الرئيسيةملف التاريخ

حصري من وراء فشل التلفزيون العمومي المغربي؟

مضامين تقرير أسود كتبه مدير التلفزيون سنة 1970 بأمر من الملك

يونس جنوحي
هو تقرير باللغة الفرنسية من عشر صفحات، كتبه حرازم غالي، أول مدير للتلفزيون المغربي، والذي استمر في منصبه قرابة عشرين سنة منذ إطلاق التلفزة المغربية سنة 1962.
حصلنا في «الأخبار» على النسخة الأصلية لهذا التقرير، الذي كلف الملك الراحل الحسن الثاني حرازم غالي بإعداده، لإنقاذ التلفزيون المغربي بعد أن دخل بإجماع المتابعين، في حالة من الجمود وضعف المحتوى مقارنة مع التلفزيون الفرنسي.
في يوم 10 يونيو 1970، وضع حرازم غالي هذا التقرير فوق مكتب الملك الحسن الثاني، وكانت لغته جريئة، خصوصا أن الملك الراحل أمره بأن يكون صريحا للغاية، وأن يشرح أمامه مشاكل التلفزة المغربية للوقوف على مكامن الخلل.
جاء في التقرير الذي أعده حرازم غالي، وسلمه إلى الملك الحسن الثاني شخصيا، وبأمر منه، حتى لا يطلع عليه غيره، أن التلفزة المغربية وقتها تتوفر على كفاءات مهمة، لكنها للأسف فقدت الحماس وأصبحت متذمرة، وتفتقد إلى «تلك الشعلة المقدسة» للقيام بواجبها.
حرازم غالي ذهب بعيدا، وقال إن «RTM» (الإذاعة والتلفزة المغربية) فقدت مصداقيتها.
قال حرازم غالي أيضا إنه باعتباره مديرا للتلفزيون فإنه غير راض عن مستوى النشرات الإخبارية، التي يقدمها التلفزيون وحتى الراديو. وفسر السبب للملك الحسن الثاني بأنه راجع إلى قلة أعداد الصحافيين، وقلة الموارد المالية المخصصة لمصاريف صناعة الأخبار. كما أن طريقة تلاوة الأخبار، حسب حرازم غالي دائما، لم تكن حماسية بقدر ما كانت آلية تفتقد الحيوية.
هذا التقرير الذي جاء في عشر صفحات، ختمه حرازم غالي، مدير التلفزة، سنة 1970 بالقول: «مهما كانت المعايير التي سوف يتم اعتمادها لتطوير التلفزيون، سواء على المدى البعيد أو القريب، فإنها لن تكون مُرضية إلا إذا ارتبطت بتعاون نخب ومثقفي المملكة».
في هذا الملف، انفراد بأقوى مضامين الصفحات العشر لهذا التقرير «الأسود» بكل المقاييس، وسرد لكرونولوجيا محاولات إخراج التلفزة المغربية من تلك القوقعة.. فهل ينجح الهولدينغ الذي أعلن عنه أخيرا في خلق إعلام عمومي متطور؟

محاولات إصلاح التلفزيون العمومي.. هل تنجح هذه المرة؟
كل الذين قرؤوا الخبر المتعلق بإدماج القناتين، الأولى والثانية، و«ميدي 1 تي في»، في إطار مؤسسة واحدة، في شطر أول، على أن يدمج راديو إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية، في شطر ثان من الإجراء، استغربوا للقرار الذي لم تسبقه أي بوادر لهذا الإدماج، خصوصا في أوساط المهنيين.
وكان هذا المشروع الحكومي قد جاء بعد مخاض عسير من النقاشات، حول الأزمة التي تعيشها القناة الثانية على وجه الخصوص، بعد بروز أخبار خلال السنوات الأخيرة حول المشاكل المالية التي تتخبط فيها القناة وإعلان إفلاسها، وضخ الملايير في صندوقها، لتواجه الإفلاس من جديد.
وهكذا تقرر في ماي الماضي إعلان ولادة هولدينغ جديد يوحد الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، مع صورياد دوزيم، وقناة «ميدي 1 تي في».
وحسب ما أعلن عنه عثمان الفردوس، وزير الثقافة والشباب والرياضة، فإن المشروع يضم مخططا للجمع بين المؤسسات الثلاث تحت لواء الشركة الوطنية للإذاعة والتفزة، والتي سوف تلعب، حسب الوزير، دور شركة قابضة تكون رأس الهولدينغ.
هذا المخطط يرمي إلى دمج هذه المؤسسات بالقطاع العام.
هذا يعني إذن أننا سوف نصبح نتوفر على عشر قنوات عمومية في المغرب، كما سوف يتم تعديل نشاط «ميدي 1 تي في»، إذ حسب ما ورد، فإن القناة سوف تركز أكثر في برامجها الإخبارية على المغرب، وسوف تصبح قناة إخبارية مستمرة. كما أن هذا المخطط يهدف إلى التركيز أيضا على إعلام القرب، والحفاظ على التمويل العمومي لهذه المؤسسات مجتمعة.
هذه الخطة الحكومية سوف تتطرق أيضا إلى معضلة تراجع الإشهار، إذ سجل مع جائحة كورونا تراجع كبير في عروض سوق الإعلانات من طرف المستشهرين. ويرمي هذا الهولدينغ الجديد إلى توحيد القنوات، وإخراج القناة الثانية من أزمة خانقة بعد أن وصلت مديونيتها للأبناك إلى 190 مليون درهم، متجاوزة بذلك السقف المسموح به. كما أن رقم معاملات قناة «ميدي 1 تي في»، حسب ما أورده الوزير الفردوس، انخفض بأكثر من النصف، وهو ما يعني وجود أزمة خانقة جدا.
هذا إذن هو مناخ ولادة هذا الهولدينغ الإعلامي الجديد، الذي سيوحد الإعلام العمومي.
منذ سنة 1993 أقبر آخر مشروع لمحاولة إنقاذ الإذاعة والتلفزيون، بعد أن سبقه مشروع للإنقاذ سنة 1986، ومحاولتان سابقتان سنتي 1970 و1978. المشترك بين هذه المشاريع أنها رفعت إلى ما كان وقتها يسمى وزارة الإعلام، بحضور مدراء الإذاعة والتلفزة، قبل أن تولد الشركة الوطنية التي جمعتهما.
كانت هناك محاولة أخرى في عهد الوزير الاتحادي محمد الأشعري سنة 2001، لكنها لم تتعد درجة اجتماعات مع المدراء لبحث مشاكل القطاع وهيكلته.
وكان ناقوس الإنذار يدق، خصوصا خلال سنتي 1986 و1993، بخصوص هشاشة البنيات التحتية، سواء في الإذاعة أو التلفزيون، حيث إن المعدات التي كان يستعملها الصحافيون والتقنيون رديئة بكل المقاييس. كما أن التلفزيون كما الإذاعة لم يكونا قادرين إداريا وماليا على توظيف صحافيين رغم الخصاص المهول، وهو ما جعل الإدارتين تلجآن إلى الاستعانة بخدمات المتعاونين الذين فاق عددهم عدد الصحافيين الرسميين، وكانوا يمتصون كتلة تعويضات تصرف لهم نقدا، أي أنهم لم يكونوا مهيكلين إداريا، وبالتالي فإن أجورهم كانت تستنزف الميزانية، ولم ينجح الوزراء المتعاقبون في إدماجهم إلا في أواخر الثمانينيات، وعاد المشكل إلى الواجهة مع موجة التوظيف الأخرى في منتصف التسعينيات.
ورغم أن محاولات إصلاح قطاع الإعلام العمومي كانت بعيدة عن الصراع السياسي، بفعل هيمنة وزارة الداخلية عليه، سيما في مرحلة إدريس البصري، إلا أن وزراء الإعلام، ثم الاتصال المتعاقبين، لم ينجحوا في إخراج هذا القطاع من أزمته. فهل تنجح إذن مبادرة هذا الهولدينغ في جعل الإعلام المرئي والمسموع العمومي يتحرر من العقدة القديمة لنقص التمويل؟

تقرير سري وضع فوق مكتب الملك…التلفزيون فقد مصداقيته
نعرض في هذا الملف وثائق تنشر لأول مرة، لتقرير سري طلبه الملك الحسن الثاني في يونيو 1970، من مدير التلفزيون المغربي وقتها، حرازم غالي، الذي كان للإشارة أول مدير في هذا المنصب الحساس منذ إطلاق التلفزيون في المغرب سنة 1962.
هذه الوثائق التي حصلنا عليها من الأرشيف الخاص للراحل، تتحدث عن مشاكل التلفزيون، بعد أن طلب الملك الحسن الثاني من حرازم غالي تقريرا مفصلا عن المشاكل التي تعاني منها التلفزة المغربية، لأنه لم يكن راضيا عن أدائها في تلك الفترة. وحسب حرازم غالي، فإن المشاكل كانت متراكبة، أولها تدخل كبار الشخصيات المقربة من الملك الحسن الثاني في عمل التلفزيون واختصاصاته. إذ كان أمثال مولاي حفيظ العلوي وأحمد العلوي وأحمد رضا اكديرة والجنرال أوفقير، ثم من بعدهم إدريس البصري، يتدخلون حتى في مدة المداخلات التي يجب أن يلقيها المسؤولون، الذين يرافقون الملك الحسن الثاني في الأنشطة الملكية.
وأمام هذه التدخلات، كان المدير حرازم غالي مكبلا، رغم أنه كان مقربا من الملك الحسن الثاني ويرافقه في كل تحركاته الرسمية، بصفته مديرا للتلفزيون ومشرفا على عمل الفرق لبث الأنشطة الملكية والخطابات الرسمية، حتى أنه أشرف سنة 1973 على بث أول ظهور للملك الحسن الثاني بالألوان في الإعلام العمومي.
جاء في التقرير الذي أعده حرازم غالي، وسلمه إلى الملك الحسن الثاني شخصيا، وبأمر منه، حتى لا يطلع عليه غيره، أن التلفزة المغربية وقتها تتوفر على كفاءات مهمة، لكنها للأسف فقدت الحماس وأصبحت متذمرة، وتفتقد إلى «تلك الشعلة المقدسة» للقيام بواجبها.
حرازم غالي ذهب بعيدا، وقال إن «RTM» (الإذاعة والتلفزة المغربية) فقدت مصداقيتها، وهو كلام لم يكن سهلا البوح به في تلك الفترة. لكن حرازم غالي عدد للملك الحسن الثاني أسباب ما جاء في تقريره، وذهب إلى حد تفسير التخبط والجمود الذي دخلته التلفزة المغربية سنة 1970، بأنه من تأثيرات حالة الاستثناء التي دخلت فيها البلاد، حيث تم حل الحكومة والبرلمان، وبالتالي لم تعد هناك أنشطة حكومية ولا جلسات برلمانية ولا أخبار لإعلانها للمغاربة.
قال حرازم غالي أيضا إنه باعتباره مديرا للتلفزيون، فإنه غير راض عن مستوى النشرات الإخبارية التي يقدمها التلفزيون وحتى الراديو. وفسر السبب للملك الحسن الثاني، بأنه راجع إلى قلة أعداد الصحافيين، وقلة الموارد المالية المخصصة لمصاريف صناعة الأخبار. كما أن طريقة تلاوة الأخبار، حسب حرازم غالي دائما، لم تكن حماسية بقدر ما كانت آلية تفتقد إلى الحيوية.
طلب حرازم غالي في هذا التقرير أن يتم استكمال توسيع مجال بث التلفزيون في التراب المغربي، وتعزيزه في بعض المناطق الضعيفة. بالإضافة إلى إطلاق قناة تعليمية، وهو المشروع الذي حاول الترافع عنه سنة 1968 وعارضه بشدة الجنرال أوفقير، بعد أن كان البنك الدولي قد ساند المشروع. وطلب حرازم غالي أيضا خلق قناة ثانية مغربية منذ ذلك التاريخ، وتأسيس آليات البث بالألوان لإبراز جمالية المغرب في التلفزيون.
مرت إذن 51 سنة على هذا التقرير المثير، الذي كان جريئا، وبطلب من الملك الحسن الثاني للوقوف على مشاكل التلفزة المغربية. هذا التقرير الذي جاء في عشر صفحات، ختمه حرازم غالي، مدير التلفزة، سنة 1970 بالقول: «مهما كانت المعايير التي سوف يتم اعتمادها لتطوير التلفزيون، سواء على المدى البعيد أو القريب، فإنها لن تكون مرضية إلا إذا ارتبطت بتعاون نخب ومثقفي المملكة».

تلفزيون 1962.. السواد يغلب
ربما كانت الأحداث التي مر بها المغرب سنة 1962، وهي السنة الذي بدأ فيها عمل تأسيس التلفزيون في المغرب، هي التي طغت على ألوان التلفاز وزادت من قتامتها.

إذ رغم الإعلان عن وضع دستور جديد للبلاد، واقتراب تنظيم انتخابات جماعية، وافتتاح أول نسخة للبرلمان المغربي، إلا أن المعارضة في المغرب ظلت تتهم الدولة بتزوير الانتخابات، وطعنت في الاستفتاء على الدستور ووصفته بالممنوح. وفي عز متابعة الناس لجلسات البرلمان المغربي في نسخته الأولى، كانوا يتابعون في الراديو، والقلة فقط يتابعون الجلسات في التلفاز، كيف أن المعارضة ممثلة في فريق حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كانت ترافع ضد وزراء في الحكومة وتكيل لهم الاتهامات.

وفي السنة نفسها، أي في 1963، تم بث أول برنامج سياسي للنقاش واستضاف وزيرا للمالية من حزب «الفديك»، الذي كان يترأسه وزير الداخلية أحمد رضا اكديرة، وبين وزير استقلالي سابق كان يدبر الوزارة نفسها سابقا. ولم تنته الحلقة بسبب تبادل الاتهامات بين الوزيرين، وانتهى الأمر بقطع الإرسال من مقر المسرح الكبير الذي حُولت بعض مرافقه إلى استوديوهات لتسجيل نشرات الأخبار اليومية وديكورات نشرات الطقس، بالإضافة إلى اتخاذه مقرا لتصوير التمثيليات الدرامية والمسرحية التي كانت تبث على التلفزيون، ليتابعها المغاربة على أجهزة التلفزيون التي بدأت وقتها تنتشر في المدن والقرى بقوة.

تطورت تجارب المغاربة مع التلفزيون وطغى عليها الجانب السياسي، إذ كانت وسيلة في يد الدولة لتبليغ الرسائل إلى المعارضة. حيث تم اللجوء إلى انتشار التلفزيون لتعميم صور المبحوث عنهم في إطار محاكمات مؤامرة يوليوز 1963، ثم في ملفات أخرى نهاية الستينيات، خصوصا خلال فترة البحث عن أحمد بنجلون وسعيد بونعيلات، اللذين كانا على رأس المتابعين في ملف ما عرف لاحقا بمحاكمة مراكش سنة 1970. إذ استمر البحث عنهما لسنوات، قبل اعتقالهما في مدريد وترحيلهما إلى المغرب لمحاكمتهما، وبدأت موجة اعتقالات.

تابع الناس في التلفزيون الرسمي نشرات الأمن التي كانت تضع صور المبحوث عنهم، كما أن لوائح المعتقلين الجدد في كل التراب المغربي كانت تتلى على نشرات الأخبار، وهو ما كان يتابعه المغاربة وقتها بكثير من التأثر.

أما في قضية شيخ العرب سنة 1964، فقد لعب التلفزيون دورا كبيرا في تعميم المنشورات التي كانت تبحث عنه على الصعيد الوطني، رغم أن جل الأسر لم تكن تتوفر وقتها على جهاز تلفزيون منزلي، إلا أن «التكافل الاجتماعي» مكن من متابعة الجميع تقريبا لبرامج التلفزة، بفضل التجمعات التي كانت تقام في منازل الأسر «المحظوظة».

إذ إن الملك الحسن الثاني في حملة الترويج للدستور، أمر بتعميم أجهزة التلفزيون في بعض المراكز التابعة للسلطات المحلية، ووضعها في أماكن عامة ليتابع المواطنون غير القادرين على اقتناء أجهزة تلفزيون، تلك التطورات.

وهكذا فإن الجيل الذي عايش انطلاق التلفزيون المغربي، لن ينسى بالتأكيد وجه الشاب «العربي الصقلي»، الذي كان أول مذيع مغربي ولج منازل المغاربة لتقديم نشرات الأخبار المسائية، من استوديو عين الشق سنة 1962. ووقتها بدأ الناس يتداولون تسمية «RTM» (الإذاعة والتلفزة المغربية)، بعد أن أصبح التلفاز بالنسبة إليهم مرادفا لتوتر الأجواء السياسية في البلاد.

الحرب السرية للهيمنة على التلفزيون
بعض كواليس هذه الحرب لقوة دويها ومخلفاتها، لم تكن سرية، بل قفزت إلى الضوء. مثلا، لم يكن سريا أن أحمد رضا اكديرة، صديق الملك الحسن الثاني ورئيس ديوانه السابق، كان يحاول السيطرة على التلفزيون. بل إن قدماء موظفي الإذاعة والتلفزة المغربية كانوا يتذكرون بوضوح دخوله المفاجئ إلى أماكن التصوير، خصوصا عندما يتعلق الأمر باستضافة شخصية من الحكومة، لكي يتابع بنفسه مجريات التسجيل. بل وكان يأمر المصورين باختيار الزوايا المناسبة، والوجوه التي يجب التركيز عليها.

استطاع بعض المقربين من الملك الحسن الثاني تقديم شكوى بأحمد رضا اكديرة لفرط تحكمه في التلفاز، سيما علال الفاسي الذي اختار بعد حالة الاستثناء سنة 1965 التي نتج عنها حل الحكومة والبرلمان، أن يعلن مع آخرين معارضتهم لبعض القرارات. وسياسيا، كان علال الفاسي من ضحايا هيمنة أحمد اكديرة على المشهد، لذلك اشتكاه إلى الملك الحسن الثاني، وأخبره أن بعض موظفي التلفزيون لا يستطيعون ممارسة عملهم بحرية، رغم أن جلالة الملك أرسلهم بنفسه إلى فرنسا للاستفادة من تجارب التلفزيون الفرنسي، واجتازوا بنجاح دورات في التصوير والإخراج، لكن اكديرة كان يتدخل في كل تفاصيل البرامج السياسية.

ورغم ذلك فإن هيمنة اكديرة على التلفزيون لم تنته إلا بعد ابتعاده عن الوزارة، وزارة الداخلية تحديدا، وعودته إلى المربع الملكي. ومع انتهاء هيمنة اكديرة، جاءت فترة تمكن فيها التلفزيون من إنتاج أعمال فنية، حيث تم اللجوء إلى مؤسسي المسرح المغربي، أمثال الطيب الصديقي، لإنتاج تمثيليات للتلفزيون. بينما كان حرازم غالي، مدير «RTM»، الذي عينه الملك الحسن الثاني سنة 1962 مديرا للتلفزة وبقي في منصبه إلى سبعينيات القرن الماضي، منهمكا في تطوير آليات البث. حيث كان التحدي أن تتم تغطية تحركات الملك الحسن الثاني في كل الأقاليم ونقلها في التلفزيون، خصوصا في سنوات حالة الاستثناء، حيث كان الملك ينوب عن كل الوزارات التي تم حلها ما بين سنتي 1965 و1970.

كانت هذه الفترة حافلة بالمشاكل التقنية والتحديات، رغم أن التلفزيون كان يحقق نسب مشاهدة عالية جدا، ليس فقط لغياب المنافسة، وإنما أيضا لأن هذا الوافد الجديد كان محط اهتمام الجميع.

وعندما أصبح الجنرال أوفقير أكثر المسؤولين قوة في مغرب بداية السبعينيات، بعد تعيينه وزيرا للداخلية، أصبح التلفزيون من جديد تحت دائرة نفوذ الجنرال. إذ إن حرازم غالي، مدير التلفزيون، كان يحمل مشروعا كبيرا لمحو الأمية سنة 1969، حيث كان مخططا أن يتم اعتماد برامج تعليمية في التلفزيون بتمويل من البنك الدولي، وكان المدير قد أعد تقريرا مفصلا عن المتطلبات اللوجيستيكية التي يجب أن يقتنيها المغرب لتمكينه من الاستفادة من هذا البرنامج.

لكن الجنرال أوفقير تصدى له بمجرد وضع الملف لكي يتم تسليمه إلى الملك الحسن الثاني للمصادقة عليه. ووقتها فهم حرازم غالي، أن الجنرال يضع يده على كل القنوات المؤدية إلى مكتب الملك الحسن الثاني.

ورغم أن حرازم غالي كان من مرافقي الملك الحسن الثاني والمسؤول الأول عن بث كل الأنشطة الملكية في التلفاز، إلا أن المشروع أقبر بتدخل من الجنرال أوفقير الذي عارض فكرة محو الأمية على التلفزيون بشدة.

وقد قام إدريس غالي، ابن حرازم غالي، بإصدار مذكرات والده سنة 2018، وكشف هذه الكواليس على لسان والده الذي توفي سنة 2016، وحكى تفاصيل ما وقع بينه وبين الجنرال أوفقير، الذي لم يكن موافقا على أن يلعب التلفزيون ذلك الدور في حياة المغاربة.

حرب إدريس البصري و«باكار»..
كان أندري باكار، المهندس الفرنسي المعروف، قد عهد إليه بمهمة إحداث ثورة في جهاز التلفزيون. وأطلق في منتصف الثمانينيات شعارا شهيرا بعنوان «التلفزة تتحرك».

استعان هذا الفرنسي بكفاءات فرنسية كلفت ميزانية الدولة كثيرا، وبسرعة أصبح «باكار» الرجل المطلوب في الرباط، لكل من يريد تسلق سلم المسؤولية بسرعة.

أحس إدريس البصري سنة 1986، من خلال ما حكاه عنه عدد من موظفي الداخلية القدامى، أشهرهم لحسن بروكسي، أن «باكار» يشكل منافسة قوية له، خصوصا أنه كان ينفذ عددا من التغييرات في طريقة البث وإلقاء نشرات الأخبار في التلفزيون، ويتحكم حتى في ديكورات الخلفيات وراء المذيعين، ووصل به الأمر إلى درجة الرغبة في إزالة «نافورة» تقليدية في ساحة القصر الملكي بفاس، أثناء عمل التلفزيون على نقل الخطاب الملكي منتصف الثمانينيات. وهي الرواية التي أكدها عدد من متقاعدي التلفزيون، أيام إشراف الصديق معنينو على الأنشطة الملكية. ولولا أن الملك الحسن الثاني سمع أصوات الأشغال لنزع النافورة من مكانها، وأمر على الفور بوقف تلك الحماقة، لتمكن «باكار» من الاستمرار في سياساته، التي كان يراها المحافظون في دار المخزن «جهلا» بالتقاليد المغربية.

كان باكار يأتي بخبراء وصحافيين فرنسيين من باريس، للقيام بمهام تقنية لأيام والعودة إلى فرنسا، على نفقة ميزانية التلفزيون المغربي. وهو ما أثار حفيظة الموظفين والتقنيين المغاربة، الذين كانوا بالكفاءة نفسها، لكن أجورهم تقل بدرجات شاسعة عن أجور التقنيين الفرنسيين.

وعندما قرر إدريس البصري إزاحة «باكار» من طريقه حتى لا ينافسه مستقبلا في أي إصلاح مرتقب للتفزيون، سلط عليه مؤامرات وزارة الداخلية على عهده. وفعلا استيقظ الموظفون ذات صباح على خبر مغادرة باكار المغرب نهائيا. ويومها جاء البصري على غير العادة إلى مقر مكتبه في الإعلام منشرحا، ورد على سؤال لحسن بروكسي الذي ذكر الواقعة في كتابه «الحسن الثاني، إدريس البصري، وأنا»، عن مصير «باكار»، بالقول إنه «تهنى منو» إلى الأبد.

ما وقع أن «باكار» تعرض لمضايقات من إدريس البصري، الذي عرقل كل قراراته ولم يصادق عليها إداريا، رغم أن «باكار» كان قد حصل على الضوء الأخضر من الملك الحسن الثاني، للقيام بكل الإصلاحات التي يراها ضرورية لبث الحياة في برامج التلفزيون المغربي.

لكن البصري كان له رأي آخر، ورأى أن «باكار» لم يكن إلا أجنبيا يزاحمه في عالمه الجديد الذي تسلمه سنة 1986. وهكذا طويت مرحلة «التلفزة تتحرك»، وهي المرحلة التي تحركت فيها الشاشة وبقي وضع العاملين بها مجمدا.

إقبار مشروع تحويل التلفزيون المغربي إلى مؤسسة
منذ أن أكمل التلفزيون المغربي عقده الأول، أي سنة 1972، ومشكل الوضع الإداري لمؤسسة التلفزيون بدأ يطفو على السطح، خصوصا أن الراديو كان قد تأسس منذ سنة 1928، وبعد الاستقلال ورثه المغاربة لكي يصبح منذ سنة 1956 مؤسسة مغربية خالصة. وعندما تأسس التلفزيون سنة 1962 بأمر من الملك الحسن الثاني مباشرة بعد عودته من رحلة إلى فرنسا، أصبح الجهازان متجاورين، لكن وضعيتهما الإدارية كانت محط إشكالات لم تظهر وقتها، إلا عندما طفت على السطح مشاكل بعض الصحافيين والتقنيين والموظفين الإداريين.

إذ في عهد وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، وبالضبط سنة 1983، نقل نواب برلمانيون أسئلة إلى وزير الإعلام وقتها عبد اللطيف الفيلالي، الذي تقلب في حقائب أخرى أبرزها الخارجية، تتعلق بالوضعية الإدارية لبعض الموظفين كبار السن الذين التحقوا بالتلفزيون المغربي منذ سنة 1962، واشتغلوا في الفرق الموسيقية التي كانت تحيي السهرات المباشرة، بالإضافة إلى بعض صحافيي الراديو الذين تمت الاستعانة بهم في التلفزيون ولم يتم ترسيمهم. هؤلاء تلقوا وعودا بتصحيح وضعيتهم، لكنها ظلت حبيسة الرفوف في مكاتب المسؤولين.

لكن في شهر أكتوبر 1986، عندما أصبح إدريس البصري وزيرا للإعلام والداخلية، وكان هذا التعيين محط كثير من الانتقادات والاستغراب أيضا، كان موضوع الوضعية الإدارية غير قابل للتأجيل، إذ عرف نوعا من الاستغلال السياسي لممارسة الضغط.

وهكذا نصب إدريس البصري نفسه، منذ أن أصبح وزيرا للإعلام خلفا للوزير الفيلالي، وصيا على القطاع. وعقد أولى الاجتماعات مع مديري كل من التلفزيون والراديو، واللذين جاء بهما من الداخلية. ويتعلق الأمر بالعامل محمد طريشة الذي كان مديرا عاما، وإطار الداخلية عبد الرحمن عشور الذي عين مديرا للإذاعة الوطنية. وممن شملهم أيضا قرار الاجتماع مع إدريس البصري لحل مشاكل القطاع، كان أيضا عبد الجليل فنجيرو، الذي كان وقتها مديرا لوكالة المغرب العربي للأنباء.

كانت هذه الاجتماعات الماراثونية مع مدراء الإدارات الممثلة لقطاعات وزارة الإعلام، والتي تجاوز عددها ثمانية اجتماعات في ذلك الشهر (أكتوبر 1986)، عبارة عن مرافعات بشأن مطالب هذه الإدارات واحتياجاتها التقنية والإدارية. أما إدريس البصري فقد كان يدفع في اتجاه خلق نظام أساسي لهذه المؤسسة، وهو ما ذكره عبد الرحمن عشور في مذكراته التي صدرت قبل وفاته سنة 2019، والتي حملت عنوان «رجل سلطة بالإذاعة». هذا الأخير أكد أن إدريس البصري كان يخاطب هؤلاء المدراء دائما بجملة: «اللي فضح سرنا يعمى». إذ إن البصري كان يريد أن تبقى مضامين تلك الاجتماعات سرية، وهدفه من هذا كله بطبيعة الحال هو السيطرة تماما على المجال الإعلامي الرسمي بقبعة وزارة الإعلام، التي كان يرتديها مع قبعة وزارة الداخلية.

ولاحقا، تحولت تلك الاجتماعات إلى مناسبات فقط لكي يعطي إدريس البصري التعليمات، مباشرة بعد الانتهاء من صياغة مواد القانون الأساسي. إذ طلب إدريس البصري من الحاضرين إرسال المشروع إلى الوزير الأول لكي يؤشر عليه، والبحث عن مصادر تمويل إضافية للمؤسسة، ردا من البصري على مقترحات تحسين الأجور وتسوية الوضعية الإدارية لعدد من الموظفين العالقين بدون ترقيات ولا تحفيزات، منذ عقود. البصري دعا أيضا إلى الاستعانة بخبرات الفرنسيين في المجال.

وفي غمرة انشغال المدراء بتنفيذ تعليمات إدريس البصري، فاجأهم في اجتماع لاحق في السنة نفسها دائما، أي 1986، باقتراح تحويل الإذاعة والتلفزة المغربية إلى مكتب، أي «Office». وهو ما أثار صدمة لدى الحاضرين للتحول المفاجئ في سياسة الوزير. وأقبر المشروع نهائيا بعد أن كان البصري يريد وضع مدير واحد فقط على رأس ما أراد له أن يكون «المكتب الوطني للإذاعة والتلفزة»، تحته مجلس إدارة، وتُمَثل ثلاث مؤسسات في المكتب وهي: الإذاعة، التلفزة، ومؤسسة البث. أما الإذاعات الجهوية، حسب توضيحات عبد الرحمن عشور، الذي عاش أجواء هذا الاجتماع، فقد كان إدريس البصري يروم تحويلها إلى مكاتب عمومية جهوية مستقلة ماليا عن الإعلام.

وهكذا أقبر المشروع نهائيا، بعد أن تخلى البصري عن كل المقترحات وترك دار لقمان على حالها تسير بالطريقة القديمة نفسها، أي منذ سنة 1962.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى