي الجمرات على خونة النظام الشمولي، ثم يختم فيطوف بين سبعة فروع أمنية، ومن حزامه تتدلى سبع صرر محشوة بالهدايا لرؤساء الفروع الأمنية وحاشيتهم السمينة.

يظن البعض أن الوثنية هي اعتقاد أن الكون بغير خالق، وهو ظنُ ترفَّع عنه مشركو الجاهلية؛ فرأوا أن البعرة تدل على البعير، فكيف بسماء ذات أبراج ألا تدل على وجود اللطيف الخبير؟

ويظن البعض أن الصنم هو تمثال صدام الذي أسقطه الأمريكان في ربيع بغداد عام 2003م، وهذه نصف الحقيقة فكثير من أقطار العالم العربي توجد فيها صور عملاقة وليست تماثيل شاهقة. وما لم نستوعب حقيقة الرمز، فسوف ننتقل من عبادة وثن إلى آخر. ولن نفهم لماذا يستوي في التحريم لحم الخنزير، وما أهل به لغير الله؟

وفي يوم جاء المستشرق الألماني (بيتر شول لاتور) فدخل سوريا وهي غارقة في الدماء وقودها الناس والحجارة، فواجه بقايا مذبحة حماة، حيث قتل 40 ألفا، أحرق نصفهم بصواريخ ستالين، وفوق الأنقاض انتصبت صورة الأسد بشاربين يذكران بشيخ الحشاشين (سنان) فقال: الآن أدركت لماذا حرم الإسلام الصور؟ ولأن الرجل يعيش في ثقافة متحررة من الوثنية السياسية، فقد استوعب معنى التوحيد ورموزه أكثر من الذين يصلون بالليل والنهار ويحجون كل عام.

وأتذكر من السعودية حيث حرمت الأوثان وحوربت الصور، ولكن كلمات التبجيل فاقت التماثيل والصور بمراحل ولا تليق إلا (بذي العظمة) و(الجلالة)، فهل الكلمات أقل من أصنام صدام؟ أو أتفه من صور زعماء سياسيين يدفعون (الجزية) بالمليارات للأمريكيين عن (يد وهم صاغرون)، في الوقت الذي يعتبر هذا (مثقفو الحداثة) أنه زينة العقل وفن البقاء. ويظن البعض أنه طالما حضر الناس خطبة الجمعة وصلوا في المسجد، تحرروا من الوثنية والمؤذن ينادي بين أظهرهم: لا إله إلا الله، ولكن من هو (الإله) الفعلي في حياة الناس؟

في الواقع (الطقوس) تؤدي دور (قشاط = السمطة أو الحزام) السيارة الذي يربط بين الموتور والدينامو والبطارية، فتشحن السيارة بالكهرباء باستمرار؛ فإذا دار حول الحزام حول نفسه وقفت السيارة عن الحركة. وفي أي مكان في العالم قد تتحول الطقوس إلى وثنية جديدة مفرغة من كل معنى، كما يعجز حزام السيارة عن توليد الكهرباء. ولم يحارب المسيح إلا كهنة اليهود من (الكتبة والفريسيين) المواظبين على الصلوات في المعابد، فكانوا له ألد الخصام. كما جاء وصفهم في الإنجيل: يعرضون عصائبهم ويطولون لحاهم ويحبون المتكأ الأول في المجالس، وأن يناديهم الناس شيخي وسيدي. والقرآن حرم الكعبة على المشركين واعتبرهم «نجسا فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا»، وكانوا يحجون كما نحج. واعتبر أن صلاتهم حول البيت ما كانت إلا (مكاءً وتصدية)، أي حركات باليدين وطقطقة بالأسنان وصفيرا. وفي يوم هدم النبي صلى الله عليه وسلم (مسجدا)، لأنه اعتبره «ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله»، فليست العبرة بالأحجار بل بالأفكار. وقرر (القرآن) أن المشركين ما كانوا ليعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر. وليس المهم الرشاقة الهندسية ولا الإنفاق المالي، أو أن نضع أكبر ساعة في العالم، أو نبني أكبر برج بما تعجز عنه بابل، وأن عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج ليست كمن آمن بالله وجاهد في سبيله. فعندما تنفصل الأفكار عن الواقع تموت الأفكار، كما يحدث للسيارة حينما تتبخر منها الكهرباء فلا يشتغل شيء. والجسد حينما تفارقه الروح يتحول إلى جثة تتعفن. وهذا يدخلنا موضوعا حساسا للغاية، وهو أن الوثنية تحافظ على حقيقتها وتبدل جلدها باستمرار. ويتبادل العباد على عبادتها وهم لا يشعرون. ومن أنكرها حاربوه باسم الإيمان. ولا يشعرون أن الإيمان القديم فقد بريقه وحقيقته وتحول إلى وثنية. وسبحان من يخرج (الميت) من (الحي)، كما ولد الكفر من الإيمان. وفي هذه النقطة الخطيرة أنشد (محمد إقبال) شعره من الهند عن الوثن (مناة) فقال: تبدل في كل حال مناة .. شاب بنو الدهر وهي فتاة. وحتى نعرف (الإله) الفعلي في حياة الناس، فليقوم (مجنون) بتجربة مثيرة وهي التعرض لرئيس جمهورية ثورية في العالم العربي أو بورما أو كوريا الشمالية، ثم ليتعرض لذي العزة والجلال، ولير في أي حال تسرع الأيادي إليه ضربا بالوجوه والأدبار؟  

 

نافذة:

في يوم هدم النبي صلى الله عليه وسلم مسجدا لأنه اعتبره «ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله» فليست العبرة بالأحجار بل بالأفكار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى