شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

تخليص الضمير من أزمة الفناء

بقلم: خالص جلبي

 

كان الهدف الأول من فلسفة القرآن تخليص الضمير من أزمة الفناء في ظاهرة الموت، فما معنى الموت؟ ولماذا خلق الموت؟ نحن نعلم أن وسوسة الشيطان لآدم كانت في اثنتين: شجرة الخلد وملك لا يبلى. الخلود مع بقاء الشباب وملحقاته من ملكيات القوة والصحة والمتعة، من الطعام والشراب والأمن والجنس والعائلة والمال. وفي الأساطير اليونانية يروى أن أفروديت، ملكة الحب، عشقت شابا، فطلبت من زيوس، رب الآلهة في الأولمب، أن يمنحه الخلود! وإذ اجتمعت الآلهة واتخذت قرارها بمنحه الخلود، غلطت أفروديت غلطا رهيبا، لأنها لم تقلد الشيطان حين وسوس لآدم ليس فقط بالخلد، بل ملك لا يبلى! هنا بدأ العشق يذوي مع تقدم السن للمعشوق وتراكب الهرم والضعف والشيخوخة والمرض والخرف، بل بدأ يثرثر بدون توقف على عادة المسنين الذين يحبون أن يسمع لهم أحد ترهاتهم. أنا شخصيا كنت أتمنى من والدي أن يشرح لنا الفترة التي عاشها وهي القرن العشرين، كان يتضايق من سؤالي، حتى كان ذلك اليوم الذي قال: نحن عشنا ولم نعش! وهو مخطئ في هذا، لأن أشياء كثيرة من التحولات مرت به ويجب أن يسجلها. هنا ترد فكرة خطيرة أن كل واحد منا يظن أن الآخرين فعلوا شيئا وهو لم يفعل شيء. في الواقع فنحن وكل واحد منا قارة متنقلة من الأحداث والمشاعر والذكريات، ولكن لا نتفطن إلى هذه الحقيقة. المهم كانت النتيجة أن آلهة الأولمب اجتمعت مجددا لتمسخ المعشوق إلى صرصار الليل الذي لا يكف عن حك رجليه وأجنحته؛ فهذه كانت النتيجة التي انتهت إليها أفروديت، حين طلبت الخلود بدون شباب. وهو تفسير حالة صاحبنا الذي شاخ وأين صار.

وهنا تحضرني قصة الأستاذ الجامعي عندما بدأ الموت يطبق عليه، فبدأ يحاور تلميذه الصحفي «ميتشم ألبم» في كل يوم ثلاثاء في تجربة فريدة لتسجيل مشاعر الحي ـ الميت وهو يودع الحياة وسلم الأولويات في الحياة وينقل حكمته من الحياة لمن بعده. ومن الأمور العجيبة التي تم تسجيلها على مدار ثلاثة أشهر، أن الإنسان يتطهر وينظف وتبدأ أولويات حياته تتغير بالكامل. فما كان مهما أصبح تافها وما كان مهملا قفز إلى الواجهة. وهكذا بدأ لقاء الثلاثاء الأسبوعي الذي دام لأشهر. كان موري يذكر طالبه بفكرة عند البوذيين تتطلب تخيل عصفورة على كتفنا، وسؤالها مع بداية كل نهار: «أيتها العصفورة! هل هذا هو اليوم الذي سأموت فيه؟» كان موري يقول لألبم: إن تذكره اليومي للموت سيجعله أكثر إنسانية وأكثر شفافية. وهذا يذكر بالكاتب الفرنسي «فيكتور هوغو»، والذي شبه موت المسن بسفينة تصل إلى الميناء، بينما شبه موت الشاب بسفينة تتحطم في عرض البحر. موت الشباب يشبه أيضا رواية مثيرة تتوقف في منتصف الحبكة، هي صاعقة لكل من حوله، مع غمامة من حزن عميق وشعور بخسارة مباغتة. عندما نواجه الموت وأن هذا سيكون بعد أيام، نشعر أنه علينا إعادة ترتيب الاهتمامات والأولويات. فتبدأ أمور تصغر في العين إلى نقطة رياضية وكانت كبيرة بحجم الجبل، وتبدأ أمور أخرى تكبر وتعظم بقدر المحيط وكنا لا نأبه لها أو نهتم. إن إدراكنا للموت يجعلنا نتصرف ونفكر بشكل مختلف، وإن وجود الموت كمفهوم حيوي في ثقافة ما يُكَوِّنُ أفرادا أكثر إنسانية. وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. إن الثقافة الغربية لا تشجع على التفكير في الموت، ولهذا بدأ العديد من الكُتاب الغربيين يعيدون النظر في الموت، ويدركون أهميته كفكرة مركزية في حياتنا. وعندما كنت في ألمانيا شعرت أن غرق الناس في الحياة والتمتع بخضرائها وحلوها شيء استولي على القلوب، ومنه فإن فاجعة الموت يتلقونها بصدمة غير عادية، فهي تمثل انقطاعا لشيء يبدو أنه يجب أن لا ينقطع، وهو غفلة كبرى عن هذه الظاهرة المستحكمة، وأكثر ما شغل قلوب الجبارين بدءا من الإمبراطور «شين»، الذي أسس الصين ومرورا بجنكيز خان وانتهاء بالطاغية ستالين، كان قلق الموت قد استولي عليهم وطلبوا الحكماء والفلاسفة حلا لهذا الإشكالية. ويروى عن الفيلسوف الذي استقدمه جنكيز خان من مسافة 4000 كلم من بكين حتى أفغانستان، حيث كان يذبح العباد بالجملة، أن أول سؤال وجهه إليه عن إكسير الحياة فقال له: أما الموت فلا سلطان لي عليه، ولكن إن أردت أن أجعلك تعيش بشكل جيد قلت لك سري ومبلغ علمي. فأصيب الجبار جنكيز خان بالحزن، وعندما رأى الفيلسوف ما يحدث من فظاعات في معسكر الطاغية طلب منه أن يخلي سبيله. وقصة العصفورة البوذية تعكس أيضا مركزية الموت في الإسلام. وجاء في الحديث ما معناه: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبد الدهر، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا». وقام «ستيفن كوفي»، الكاتب في علم التنظيم والنجاح، ومستشار الرئيس الأمريكي الأسبق «بيل كلينتون» في الإدارة الفعالة، باستعمال الموت في تدريب تلاميذه. ففي كتابه «سبع عادات فعالة للناس الناجحين»، يخبرنا كيف سأل طلبته بأن يتخيلوا موتهم بعد ثلاثة أشهر، وطلب منهم أن يكتبوا مذكرات تفصيلية لهذه الفترة التي يجب أن يعيشوها وهم يفكرون بالموت المقترب. وكانت المفاجأة للطلبة عندما اكتشفوا أن أولوياتهم قد تغيرت وأن مشاعرهم قد تبدلت. فهم أصبحوا يكتبون الرسائل للأقرباء والأصدقاء ويتصلون أكثر بجداتهم وأمهاتهم. وفي هذا الكتاب يطلب كوفي من قرائه أن يتخيلوا ما يريدون أن يقال عنهم يوم جنازتهم، ويشرح أن كل ما نريده أن يقال عنا في هذا اليوم هو أولوياتنا في الحياة. وروت لي ابنتي عن صديقة لها توفيت بالسرطان في ميعة الشباب، فطلبت من الواعظ قبل موتها أن يتحدث عن البعث في جنازتها بدل الموت. وعندما بدأ كلمته عن البعث، نزولا عند وصيتها، قال للحضور إنه يصعب عليه التحدث عن البعث لأناس يتألمون على موت عزيز لهم. ولكن في النهاية، قال لهم إنه فهم لماذا طلبت منه هذا، فقد شعر بقوة الإيمان والحياة وهو يتحدث عن البعث. يجب أن نفكر في البعث عندما نواجه الموت، ويجب أن نتذكر الموت عندما نواجه الحياة.

 

نافذة:

إن إدراكنا للموت يجعلنا نتصرف ونفكر بشكل مختلف وإن وجود الموت كمفهوم حيوي في ثقافة ما يُكَوٍّنُ أفرادا أكثر إنسانية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى