شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

حسن نجمي.. الواحد المتعدّد العابر للصداقات والمعاني

تجتمع في هذا الملف نسبة قليلة من الصداقات الممتدّة للشاعر والكاتب حسن نجمي. تكونت هذه الصداقات منذ كان طالبا بكلية الآداب، حين أبرز أنه الأخ الأكبر للجميع، رغم صغر سنه، وامتدت هذه المكانة وتوسعت حين انخرط في النضال الحزبي والثقافي والجمعوي. ومنذ أن أصدر أولى مجموعاته الشعرية «لك الإمارة أيتها الخزامى» (الدار البيضاء، 1982) أثبت نحمي أنه موهبة شعرية قادمة بقوة إلى المشهد الشعري المغربي. ثم جاءت مجموعته «سقط سهوا» (الدار البيضاء 1990) وعمقت هذه التجربة الشعرية الفتية ورسختها في تربة احتضنت بذرتها.

ربطت حسن نجمي صداقات فنية مع فنانين تشكيليين يصعب حصرهم في هذه العجالة، لكن لا بأس من ذكر محمد القاسمي الذي أبدع معه ديواناً رفيع المستوى «الرياح البنية» (الرباط، 1993). وبعدها توالت الإبداعات في الشعر والرواية والنقد والحوارات. لو فتحنا صفحات هذه الجريدة بكاملها لجاءتنا مشاركات أصدقائه، فمن يريد أن يقدم عربون محبة، ومنهم من يطمع في ردّ دين، ومنهم من يريد البوح بأوراق عن عمر وتجربة جمعته به.

الكاتب والمثقف المتعدد

أحـمـد زنـيـبـر

 

ينتمي حسن نجمي إلى لحظة ثقافية مغربية، استند خلالها إلى عدة روافد متنوعة، زاوجت بين الفكر والإعلام والسياسة والشعر والرواية. حقق تجربة ممتدة في الزمان وفي المكان، مثل نهر في انسيابه وعمقه. وراكم، إلى جانب ذلك، خبرة في الحكامة والتدبير الثقافي. لم يخلف وعده أو موعده مع الكتابة. انتسب إلى دائرة الشعراء حين تمثلوا الأحلام جسرا إلى المعنى.

أنجز نجمي، على امتداد أكثر من أربعين سنة، أعمالا شعرية حققت تداولا كبيرا بين القراء، ومكنته من حظوة نقدية واسعة. ظل مخلصا لثقافته الوطنية، مدافعًا عن نبوغ مبدعيها في الأدبين: المُعْـرَب والعامّي. كتابته تختزل فكره وتكوينه. استطاع أن يُفرد لنفسه مسارا أدبيا خاصا. فالقصيدة ترسم ملامحها وفق ما ترتضيه من مجاز وانزياحات، قد لا تتوافق بالضرورة وإشراقات الذات الشاعرة؛ لذلك فإن الخضوع إليها يجعل الشاعر مسكونا بها وبهمّها، فيأتي السؤال القلق: «إلى أين ستأخذني القصيدة القادمة؟».

تتميز نصوص حسن نجمي بالتفافها، ليس فقط حول الذات أو السّيَر الإنسانية؛ وإنما بالأمكنة أيضا، بوصفها فضاء للاحتواء والاحتماء، داخله تعبر حالات ومشاهد وتفاصيل حياة، تعكس قلق الإنسان ودرجة وعيه بسؤال الكينونة.

ولنا أن نقرأ ما نسجه من حميمية مع مدينة الرباط ونهرها الرقراق، حين توسل بالعين اللاقطة والإحساس اليقظ في ذكر التفاصيل والجزئيات، مثلما برع في الاحتفاء بالهوامش واستدعاء الوجوه والمشاهد. يسافر في الأفضية والأروقة المتعددة، ويرسم صورا تجسد جزءًا من تفاعلات الذات مع المحيط.

ومثلما احتفى بالحياة احتفى بالموت أيضا، وراح يقلب فكرته في (أنّا أخماتوفا) حتى انتهى إلى أن رحلة الإنسان محسومة بين لحظتين، بداية ونهاية. ولأننا لا نسبح في النهر مرتين، فكذلك لا نعبر النهر مرتين، استنادا إلى (فكرة النهر). فالنهر، لا ينحصر في بعده الطبيعي فحسب؛ بل يتعداه إلى فكرة لها ارتباط بالمكان والزمان وبالحركة أيضا. فكرة قوامها أن النهر لا يطير، بتعبير الشاعر؛ لكن الفكرة عكسه تطير بأجنحة لا مرئية تعبُر الذات والوجود. يقول: «أعرف أيها النهر كنت قطرة ثم فضت بالدمع».

يكتب قصيدةً بحِبرِ واحد عن نهر يسير «وحيدًا كسطر حُـرّ في قصيدة». يتأمل ويحاور ويراقب ويغادر. يرى رحلة النهر شبيهة برحلة مفتوحة على المجهول والمحتمل.

حسن نجمي نموذج للمثقف المتعدد الذي جمع من الصفات ما تفرق في غيره، كما يقال، وكاتب له بصمته المميزة، وصاحب ظلال وارفة على الإبداع المغربي.

 

حسن نجمي

تعهّد خربشاتي الشعرية الأولى

 

مراد القادري/ شاعر

 

كيف أستعيدُ، هُنا والآن، عَلاقتي بحَسن نجْمي؟ الشّاعر الذي لم ألتقِ به إلا وهُو في إهَابِ شاعر، وذلك منْذُ أوّل لقاءٍ لنا بمقرّ الحِزب بزنقة تحت الحمام بالرباط، وقد كان قادِمًا من الحيِّ الجامعي مولاي إسماعيل ليقرأ شِعْرًا في ذِكْرى الشّهيد محمد كرينة، مُرورًا بزياراتي المتكرّرة له بمقرّ جريدة الاتحاد الاشتراكي بزنقة الأمير عبد القادر بالدار البيضاء، حيثُ كان حسن نجمي الصّحافي الذي تعَهّدَ خَربَشاتِي الشّعرية الأولى، وراهَن على اسمي ووثَق في بُروقِه ووعُودِه، وُصُولا إلى اشْتغالنا المشْترك في بيت الشّعر.

وأنا أحاوِلُ النّهُوضَ بواجبِ الذّاكِرة نحْو حسن نجمي واسترجاعِ شريط علاقتي به، يخْتلطُ فيه المستويان الشّخصي والجمْعي.

وإذا كان المستوى الأخير (الجمعي)، بات معْروفًا لدى الجميع. ففيه يتبدّى مسارُ شابٍّ قادمٍ من جغرافية مهمّشة، نجح، بعدَ رِحلةِ عطاءٍ خِصبة في حقول الشّعر والصحافة الثقافية والرواية والبحث الأكاديمي والتدبير الثقافي، في أن يصير علامة بارزة في الثقافة المغربية والعربية. فإن المستوى الشخصي سيتيح لي الإمساك بما يصِلُني بالشاعر الصديق حسن نجمي.

على هذا المستوى، أنا مَدينٌ لنجمي، إلى جانبِ عددٍ من الكُتّاب الآخَرين الذين قام حسن نجمي بإطلاق أسمائِهم في سماءِ الكِتابة، سواءٌ بصِفَته مسؤُولا صحافيًّا أو رئيسًا لاتّحاد كتّاب المغرب وبيت الشعر، مُنتصِرًا في ذلك للإبداعِ في اللحظة التي يكونُ فيها مشْدُودًا إلى كلّ ما هُو مُدْهشٌ وحالم.

أذكُرُ أنّ حسن نجْمي هو من شجَّعني على طبْعِ دِيواني الأول «حْرُوف الكفّ» الصّادر عن دار نشر قُرطبة بالدار البيضاء سنة 1994، وهو الدّيوانُ الذي ورّطني في الإبداع، وجعَلني أستشعرُ مسؤُولية الكِتابة، وأنه لمْ يعُدْ مقبُولا منّي الاسْتِخفاف بشرُوطها ومُقتضياتها اللّغوية والجمالية.

عندما قَرّرتُ تجاوُزَ هذا الدّيوان والانْسِلال من ظِلالِه، والعُبورَ إلى مُعجمٍ آخر، واسْتعاراتٍ جديدة، وطبْع ديواني الثاني «غزيل لبنات» الصّادر سنة 2005، أذكُر أنَّ الشّاعر حسن نجمي خصّص لي حِوارا كامِلا على صفحات الملحَق الثقافي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، فكان بذلك سنَدًا ليس لي فحَسب، بل للقصيدة العامّية المغربية الحديثة، ولشُعرائِها الذين نادرًا ما كانوا يجِدُون يدًا تمْتدُّ إليهم بالتّحيّة.

من جِهةٍ أخرى، كان حسن نجمي هُو من اقترحَ عليّ عُنوانَ ديواني «طراموايْ» الذي تضمّنَ القصيدة التي حملت نفسَ العنوان، والتي آثرتُ أنْ أهْديَها له تقديرًا للدّور الذي لعِبه في حياتي الثّقافية والشّعرية، فقد ظلّ نجمي، كما الطرامواي، يحرصُ على أنْ يضعَ عرباتِنا الحالمةَ على سِكّة الإبداع، ويُؤمِّنَ رحلاتِها، ويُتابعَ بذاتِ العِناية والحَدَب محطّاتِها المتوَالية: من محطة صفحة «على الطّريق» عبُورًا بمحطة «الملحق الثقافي» وصُولا إلى محطّة «الديوان الأول».

نجمي.. نساج المعاني

 

لحسن العسبي

 

كثيرة هي العلامات التي نلج من خلالها إلى الجغرافيات السرية المؤسسة لهذا الاسم أو ذاك، وبالنسبة لي فإن من أهم المداخل (كعلامة) لتمثل شخصية الشاعر والكاتب والصحافي حسن نجمي (أخا وصديقا) خط كتابته على الورقة البيضاء. ذلك أن كل من قيض له أن تتقاطع دروب حياته معه، سيكتشف أن الرجل حين يجلس إلى الورقة البكر البيضاء، فإنه يكتب دفعة واحدة، في جلسة واحدة، بخط جميل جدا سلس، وبدون أية خدوش أو خربشات محو، فهو لا يخطئ. فورقته دوما نظيفة، أقصد أن صحيفته دوما نظيفة.

تلك علامة على أن الرجل يصدر عن هناء روحي سادر، كناية عن قوة شخصية راسخة. هل السر كامن في البئر التي تشرب منها القيم، التي هي بادية بلاد امزاب؟ أم أن ذلك راجع للصوفية الضاجة بتلك الجغرافية الممتدة ما بين مدن بن حمد وسطات وخريبكة، حيث كل طريق تقودك إلى ضريح ولي جديد (العلوة وما ليها والصلاح للي فيها)؟.. بل إن ما قد يعزز هذا الممكن، ذلك الشغف الذي يسكن الرجل للتجوال والسفر. فحسن نجمي راكب ريح دائم، أشرعته دوما منصوبة تنتظر هبة نسيم تأخذها حيث يشاء فعل الاكتشاف. فهو بهذا المعنى جوال باحث عن الامتلاء بالحياة، تماما مثل الصوفي (المجذوب) الساعي للفوز بـ«المعنى» الهارب من سديم الوقت.

إن حسن نجمي حين يكتب فهو يقول شغفه فقط بـ«المعنى»، ذلك الثاوي في حصى الشعاب أو في ظل نخلة بعيدة هناك في حقل الأبد. بل إنه يكاد يترجم لنا اللغة الصامتة لاقتراف الحياة، كما تندس في أديم الأرض. يحفر عليها بكياسة العاشق حين يجلي الحجب عن أشفار عين الريم (تلك التي تليق بها القصيدة حين تقول: «كل السيوف قواطع إن جردت، وحسام لحظك قاطع في غمده»).

أكثر من ذلك، إنه يرتكب «حماقته» تلك بروح طفل، ذاك الذي يلاعب خصلات المعاني مثلما يلاعب الوليد حلمات صدر أمه، ليس بحثا عن حليب بالضرورة بل عن رائحة انتماء. فالشبع الحقيقي عنده، هو أن يرتوي بـ«الانتماء» أن يمتلئ بـ«المعنى» وأن يدفأ بـ«الرضى». بالتالي فإن الكتابة عنده طقس تصالح بينه وبين الكينونة، بكل ما يقتضيه ذلك من طقس شفيف، يجد ترجمته في ذلك الصفاء الذي يميز خطوط كلماته وهي تهطل منسابة على ورقة بيضاء. حينها كما أن الرجل ينقش على الورق كيمياء وجوده أثرا يبقى كوشم في ظاهر اليد.

 

شاعر في مرآة النهر

 

جمال أماش

 

في كتاب «ندبة أوليس»، وهو عبارة عن منتخبات للشاعر حسن نجمي، الصادرة عن منشورات بتانة بمصر، 2022، والتي اختار نصوصها بعناية فائقة، وبانتباه ووعي شعريين نافذين، قد تقف على عدد من التيمات، ومن الحلقات والمنعطفات في تجربة الشاعر نجمي. ولكن تستوقفني منها، تيمتان أو قيمتان قلما نجدهما في سجل الشعراء، وهما مسؤولية الشاعر وأخلاقياته الشعرية، كما نوه إلى ذلك «ألبرتو مانغويل» في فن القراءة. وهو ما سنحاول الوقوف عنده في النصوص المنتخبة من مجموعته «على انفراد».

فمن التحديات التي يواجهها الشاعر، اختيار العنوان، وحسن نجمي بارع في اختيار عناوين مجموعاته الشعرية. وما أعرفه جيدا، ومن خلال قراءاتي لتجربته الشعرية وتتبعي لها، أنه يشتغل على العنوان، ليس كجمع نصوص متفرقة في مجموعة، ولكن يشتغل على فكرة شعرية، وعلى سياقها، الذي يشكل هويتها. وهذا ما يتجلى في «حياة صغيرة» و«فكرة النهر» و«على انفراد»، وفي غيرها.

وهي مسؤولية ليست سهلة أو اعتباطية، ولكنها آتية وناتجة عن كفاية معرفية بقضايا الشعر ومساراته وإشكالاته النظرية والنقدية. وهو ما يبدو لي جيدا، مثلا، في مجموعته «على انفراد»، حيث تمكن مقاربتها من زاويتين:

-انفراد الكاتب في علاقته مع ذاته، ومع الشعر. أي أن الشاعر كقارئ أول لنصه، أو ناقد ذاته، بصرامة الناقد، وحكمة العارف. ولذلك فالكتابة، بالنسبة إليه، تمثل عبورا هيراقليطيا، في نهر التجربة الشعرية الإنسانية. مما يستلزم دقة اختيار الكلمة المناسبة في مسار الجملة الشعرية، وفق تصور محدد ورؤية واضحة للعالم.

-الكتابة على انفراد اختيار أنطولوجي ووجودي، يحدد فيه الشاعر حسن نجمي مساحة الكينونة، ويلتزم فيه الشاعر بصداقة الشعر. وهو ما يجعل من القول الشعري متعة إبداعية ومسؤولية جمالية ونقدية.

-والخصيصة الثانية، أو القيمة الثانية، لدى الشاعر نجمي، هي أخلاقيات الشاعر. وهي هويته التي يتسمى بها، في الكتابة وفي الحياة. شاعر في مرآة النهر. بدون أقنعة أو مساحيق مزيفة. يكتب كما يعيش، ويتصرف كما يكتب. ينعكس في شعره ضوء خافت للكلمات، ضوء كالماء. هو التجلي لصداقة الشعر والامتثال لها، كما جاء في نص «بورخيس» (أعمى مثلك، ولست نادما على شيء تركته في الضوء، فقط مثلك حرمتُ من السواد) ص351. وفي مقطع آخر، يقول (يتمشى… أكتشف معنى أن يتكئ على نفسه، ومعنى أن يكون مع الضوء على انفراد) ص352. وفي علاقته بالآخر، يكشف حسن نجمي، في «أنا وبورخيس»، عن شاعر يحلم ومهنته النسيان، أحيانا يهجر نفسه، وقد دأب أن يخرج من جسده، من مكانه ومن زمانه، له إرادة الحلم. هكذا يظهر نجمي وصورة بورخيس تلاحقه، في مجاز يقظ، وفي ديالكتيك الأنا والآخر. «من يملي القصيدة على الآخر، كلاهما أعمى، ببصيرة كلمات من ذهب، مطمورة تحت الرمل» (ص354).

هكذا يبدو الشاعر حسن نجمي يقيم في القصيدة كنبر غريب، بإيقاع جسد غريب في الضوء. في انفراده وفي عزلته، وهو يرصد العالم من حوله، بالاستناد إلى مرجعية شعرية مختلفة، تبرز من خلال صداقاته وإهداءاته الشعرية الغنية، التي تبرز مدى انفتاحه وتملكه للغات مختلفة، من الفرنسية والإنجليزية والإيطالية أساسا، التي يتقنها، نطقا وقراءة، ويتحدث بها بشكل سلس، وترجمت إليها آخر أعماله الشعرية «فكرة النهر». هذا بالإضافة إلى ترجمته إلى لغات أخرى. وهذا ما مكنه من عبور صوته إلى شرفات أخرى أجنبية، غير شرفته العربية والمغربية. وكذا حصوله على جوائز شعرية سواء داخل المغرب أو خارجه.

 

«عصر الفراغ.. الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة»

 

«قمة اللامبالاة أن يعيش الإنسان بلا هدف ولا معنى، في زمن الإبهار والإغراء تتلاشى التناقضات الصلبة، بين الحقيقي والمزيف، وبين الجميل والقبيح، وبين الواقع والوهم، وبين المعنى واللامعنى، وتصبح المتضادات «عائمة». صار بإمكان الإنسان أن يعيش بلا هدف ولا معنى في تعاقب وميضي، وهذا شيء مستجد، فقد سبق لنيتشه أن صرح بأنّ أي معنى كائناً ما كان يبقى أفضل من غياب المعنى كلياً، وحتى هذا لم يعد صحيحاً اليوم، ولم تعد هنالك حاجة إلى المعنى، ويمكن للإنسان أن يعيش دون اكتراث للمعنى، دون شجو ولا إحباط ولا تطلع إلى قيم جديدة، وهذا في نظر الكثير من الدارسين هو قمة اللامبالاة.

ظاهرة اللامبالاة تبرز بوضوح أكبر في ميدان التعليم حيث تلاشت هيبة المدرسين وسلطتهم بشكل كامل في غضون بضع سنوات وبسرعة خاطفة، حيث أصبح خطاب المعلم الآن منزوع القداسة ومبتذلا، وعلى قدم المساواة مع خطاب الإعلام، وأصبح التعليم آلة تم تحييدها بسبب الفتور المدرسي الذي يظهر من خلال الاهتمام المشتت والارتياب غير المتحرج تجاه المعرفة.

يريد الإنسان أن يعيش الحاضر ولا شيء غيره، ولم يعد يرغب أن يعيش وفقاً للماضي والمستقبل، ففقدان معنى الاستمرارية التاريخية هذا، وتآكل الإحساس بالانتماء إلى سلسلة من الأجيال المتجذرة في الماضي والممتدة في المستقبل هو الذي يميز المجتمع النرجسي ويخرجه إلى الوجود. إننا نعيش الآن من أجل أنفسنا، دون الاكتراث لتقاليدنا ولا لمآلنا، لقد هجر المعنى التاريخي كما سبق، وهجرت القيم والمؤسسات الاجتماعية.

فالنرجسية إذن وعي جديد للغاية وبنية عضوية في الشخصية ما بعد الحداثية، لذلك يتحتم أن نتصورها كنتيجة لعملية شاملة تنظم السير الاجتماعي، فالشخصية الجديدة للفرد تدعو إلى الاعتقاد بأن النرجسية لا يمكن أن تنتج عن مجموعة متفرقة من الأحداث المؤقتة، وإن كان ذلك مصاحباً بشكل سحري للوعي. لقد ظهرت النرجسية في الواقع من الهجر المعمم للقيم والغايات الاجتماعية، والراجع إلى عملية الشخصنة.

ولقد صاحب هذه النرجسية ظهور ما يمكن أن نصطلح عليه بـ«الفراغ» أو «القنوط الجديد» الذي أصاب عدداً متزايداً من الذوات. ويبدو أن اتفاق الاختصاصيين حول هذه النقطة هو عام؛ إذ إن الاضطرابات النرجسية هي التي تشكل الجزء الأكبر من الأمراض النفسية التي يعالجها المتخصصون في السنوات الأخيرة، في حين أن الاضطرابات العصبية «التقليدية» مثل الهستيريا والخوف والهوس التي قام عليها التحليل النفسي لم تعد تمثل الشكل الرائج للأعراض، فالاضطرابات النرجسية تكون أعراضها واضحة ومحددة تظهر على شكل شعور بالضيق يتفشى ويجتاح الإنسان، وإحساس بالفراغ الداخلي، وبعبثية الحياة، وعجز عن الإحساس بالأشياء والكائنات.

 

 

المصدر: جيل ليبوفتسكي «عصر الفراغ.. الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة».

 

حوار مع يحيى بن الوليد:

حسن نجمي شاعر عربي يمتلك ذائقة شعرية رفيعة

 

نجري هذا الحوار مع الناقد والباحث يحيى بن الوليد، الذي اقترب من تجربة حسن نجمي من خلال صداقة بينهما امتدت قرابة ثلاثة عقود، وأيضاً من خلال كتابه عنه «شعر الحواس.. ونحنُ نقرأ الشاعر حسن نجمي». يحيى بن الوليد اسم معروف في المغرب وخارجه بدراساته القيمة في النقد الثقافي، الشعر والرواية.

 

حاوره: محمود عبد الغني

 

 

  • ماذا يمثل حسن نجمي في الشعرية المغربية الحديثة؟

** بخصوص ما يمثله حسن نجمي في الشعر المغربي الحديث، فهو، بالنسبة لي، واحد من الشعراء العرب المعاصرين من الذين يمكن التعاطي التحليلي والحواري مع إسهامهم، في مجال الإبداع الشعري بصفة خاصة ومجال الثقافة بصفة عامة، بوصفه مُنْجَزًا قائمَ الذات… بعد أن ضمِن لذاته، منذ مرحلة أولى، في مساره الشعري، نوعا من الحضور المميَّز بالمغرب في جغرافياته الثقافية المتنوّعة وتياراته الإيديولوجية المتغيّرة والمتقلّبة.

ويُشفع لتجربة حسن نجمي، وإن في ظل تزايد اغتراب الشعر عن الواقع أو «شعر هذا الزمان» كما في التوصيف غير اللائق، امتلاكها للعديد من المقوّمات والتكوينات؛ فضلا عن وعيها بالذائقة الشعرية العربية وتقلبات هذه الذائقة، الأمر الذي يحفّز، بشكل متناغم، على «عمل الناقد» في حضوره الدال والمستقل بخصوص التعاطي معها.

ولا أدلّ على ذلك من التعامل معه اليوم بصفته شاعرا عربيا معاصرا بجوار شعراء أمثال الراحل أمجد ناصر، نوري الجراح، سيف الرحبي، أحمد الشهاوي، عمر شبانة، زهير أبو شايب… وفي ما بعد إيمان مرسال، ميسون صقر، وفاء العمراني وغيرهن حتى لا ننغلق في الزمرة الذكورية، وغير هؤلاء جميعهم من المتمسّكين بحبل الشعر في الزمن الثقافي العربي شبه الواهي.

  • أصدرت كتابا عن نجمي عنوانه «شعر الحواس.. ونحنُ نقرأ الشاعر حسن نجمي» (في طبعتين) ما أهم خلاصات هذا الكتاب؟

** فعلا أقدمت أخيرا على نشر كتاب حول تجربة حسن نجمي الشعرية بعنوان «شعر الحواس أو ونحن نقرأ حسن نجمي» (في انتظار أن يتمّ توزيعه). في الحقيقة الكتاب امتداد لكتيب سبق لنا نشره حول مسارات حسن نجمي سنة 2005. وكنت توقفت فيه عند آخر إصدار للشاعر وقتذلك؛ وهو مجموعة «حياة صغيرة» الصادرة سنة 2004.

وأمّا في المدى الزمني، الممتد من سنة 2005 إلى الآن، فقد صدرت للشاعر أعمال شعرية كان لا بد، وبالنظر إلى مرجعية الشاعر المتجدّدة، من أن تكشف عن تبدّلات في الأفق الشعري الذي يستوعب هذه الأعمال اللاحقة؛ وهي، للمناسبة، عديدة. كما ظهرت له أعمال أخرى، من منظور «النص الموازي»، وتصل ما بين نقد الشعر والسرد الروائي والحوار النقدي والبحث الأكاديمي الصرف… إلخ.

والفكرة الأساس هي البحث في استعادة الشاعر للأشياء والوجوه والتفاصيل… وغيرها من ارتكازات العيش المشترك وأساليب الذوق، دونما تفريط في بعض مسوح التخييل أيضا؛ وعلى النحو الذي يسعف الشعر على أن «يكتب ذاته بذاته» بتعبير بورخيس. وقد تطلعتُ، في الكتاب، إلى استخلاص المفهوم (شعر الرؤية) انطلاقا ممّا أسميته، على مستوى العنوان الفرعي هذه المرّة، «مسارات حسن نجمي»… مراعاة للفواصل التي تتكّشف عنها تجربته الشعرية عبْر التحقق النصي المتفاوت.

واصلت في الطبعة الجديدة والمستأنفة التشديد على العمل الأوّل الذي كان صاحبه أوّل من تنكّـر له بحجة أنه ينتمي إلى «الوعي الشعري المغلوط» كما نعته؛ معنى ذلك أنه ليس دليل «ولادة بالتقسيط» إذا جاز أن نأخذ بعبارة محمود درويش بعد أن وظّفها في توصيف حاله. وفي هذا الصدد لا داعي لاستحضار الشعراء وما أكثرهم، بدءًا من محمود درويش ذاته، من الذين تنكّروا لأعمالهم الأولى وفورة الحماسة الأولى للشعر، بل أصدروا في حقها أحكاما قاسية لا تستجيب ــ بالضرورة ــ لتلك النظرة الطردية والعكسية ــ في آن ــ على نحو ما يأخذ بها بعض النقاد في تعاطيهم مع التجارب الشعرية التي يرونها أهلا للتحليل والتفسير والتقويم.

 

  • حسن نجمي فاعل ومثقف متعدد الاهتمامات، أين تجد اهتمامه المركزي؟

** مدار حسن نجمي أوسع ومتشعب وهو مدار الثقافة، في حال المغرب تحديدًا، حيث يسعى حسن نجمي الدارس الشغوف والمتمكّن إلى دراسة مواضيع تندرج، في الأغلب الأعم، ضمن ذلك النوع الغميس أو المنسيّ من المواضيع التي تمسّ، عبر أنساقها الدالة والمطموسة، الإنتاج الرمزيَّ الحيَّ والتاريخَ الثقافي الآنيَّ والملموسَ للمغرب المعاصر. وسيكون لذلك تأثيره على مستوى المرجعية الناظمة لشعره وبمنأى عن أيّ ربط ميكانيكي مبسّط بين الجانبين.

وحتى في الكتاب الأخير استحضرت جميع الواجهات التي يكتب فيها الشاعر حسن نجمي بكثير من الاهتمام والتجويد والتريّث… تأكيدا لنوع من المسافة المعرفية والفواصل الزمنية بين أعماله. وتصل هذه الجبهات بين الكتابة الصحفية والنقد الصحفي والنقد الثقافي والبورتريه والرواية والنقد التشكيلي… لكن دونما تفريط في ثوابت الشاعر التي هي قرينة مرجعيته التي أكسبتْ خطابَه بعدًا مميَّزا قوامه لغة مخصوصة لا تخلو من تفرّد ناجم عن تحرّر هذه المرجعية من أيّ نوع من الدوائر المغلقة التي تفضي، حتما، إلى اللغة الأحادية خصوصًا حين تعمي هذه الأخيرة عن التعاطي مع «المختلف» في مجال الإبداع الشعري الذي هو مجال حسن نجمي الأثير.

 

  • قدم حسن نجمي الشيء الكثير للصحافة المغربية، خصوصاً الصحافة الثقافية..

** من هذه الناحية كتب في مجالات مختلفة بدءًا من الصحافة التي حاور فيها، منذ فترة مبكرة من عمره، وبحسّ ثقافي واجتماعي، شعراءَ ومبدعين وفنانين ومفكرين ومثقفين وسياسيّين… إلخ. بالقدر ذاته أقدم على إعداد ملفات يعدّ بعضها الأوّل من نوعه في التاريخ الصحفي والثقافي بالمغرب (ملفاته حول الغناء التقليدي المنسي بين أسوار الدرس الأكاديمي والعمل الصحفي ذاته؛ فن العيطة، تعيينا).

والصحافة نسبة إلى حزب الاتحاد الاشتراكي، وهي الصحافة المكتوبة التي عمل حسن نجمي فيها على مدار زمني غير قصير. وعلى هذا المستوى فخطاب حسن نجمي متعدّد؛ كما أن ملفاته مختلفة، وهي لا تفارق ما يمكن نعته بـ«أسئلة المغرب الراهن». والصحافة، هنا، من حيث هي جزء من الخطاب الذي يسهم في تغيير الإنسان، وبالتالي توجيه التاريخ والمجتمع، سيما في وقتنا الحاضر الذي راح يزخر بثقافة الاستهلاك والتشييء والتسليع والأسئلة الغبية… إلخ. فضلا عن انفجار الثورة الإعلامية والتدفّق الهائل للمعلومات وتعدّد الوسائط؛ ممّا يؤثر سلبا ــ في مناحٍ عديدة ــ على مستوى تقدير الأدب وتدبّر دلالات الكتاب. الكتاب أو الكتب التي عدّها الفيلسوف أرسطو، قبل آلاف السنين، أهمّ شيء بعد الإنسان في الكون.

وحسن نجمي مثل الشاعر الأردني أمجد ناصر والشاعر العماني سيف الرحبي وسواهما من الشعراء العرب المعاصرين من الذين، وبرغم التزاماتهم الإعلامية، أدركوا كيف يحافظون على تجاربهم خارج مياه الصحافة بإكراهاتها المتعددة، وأبدعوا في الشعر مثلما حرّروا نصوصا ثقافية لا تخلو من أهمية. وكأنهم بذلك يريدون تأكيد التصوّر القائل إن الصحافة التي لا تكترث بالثقافة، والشعر أيضا، لا يمكن لها إلا أن تضاد تنامي دعاوى التطرف والمصادرة والاغتيال الرمزي وغير الرمزي في أحيان وأحيان كثيرة؛ أي: إن دور الشعر، هنا، لا يقلّ عن دور الفكر والعلم والصحافة (ذاتها) على مستوى إشاعة قيم الحداثة والتنوير و«إبداع المستقبل» كما يتحدّث عنه جابر عصفور في كتابه الجريء «ضد التعصب» (2000).

يقودنا ما سبق إلى القول إن حسن نجمي أفاد (كثيرا) من واجهات الصحافة، سيما على مستوى التصريف والتعريف بأعماله؛ غير أنه، موازاة مع ما سلف ذكره، تمكّـن من الانفلات من روتينها الأشرس وكواليسها القاتلة. وقد يكون أهمّ مظهر، ضمن مظاهر انعتاقه، مظهر الكائن الشعري الحرّ الذي يبدو ــ في تقديري ــ الأرجح في خطابه وشخصه معا. بكلام جامع: لم تسرقه الصحافة كما فعلت مع شعراء آخرين في مقدّمتهم «صحافي المسافات الطويلة» في دلالة على عنوان كتاب الصحافي (والشاعر من قبل) نجيب الريس.

 

  • كيف تقيم تجربة نجمي كرئيس لاتحاد كتاب المغرب (1998-2005)؟

** الشاعر أحد مؤسّسي بيت الشعر في المغرب ورئيس أسبق لاتحاد كتاب المغرب الذي عرفت ولايَتَاهُ (1998 ــ 2005) دينامية فعالة وانفتاحا على مختلف الفعاليات الثقافية واللغوية والأدبية المغربية والعربية والمتوسطية أيضا. ودور المثقف وأداؤه واضح في كتاباته ومداخلاته وردوده.

 

  • علينا ألا ننسى أيضاً إسهامه الوازن في دراسة الثقافة الشعبية المغربية..

** هو أحد رواد البحث في الثقافة الشعبية الشفوية بدءًا من كتيبه المنسي «الناس والسلطة» (1997) الذي لا يخلو، بخاصة على مستوى الدفاع عن الثقافة الشعبية والتصدي لأوصياء المعيار، من أهمية رغم مظهره الصحفي الخادع. ولعلّ هذا ما تعكسه أيضا، وابتداءً، مسلكياته الشخصية المميّزة التي لا تزال تحافظ على تجلّيها الفطري الجميل.

ثمّ خياره الأكاديمي (المتين) الذي أفضى به هذه المرّة، من منظور نقدي موسَّع يمكن إدراجه ضمن «الشعرية الثقافية» بوصفها جناحا في النقد الثقافي، إلى تتبّع وفحص وفرز وتصنيف وتحليل… شعر من نوع آخر، هو الشعر الشفوي بالمغرب. وهو ما سيطالعنا به في دراسته الإشكالية وغير المسبوقة «غناءُ العيطة» (في جزأين) (2007) التي جمع فيها بين العمل على النص الشعري الشفوي وامتداداته الفنية المرتبطة بالتاريخ والأنثروبولوجيا والمقاربة الإثنوميزيكولوجية. وقلّما يجود بأمثالها زمننا الأكاديمي البارد والشاحب في العديد من نماذجه؛ خصوصا أنها دراسة تمسّ، بلغة معرفية مؤسّسة ومحكمة، منطقة ثقافية تدخل، من وجهة نظر معيارية ومتصلّبة في آن واحد، في دائرة المسكوت عنه أو اللامفكر فيه برغم أن حضور هذا الفن حضور يومي ومتواصل سواء في البناء الثقافي التحتي أو «التاريخ من أسفل» أو في النسيج الحياتي الاجتماعي.

الأهم، في السياق الذي يستوعب هذا الكتاب، هو النص الشعري الشفوي الذي يخصّه الدارس بمقاربة تصل ما بين المقاربة الأدبية والجمالية والمقاربة التاريخية والأنثروبولوجية؛ بل تَـفيد من بعض فروض مقاربة علم الأصول الموسيقية أو الإثنوميزيكولوجيا ((Ethnomusicologie. ودراسة موسيقى من هذا النوع بالغة الصعوبة طالما أنها ليست مكتوبة ومقنّنة مثل الموسيقى الغربية. إضافة إلى ندرة المراجع؛ ممّا يفرض على الدارس بذل جهد مضاعف لـ«تصيّد الهوامش» في المصادر التاريخية والمصنفات الثقافية بصفة عامة.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى