شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

جنازة جامعة الدول العربية

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

مع كارثة غزة اجتمع العرب والترك والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر في الرياض، في 11 نونبر 2023م، فكان أشبه بنادي القمار الدولي، وممن تحدث عن القتل الصهيوني كان القاتل الأكبر طاغية دمشق الذي قتل من السوريين مليونا بسبعين ألف برميل وهجّر 15 مليونا، مما لم تفعله دولة بني صهيون في كل تاريخها الممتد على مدى 75 عاما. وهذا يعني أن العالم العربي يعيش أيام دول الطوائف في عصر المعتمد وذي النون والأفطس على نحو أسوأ.

وللذاكرة ففي خريف عام 2002 م تقدمت ليبيا بطلب الانسحاب من عضوية جامعة الدول العربية، وبغض النظر عن الحركة المسرحية لتفعيل هذه المؤسسة تحت ضغط الإحباط، إلا أنها في الوقت نفسه نعوة صحيحة في جنازة جامعة الدول العربية، تناسبها عصابة سوداء على الذراع رمزا للحداد. وعندما أعلن «كمال أتاتورك» نهاية الخلافة الإسلامية، لم يصدق الناس أن يقدر «أبو الأتراك» على هدم صرح عمره خمسة قرون. وأعلن يوما بوش الصغير (أبو الحملة الصليبية على العراق) أن جمعية الأمم المتحدة ستلحق بالمرحومة عصبة الأمم المتحدة، التي تفاءل الرئيس الأمريكي يومها «ويلسون» أن تكون (حلف فضول) القرن العشرين، تحقيقا لنبوءة الفيلسوف «إيمانويل كانط» التي جاءت في كتابه «نحو السلام الشامل».

ويرى المؤرخ «توينبي» أن هناك علاقة بين (المؤسسات) و(الأفكار)، فلا يمكن إيداع أفكار قديمة في رحم مؤسسات جديدة. وبتعبير «توينبي» نقلا عن الإنجيل: «ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، فيصير الخرق أردأ، ولا يجعلون خمرا جديدة في زقاق عتيقة، فالخمر تنصب والزقاق تتلف». ولو لم يعلن أبراهام لنكولن تحرير العبيد لحررتهم الآلة في العصر الصناعي، واليوم تتحول الحدود في أوروبا إلى رموز لعهد قديم. وينسخ الإنترنت عصر صناديق البريد. وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألا تعلم أن الله على كل شي قدير.

وفي القرآن الكريم قصة رمزية معبرة عن الموت والحياة، عندما مات سليمان عليه السلام فلم تنتبه الجن إلى أنه فارق الحياة، والذي كشف سر موته (حشرة) أكلت منسأته (العصا التي يتكئ عليها)، فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.

وبهذا فإن أتاتورك وزع بطاقات النعوة، كما فعل ذلك القذافي المقذوف إلى قبر مجهول هو عند ملائكة العذاب معروف. وكمال أتاتورك قام (بدفن) جثة ولم (يقتل) عملاقا من حجم الخلافة، ولا يزيد دوره عما فعلته (دابة الأرض) التي أكلت منسـأة الرجل الميت على ضفاف البوسفور.

وفي الطب نعرف أن الموت يبدأ بتوقف (الوظيفة)، قبل اندثار (الشكل). وعندما يموت من يموت فإنه يحافظ على (شكله) في الساعات الأولى وتبقى الجثة ساخنة قبل التفسخ، فإذا تحللت غاب (الشكل) وعاد إلى دورة الطبيعة بكامل المواد، فأما الغازات فتعرج إلى السماء، وأما المعادن فتتحلل في التراب، كما في القرآن: «قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ».

وقد يشذ المنظر لظروف مناخية من صقيع أو حر مترافق بجفاف، فيبقى الشكل مومياء لا تضر ولا تنفع، وقد حاول الفراعنة عبثا المحافظة على الشكل بفن التحنيط على أمل إعادة (الوظيفة) للذي مات، ولكن لا المحنط ولا المتخشب ولا المندثر هي أشكال للحياة، بل هي تظاهرات منوعة للموت، والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.

وحاول المؤرخ والفيلسوف «أوسفالد شبنغلر = Oswald Spengler»، في كتابه الموسوم «أفول الغرب = Der Untergang des Aendlandes –The Decline  of the West»، نقل هذه الصورة من تخشب الشجر وجفاف العود، بدون نضارة الحياة، أنها مصير الأمم والحضارات أيضا. وما ينطبق على الجثث والمؤسسات والحضارات والخلافة الإسلامية وعصبة الأمم لن تخرج عنه (جامعة الدول العربية)، بفارق أن الأخيرة ولدت مثل الجنين الميت. كما جاء في قصة سليمان فألقينا على كرسيه جسدا، ثم أناب حين طلب الكثير من الذرية فجاءه طرحا ميتا. وجامعة الدول العربية حاليا ميتة منذ نشأتها قبل أزيد من نصف قرن، بانطفاء الوظيفة وبقاء الشكل الخارجي، مثل مومياء رمسيس الثاني، ولذلك كان مقرها القاهرة، مكان تحنيط الموتى، آية للمتوسمين. ومنذ نصف قرن لم نسمع عن هذا الميت أي حركة تشير إلى الحياة، وهي لا تزيد على ديكور سياسي قد تنفع في المناسبات والاحتفالات، ولكن ليس للحسم في القرارات المصيرية. وما نسمع عن الانهيار العربي الحالي، وكارثة غزة في خريف 2023 م (طوفان الأقصى في 7 أكتوبر)، ودمار سوريا بيد طاغية دمشق، وليبيا بيد المغامر حفتر، خليفة القذافي المقذوف، أو المالكي بدون ملك من مخلفات صدام المصدوم، هي كلها تداعيات من حرب الخليج الثانية التي عجزت فيها الجامعة العربية، وهي بدورها نتائج من حرب الخليج الأولى التي عجزت في حلها أيضا الجامعة العربية، وفاقد الشيء لا يعطيه. وكل حدث هو في علاقة جدلية بين ما قبله وما بعده، فهو سبب لما بعده، وهو نتيجة لما سبقه من حدث تماما مثل الشريط السينمائي الذي هو تتالي الصور، فإذا اندمجت وتتالت ظهرت متحركة، وكذلك أحداث التاريخ. ومع أن ولادة السوق الأوروبية المشتركة رافقت ولادة جامعة الدول العربية، ولكن الفرق بين الاثنتين مثل الفرق بين البيضة المسلوقة والبيضة التي خرج منها ديك يصيح على السياج.

نحن نعلم من أسرار الخلية أن الكائنات إذا بدأت بداية سليمة كما في البيولوجيا، فإنها تبدأ بخلية واحدة بكود وراثي مكتمل، فإذا بدأت بخلية مفرغة من النواة والكود الوراثي لم تتابع الحياة، كذلك الوضع في جامعة الدول العربية فإنها بدأت حياتها بدون كود وراثي. وأهم شيء في (الكود الوراثي الاجتماعي) هو (الثقة)، فهي تشبه قوى النواة القوية التي تحافظ على ترابط البروتونات بجانب بعض مع تنافر الشحنات، ولكنها أعظم طاقة في الكون. يقول مثل صيني: ثلاثة أشياء أساسية في المجتمع: السلاح والخبز والثقة. فإذا أردنا الاستغناء عن واحد رمينا السلاح. وإذا أردنا الاحتفاظ بواحد كانت الثقة، لأن الناس عاشوا بدون خبز إلى حين، ولكنهم لم يعيشوا قط بدون ثقة.
لماذا نجحت السوق الأوروبية وفشلت الجامعة العربية؟ إن السوق الأوروبية لم تعلن عن نفسها بشعارات ضخمة مثلنا، بل مشت ببدايات بسيطة وسليمة وقابلة للتنفيذ، مثل اتفاقية مونتان في الحديد والصلب بين ألمانيا وفرنسا. واليوم ولد اليورو كعملاق اقتصادي خلفه 27 دولة، تضم نصف مليار من الأنام. أما جامعة الدولة العربية وعددها 24 دولة، فلا تزيد على نادي قمار الشعارات.

 

نافذة:

جامعة الدول العربية حاليا ميتة منذ نشأتها قبل أزيد من نصف قرن بانطفاء الوظيفة وبقاء الشكل الخارجي مثل مومياء رمسيس الثاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى