شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

تقنعنا نصوص السرغيني بأن العربية لا تزال قادرة على التخصيب 

حوار الشاعر مع عبد السلام المساوي

حاوره: محمود عبد الغني

 

  • أستاذ عبد السلام المساوي، أنت شاعر وناقد، إذا طلب منك تقديم تاريخ للشعر المغربي الحديث، كيف سترويه؟

+ لا يميل تاريخ الشعر المغربي كثيراً عن المسالك التي سارت فيها الشعريات العالمية، ولكنه يبقى محافظا على الخصوصية الـمؤكدة بتجارب لا تجحد مرجعياتها المشرقية والغربية، وإن كانت تتحرك بإيقاع دمها الخاص وهويتها المعروفة. وما يزيدنا إيـمانا بمحافظة هذا الشعر على هويته – منذ القديم – كونه، على خـلاف الشعر العربي في المشرق؛ ظل متصل الحـلقات عبر المراحل التاريخـية، ولم تصبه عدوى التصنع والبديع التي أصابت نظيره في المشرق العربي؛ فاستمر وفيّاً للمعنى، مصغيا لخـلجات الذوات المنشئة لكيانه. ويـتقوَّى طَرْحُنا، هذا، بشـهادة كبار الدارسـين والنقاد الذين امتلكوا في زمنهم جرأة الإنصاف وإحقاق الحق؛ مثلما فعل الدكتور طه حسـين في رسـالة بعث بها إلى الأديب المغربي عبد الله كنون (1908 ـ 1989) عـقب صدور كتابه (النبوغ المغربي)، وهي الرسالة التي أثبتها المؤلف في الطبعة الثانية من الكتاب، حيث أبدى إعجابه بالقصائد المغربية لكونها استمرت محافظة على روح الحركة الشعرية العربية في عصورها الذهبية.

لقد آمن الشعراء المغاربة الرواد بضرورة التغيير الفني في الشعر، عن طريق التحلل من قيود المحافظة، مثلما آمنوا بضرورة حركة التغيير التي ينبغي أن تمس بعض مظاهر الظلم والإجحاف في المجتمع وفي سُلطاته الحاكمة. ولا عجب إن وجدنا بعضاً من شباب تلك المرحلة يلتحقون في وقت قياسي بحركة الشعر الحر. ومن بين هؤلاء الذين أغرتهم حركة التجديد التي كان يقودها السياب ونازك الملائكة في العراق: محمد السرغيني، وأحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد الميموني، وعبد الكريم الطبال… كان ذلك في البداية؛ ثم تناسلت التجارب الشعرية المغربية المعاصرة طوال العقود التالية، بفعل الاحتكاك الفكري والإبداعي بالتجارب العالمية، سيما في اللغات الأوروبية (الفرنسية، الإسبانية، الإنجليزية)؛ فاتسعت دائرة الشعراء واختلفت توجهاتهم الإبداعية والجمالية، بعيدا عن أي تصنيف في أيّ تيار فني، عرف الشعر معه نوعاً من الفسيفساء الفني، كلٌّ بلونه وتشكيله، وإن كانوا جميعا يَنْشدون بلوغ أفق الحداثة في ما يبدعون.

 

  • ما أسماء الشعراء البارزين في هذا الشعر؟ وما محطاته الكبرى؟

+ لا شك أن المحطة التأسيسية في الشعر المغربي الحديث، التي بدت ملامحها في الظهور طوال الستينيات، كان لها الفضل في تحديث القصيدة المغربية في العقود التي تلت. ومهّدت للانطلاق في حلة جديدة ومغايرة لما كان سائداً، إذ فتحت للشعراء أفقاً واسعاً للتحليق والتعبير والإبداع… طبعا مع العمل على توطيد العلاقة مع دواعي الالتزام الاجتماعي والسياسي؛ بل أكثر من ذلك نجحت في دمج عنصر الذات دمجا تلقائياً في الصوت الجماعي في مجتمع يعجّ بالصراعات، ويبحث عن الشاعر الوظيفي الذي تتطلبه مرحلة التغيير؛ شاعر يُخْلص للغة الشعرية التي كانت بحاجة إلى التخفيف من نتوءات المباشرة الفجة، من خلال فسح الطريق للتخييل ولمكون الصورة الشعرية التي غُيّبت طويلا، وتجديد مستويات الإيقاع.

وإذا كانت السبعينيات عرفت ظهور أسماء جديدة على غرار محمد بنيس، وإدريس الملياني، وأحمد صبري، وعبد الله راجع، ومحمد بنطلحة، وعبد الرفيع الجوهري، ورشيد المومني، وأحمد بنميمون، ومحمد عنيبة الحمري، ومليكة العاصمي، وأحمد هناوي، وأحمد بلبداوي، ومحمد الشيخي، وحسن الأمراني، ومحمد بنعمارة، ومحمد علي الرباوي، وغيرهم، فإن الأسماء المؤسسة للقصيدة المغربية الحرة واصلت حركيّتها الإبداعية بنفس جديد ومنفتح على ما أفرزته الحداثة الشعرية. وهذا ما تجلى في تجارب كل من الشعراء محمد السرغيني، وأحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، وعبد الكريم الطبال، لكن بتفاوت واضح بينهم في المسالك الجمالية التي ارتادُوها وارتضَوْها. ثم إنه إذا كان المجّاطي والكنوني مالا إلى نوع من الغنائية الجديدة Néo-lyrisme في مراوحة بين الهموم الذاتية والجماعية، فإن محمد السرغيني أوجد لنفسه توجهاً إبداعيا جديداً يقطع مع تجاربه السابقة.

 

  • من هم شعراء الحداثة الأساسيون في المغرب، في نظرك، هل يمكن ذكر بعض الأسماء؟

+ يصعب أن تحصر شعراء الحداثة في المغرب، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، فأمامنا اليوم وفرة في التجارب والأسماء، كل يجد سبيله إلى الحداثة بالطريقة التي يفهمها؛ إذ هناك من يأخذ من الحداثة قشورها الخارجية مقلداً ما يكتبه الغربيون، وهناك ندرة تنظر إلى الحداثة بوصفها استنباتا ومقاومة لتحرير الشكل والمجتمع والحياة. وعموما أصبح الشاعر المغربي المعاصر، المتشبع بروح الحداثة الحقيقية، يدرك أن الموضوع في الشعر لا يُكتب من خارجه، وأنه عندما يتقدم إلى القصيدة يكون عارياً من الأفكار والمعاني، مفسحا للطاقة الإيجابية فيه أن تندلق، وهي تتخيل أشكال الدلالات وعلاماتها مسنودة بمرجعيات متنوعة وبرؤية واضحة للذات في علاقاتها المتشابكة بالآخر وبالعالم. فالقصيدة أكبر من الموضوع، والشعر إعصارٌ كوني صامت. كما أن هذا الشاعر يعرف أنه لا خير في نصوص تكتفي بمراودة اللغة بلا جدوى، وبدون أن تكون مسنودة بموقف من الحياة والوجود؛ سواء تعلق الأمر بالمواقف الجزئية التي لها ارتباطات بما يجري على الأرض، أو بالمواقف الفكرية والفلسفية بما يتناءى من حقائق ويغيب وراء غُلالات وأستار.

 

  • كيف تنظر إلى تجربة الشاعر محمد السرغيني؟

+ ما يمكن تعلُّمه من تجربة الشاعر محمد السرغيني أن الغنائية في الشعر عطبٌ عفويٌ يصيب الشعراء غير المدربين على العيش في عالم لم يعد مقتنعاً بالبكاء؛ وأن المعرفة الإنسانية المهضومة تضاهي التجربة الواقعية في المعيش، وأن تفكيك الجمل والأساليب التي تنمَّطت، وإعادة تركيبها هي مهمة الشعراء الذين لا يستسيغون الوقوف تحت المظلات في طقس شديد الصحو. لهذا تقنعنا نصوص الشاعر محمد السرغيني بأن اللغة العربية، بعد قرون طويلة من الكتابة الشعرية، ما تزال لغة قادرة على التخصيب والإنجاب والعطاء المتجدد.. تلك النصوص التي يضمن لها صاحبها نسغاً شعرياً معتمداً على حسن تدبير المرجعيات، ومزجها بالتجربة الذاتية في الحياة؛ مع حرص شديد على صياغة محصنة من التنميط والاستنساخ. إذ تعتبر نصوصه حاملة للمعرفة الإنسانية، لكن بتصرف وتأويل يشيان بقدرة فائقة على الحفر في أنطولوجياتها حفراً يسوِّغُها للتوجيه والإضافة والتحويل. وهي أيضاً نصوص حاملة لوجدان لا يأبه بالألم الكبير.

أعرف طبعاً أنه يؤمن بالتذويب الكلي للتجارب الحيوية وصهرها مع المقروء من ثقافات العالم المتنوعة؛ خصوصاً وهو المطلع الكبير والعارف بمجموعة من اللغات وثقافاتها.. ثم إن وجدانه يُطوِّع الإحساس العادي، ويرقى به لكي يندرج في الحدس الحاد، لذلك يختفي البكاء من نصوصه، ويختفي أثر الحزن تماماً، وينتصر الفكر الثاقب والعابر للطبقات مدعوماً بسخرية عارمة من كل شيء.

 

– كيف تنظر إلى جيل محمد السرغيني؟

+ اختلفت الأسماء التي جايلته معه في طريقة فهمها للشعر وكتابته. وإذا ركزنا على الشاعرين أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني اللذين يعتبران – إلى جانبه – من المؤسسين للقصيدة الحرة بالمغرب، نقول: إن المجّاطي كان مقلا في كتاباته الشعرية، وسمح له هذا الإقلال بالمراهنة على الصياغة الجمالية لنصوصه؛ بل يمكن اعتباره ممن يعاودون النظر في القصيدة بعد اكتمالها إلى أن يقتنع بالشكل الذي يريد أن يذيعه في الناس. كما أنه لا يتحيز إلى تطرف بعض الحداثيين الذين يستبعدون جانب المعنى أو الرؤية الشعرية من تجاربهم، وينساقون وراء التقليعات اللغوية التي تضع التأويل في حدود المتاهات، وباختصار كان منتصرا لشعرية حاملة لوظيفتي الحلم والتغيير. أما تجربة الشاعر محمد الخمار الكنوني فتأثرت بمرجعيات الأدب الإسباني، فقد كان ضليعا في اللغة الإسبانية إلى جانب تأثره بالمدرسة الشرقية، الأمر الذي نشأت عنه غنائية مستحدثة تنصت للذات بالقدر الذي تتوق إلى المطلق. وتصعب المقارنة بين التجارب الثلاثة، لأن تجربتي المجاطي والكنوني، للأسف، لم تكتملا بسبب الرحيل المبكر رحمهما الله.

 

– ما المرجعيات الكبرى لهذا الشاعر الفذ؟

+ شعره ملتقى مرجعياته، لكن بتدبير يعرف هو كيف يتصرف فيه عن وعي أو بالهضم اللاواعي لتلك المرجعيات. قد يختلف معه بعض متلقي الشعر، وقد ينصرفون عن قراءة أعماله الشعرية؛ لأنهم لا يجدون فيها ما تعودوا عليه، ولا يجدون في نصوصه رجلاً يتمرَّن على الحب بالمجاز، ويهجو زملاءه بما تيسر من استعارات وكنايات وتشبيهات. بل يجدون- إذا أعملوا فكرهم واجتهادهم- حكيماً يسخر من اللغة بالجوهر الشعري، ويقايض اللفظ بالمعنى. صحيح أنه أستاذ أكاديمي درَّس النظريات والمدارس الفنية والأدبية لعدد كبير من طلابه في سنين طويلة من عمره المعطاء، لكنه لم يجعل صوته الشعري صدىً لتلك النظريات أو المدارس، إلا بالقدر الذي يستسيغه الأداء الفني والبعد الرؤيوي في زوبعة المعنى المتدفق من نصوصه. هو قارئ كبير في علم الأديان والتصوف والفكر الفلسفي والتراث العربي. مثلما يقرأ الشعر العالمي في لغاته أو ترجماته، والشاعر محمد السرغيني يعتبر إقباله على قراءة الشعر الغربي نوعا من الاسترشاد الذي لا يصرفه عن صفاء الديباجة باللغة العربية ونقائها.

 

– هل يمكنك الحديث عن محمد السرغيني الناقد؟

+ لا أستطيع أن أفصل بين صورة الناقد وصورة المدرس في شخصية الدكتور محمد السرغيني. فقد كنتُ مواظبا على دروسه منذ سنتي الأولى بكلية الآداب ظهر المهراز، وفي ما بعد خلال دراستي العليا (شهادة استكمال الدروس ودبلوم الدراسات العليا ودكتوراه الدولة). ذلك أن دروسه، في هذه المرحلة من نشاطه وحيويته، كانت تركز على أهمية الاشتغال على الخطاب الشعري بأدوات منهجية جديدة منفتحة على مختلف التيارات الألسنية والنفسية والسيميائية. وقد تأثر الأستاذ بسيميولوجية الأشكال الرمزية كما تجلت عند صديقه جون مولينو J. Molino  الذي زامله في التدريس بكلية الآداب ظهر المهراز، لأنه كان يجدها قابلة للتطبيق على النصوص الشعرية. وقد ألف كتابا نقديا عميقا في هذا المجال بعنوان: (محاضرات في السيميولوجيا)، صار مرجعاً أساساً في مجاله للطلبة والدارسين. ولأنه كان معجبا بتجربة الشاعر اللبناني الفرانكفوني صلاح استيتيه، فقد قدم عن شعره دراسة نقدية في موضوع: العناصر الأربعة في شعر صلاح استيتيه، صدرت عن مطبعة خضر ببيروت. وله كتابات نقدية متفرقة في المجلات والدوريات، منها تقديمه النقدي لديوان الشاعر محمد الفيتوري (شرق الشمس غرب القمر) الذي صدر عن المجلس القومي للثقافة العربية سنة 1987، من المقدمات القوية التي تستحضر جملة من قناعاته الفكرية والنقدية التي ينظر بها إلى النص الشعري. ومن قناعاته أن الجانب النظري في النقد ينبغي أن يطبّق على البنيات النصية تطبيقاً علمياً يفضي إلى نتائج منسجمة. صحيح هو لم يوثق قناعاته النقدية في كتب كثيرة، لأنه كان يعطي الأولوية لتجربته في الإبداع الشعري. كما أن الندوات والمؤتمرات التي كان يشارك فيها؛ علاوة على إشرافه على عشرات الرسائل الجامعية والأطروحات ومناقشتها، كانت في الحقيقة فضاء رحباً لتصريف آرائه النقدية.

 

 

– والسرغيني المترجم؟ يجب ألا ننساه..

+ لم ينشغل الشاعر محمد السرغيني كثيراً بالترجمة، لأن مشروعه الإبداعي الخاص في الشعر كان يملأ عليه اهتمامه. ولكنه، من خلال أعمال قليلة فيها، أثبت قدرته على التحكم في ناصية تعريب بعض الأعمال الإبداعية، من مثل ترجمته للمسرحية الإسبانية: (أغنية القطار الشبح) التي نشرتها سلسلة المسرح العالمي. ولعل ترجمته لرائعة الشاعر فريديريكو غارسيا لوركا في رثاء صديقه مصارع الثيران إغناثيو سانشيث ميخياس من أجمل الترجمات التي حظيت بها هذه الرائعة الشعرية بمقارنتها مع الترجمات المشرقية التي أنجزت لها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى