الرئيسية

تقصير عنق الزرافة

سعيد الباز
يلاحظ كلّ مستعمل للإنترنيت، من خلال محركات البحث العملاقة أو مواقع التواصل الاجتماعي، الكم الهائل من الإعلانات التي تستهدفه بطريقة تجعله في النهاية يألفها أو لا يبالي بها بحكم العادة. لكن لو تمعّن قليلا في الأمر، وتساءل عن نوع هذا الإشهار الذي يقتحم عالمه الافتراضي، وعن علاقة ممكنة بينه وهذا الإعلان الذي يظنه اعتباطيا أو ذا طابع عموميّ، لوجد أنّ الحقيقة في مكان آخر.
كانت أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة «هارفارد» الأمريكية شوشانا زوبوف- Shoshana Zuboff من أوائل من انتبهوا إلى هذه الظاهرة الجديدة التي أطلقت عليها اسم «عصر رأسمالية المراقبة»، وهو بالمناسبة عنوان كتابها المثير للجدل الذي صدر سنة 2015، حيث اعتبره البعض إنذارا قويا بمجموعة من التحولات العميقة في النظام الرأسمالي الحالي، ستقلب كلّ المعادلات الاقتصادية التي قام عليها والبنيات الأساسية التي يرتكز عليها. فيما يرى البعض الآخر أنّ الكتاب بطروحاته يحمل الكثير من التهويل والتضخيم، وليس له من غاية سوى الفرقعة الإعلامية واستغلال المخاوف الطبيعية لدى الناس أمام كلّ ما هو جديد.
تقول شوشانا زوبوف: «مرّ علينا زمن حين كنا نبحث في محرك «غوغل»، لكن الحاصل الآن هو أن محرك «غوغل» هو من يبحث فينا وحتى لا نقول يعبث بنا». المسألة، في وجهة نظرها، أنّ محركات البحث العملاقة مثل غوغل والمنصات التابعة له، من بريد إلكتروني و«يوتوب».. التي قد يبلغ عدد المنخرطين فيها حدود المليار شهريا أو موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» بملياري مستخدم، قد يمكنهما من الحصول على بيانات شخصية مهمّة قابلة للاستفادة منها على عدة أوجه.
تكمن الاستفادة الأولى في القدرة على مراقبة سلوك مئات الملايين من الناس في اختياراتهم ومواقفهم تجاه أحداث معينة وتفاعلهم معها سلبا أو إيجابا، ما يسمح بتكوين بيانات شخصية لهم وتحليلها من أجل التنبؤ بسلوكهم مستقبلا. الاستفادة الثانية، وهي الأهم اقتصاديا، أن تتحول إلى ثروة لا تقدر بثمن تسيل لعاب كبريات شركات الإشهار التي هي الزبون الحقيقي لمحركات البحث بمختلف منصاتها، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي والكثير من التطبيقات الذكية من خلال الهواتف والحواسيب. الاستفادة الثالثة، وهي الأكثر خطورة، تتمثل في التحكم في سلوك المرتادين وتوجيههم بخلق عادات استهلاكية وخلق رغبات معينة لديهم. فإذا كانت شركات الإشهار هي الزبون لمحركات البحث التي تجني منها الأموال الطائلة، فإنّ المنخرط في خدماتها، الذي يعتقد في نفسه أنّها مجانية، هو المادة الخام لسوق جديدة أو السلعة الحقيقية التي تباع وتشترى دون إرادته وبدون علمه، وأنّ العملية برمتها تستهدف في العمق الربح وفي الظاهر تدّعي المجانية. الخطورة الأكثر فداحة هي أن يستقل الرأسمال من خلال هذه الشركات الجديدة، لأول مرة في تاريخ البشرية، عن أيّ سلطة وأن يمتلك القدرة على مراقبة المجتمع وتوجيهه، دون أن يخضع هو نفسه لأيّ مراقبة أو محاسبة، ويصبح مفهوم الدولة، بالتالي، أمام هذا الاستبداد الجديد، غير ذي معنى.
إنّ ما يعطي أطروحة شوشانا زوبوف الكثير من الوجاهة هو إقرار شركة غوغل بأن دخلها من البيانات الشخصية للزبائن بلغ أكثر من 80 في المائة، بل حتّى رئيسها السابق إيريك شميث صرح بهذه الحقيقة في إحدى محاضرته، قائلا: «دعنا نفترض أنّك تمشي في شارع ما، وبناء على المعلومات التي تجمعها غوغل عنك، نحن نعلمُ بنحو قد يزيدُ أو ينقص دقّةً من أنت، ونعلمُ بنحو تقريبي ماهيّة الموضوعات التي تهتمّ بها، وعلى وجه التقريب وفي محيط بضعة أمتار تعرفُ غوغل أيضاً أين أنت في هذه اللحظة». الوضع الحالي، كما عبرت عنه شوشانا: «أن مطالبة غوغل بالمحافظة على سرية البيانات الشخصية كمن يطالب الزرافة بتقصير عنقها»!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى