شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

ذاكرة الشعر المغربي الحديث

مغاربة تلألأت نجومهم في سماء القصيدة

 يخصص الملحق الثقافي لجريدة «الأخبار» هذا الملف لذاكرة الشعر المغربي الحديث، مع ثلة من النقاد والشعراء المغاربة: حورية الخمليشي، نجيب العوفي، محمد بودويك، عبد الله شريق وأحمد العمراوي، الذين حفروا في هذه الذاكرة الحافلة بالنصوص والتجارب، والتي تناولها الدرس الجامعي والكتب والبحوث والمقالات بالدرس والتحليل والتأريخ… غير أن النسيان اللعين كاد يقبر كل شيء، فعدنا لتذكير الشعراء المغاربة الجدد ومخاطبتهم من جديد حول هذا «النبوغ المغربي» الشعري الأصيل، الذي كلما باعد بيننا وبينه الزمن لمعت نجومه وتلألأت جواهره.

هي أيضا دعوة إلى العودة من جديد لقراءة هذا المتن ومرافقته بالتحليل والقراءة. لقد رافق هذا المتن الشعري الذاكرة الجمالية والفنية والتاريخية للمغرب، كما قدّم صورة عن تطور القصيدة المغربية انطلاقاً من الشكل الجمالي إلى المضمون التاريخي. وهي منطلقات ستحيل القارئ، أيضاً، إلى شعراء خارج الأسماء التي انتخبناها هنا، نحو دائرة أوسع وأشمل تضم: محمد الميموني، عبد السلام الزيتوني، مصطفى المعداوي، محمد علي الرباوي، مالكة العاصمي، بنسالم الدمناتي، محمد علي الهواري.. وغير هؤلاء. كما ستدعو النقاد الجدد إلى تأمل تجربة نقد الشعر في المغرب، ليس في المتون المنشورة فقط، بل وفي البحث الجامعي المغربي. فكم هي كثيرة وغزيرة الأطاريح وبحوث الدراسات المعمقة والماستر التي أنجزت حول هذا المتن المتنوع. وإن تمكنا من فعل ذلك سنجد أنفسنا أمام مكتبة إبداعية ودراسية ونظرية قائمة الذات. وما زالت البحوث والدراسات والبحوث تنجز حول هذا المتن الغني والممتد.

 

إعداد: محمود عبد الغني

الشاعر محمد السرغيني: الطفلُ أبو الرَّجُلِ

 

إليه وهو يكتب، الآن، قصيدته الكبرى

 

محمد بودويك

 

تهيبتُ، دوما، الاقترابَ من «كتاب» الشاعر السرغيني، المخبوءِ والمستورِ بين الظل والشمس، حتى لا يحرقني، ولا يريني فَهاهَتي وَعيّي وجهلي.

تهيبت عمرانه اللغوي، وشوكه المعرفي المستكن في قطيفة الإلماع الشعوري، والدفق الإحساسي، والفيض الصوفي، المدفون في طيات فِراء لجِراء نمور بيضاء، وفهود رقطاء، ولبؤات صهباء تذرع الاستوائيات، والهضاب الزرقاء، والحقول الثلجية، والضفاف المخضرة، في أقصى القطب والجغرافيا، ومنتهى الوهاد والقمم. لم يكن موطوءا، أبدا، عمل السرغيني الشعري، أتحدث هنا عن عمله «بالجمع»، بدءاً من: «بحار جبل قاف»، إلى «الكائن السبإي»، إلى «وجدتك في هذا الأرخبيل»، و«من فعل هذا بجماجمكم»، إلى «احتياطي العاج»، و«من أعلى قمم الاحتيال»، و«وصايا ماموث لم ينقرض»، إلى «تحت الأنقاض.. فوق الأنقاض». كان عمله هذا الجامع الوسيع الخصيب، نبعا ثريا فياضا، يزركش الشعر بمطلقيات أخرى، ومؤثثات حافة تسنده وتنشره، وتوسع حدقاته. فكأن الشعرَ في شرعة السرغيني، قاصرٌ إذا عومل ضمن حده التجنيسي، وخطوطه المرسومة، و«حذائه الصيني»، مثلما تعاور على ذلك، وكرسته أحقابٌ وممارساتٌ وتقاليدُ عجلى. فهو يسنده ليعطيه ما فصل عنه، ويوصله بما كان له في الشعريات الأولى، وما ينبغي أن يعاد ويستعاد. ولعل في صنيع أبي تمام، وشيخ المعرة العظيمين بما لا يحد، بعضا من هذا الفهم، ونَزْراً من هذا المأتى على رغم بقائهما رهينيْ محبس العمود، وسجينيْ جزمة الوزن والعروض. ولنا في ما أتاه أدونيس، وأنجزه محمد عفيفي مطر، وبدر الديب، ومحمد آدم، تضمينا للتلاقي والتقاطع، مع الاحتراس من التعميم والتشريك.

لا يمكن، بحال، أن نفهم شعر محمد السرغيني، والفوز بلذة منه وفيه، ولا يفوز باللذة إلا الجسور على حد تعبير الشاعر «سَلْمَ الخاسر»، واختلاس مسرب إلى عين زرقاء ترفرف تحت رموشها السوداء الوَطْفاء الساحرة، فراشات من ضوء، وإلى صفصافة عاشقة حانية، يهدهدها نشيد متوارٍ بين الأوراق، لا يمكن فتح مسرب فيه، كما أقول، إلا بمصاحبة الموتى والأحياء الذين يَصْخَبون في دارته الشعرية، وقراءتهم بالحتم، أو قراءة بعضهم في الأقل.

ففي تجربة السرغيني الشعرية الشامخة، اللاَّسعة واللذيذة، في آن، يحضر هيرودوتْ شيخ المؤرخين طُرَّاً، وتحضر ملاحم الإغريق العتيدة، والشاعر فرجيلْ، وأوفيدْ، والكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد، ومقالب «الصَّذوقيين»، و«الفرّيسين» اليهود، والأساطير، والمتن الخرافي، وشعراء العصور واللغات، والمتصوفة، والفلاسفة كـ: أفلوطينْ، وابنِ سينا، وابنِ رشد، وملتونْ، والمعري، وابنِ عربي، وأبي حيان التوحيدي، وابنِ سبعين. كما يحضر التشكيليون والموسيقيون والمغنون العظام من كل دوحة ولغة ونسب. وتَحْضُرُ العلوم المختلفة من طب وهندسة، وآلة، وسحر، ومخترعات قديمة وحديثة، وفلك، ورياضيات، وتنجيم، وكيمياء، وفيزياء. وتحضر الجوامع والصوامع والأبواب والجسور، والمدافن، والمقابر.

والعالم، في منظور السرغيني، على عظمته، ضئيلٌ، والكون، على وَساعَته، ضيقٌ. والأرض، على امتدادها أو لولبتها العظيمة، إسفنجةٌ تَنْعَجٍن في يد الزيّات، إذ يختطفها بمهارة صقر، ويطفئها في «جفنة» زيت. والإنسان عابر سبيل ميتٌ مادام سيموت: عقباه التحلل والتذرر والهباء. لكنه بهيٌّ في هبائه، عسيرٌ على السهل، مُحاذٍ للتل، قريبٌ من الجبل، أرضيٌّ وسماويٌّ معاً، طائرٌ في الأجواز، عالقٌ بالمجرات البعيدة، ذاهبٌ وآيِبٌ خلال العصور، ومشدودٌ، على رغم كل هذا، إلى السفح والوتد، والأسباب المهترئة، مشدود، بكلمة واحدة إلى: الطين والوحل.

وَها هو ذا، ها هو الآنَ، في ذروة جماله وجلاله، ورهبة صمته وسفره، يكتب قصيدته الكبرى، غاديا إلى طفولته، ورائحا منها مثل طائر السيمرغ، مترحلا ساريا بين الصبا والشباب، والكهولة المكتهلة، وصولا إلى الشيخوخة الذهبية حيث يحيط به مباركا وهاتفا ومنشدا: تاريخ فاس وعبق ميتافيزيقاها، وجموع الشعراء حاملي مرايا العصور، وصنَّاجات الدهور، يشقشقون بآي المديح، وعبارات التبجيل والتكريم، وقد حَبَّروا بدم الشعر الأخضر المُهْراق، عمراً سرغينيا ملفعا بالبهي الشهي، ومكتنزا بالعطاء العلمي، والخلق الإبداعي، والحضور الراسخ المهيب.

هو الآن في برجه الذهبي، وعزلته المهيبة، عزلة اختارته ولم يخترها هو المعروف المشاء، والمعلم المشهود له بالمخالطة والمنافذة، والمواشجة، والرأي السديد، والعلم الغزير. يعيش عزلة الشعراء الملكية، ولو أنها عزلة الشيخوخة الظالمة كما سماها الراحل الكبير عبد الكريم غلاب. بعد أن ملأ الحوض، وبذر البذار، وغرس الغراس، وأشعل شمعة أبدية الذبالة دمعها لا ينفد، في معتم الغاب، ومظلم الدروب والحواري، ومدلهم الأيام والأحقاب، وفي مآقي الشعر العميق المرفود بالثقافة والمعرفة العريضة، وثاقب النظر والاستبصار.

نبدأ أطفالا صغارا لا نلوي على مجريات الحياة المعقدة الموتورة، ودنيانا الفانية الغارقة في الشد والجذب، الممرورة في التفاهات والخزعبلات، والمنغصات. ونعود، من حيث لا نحتسب، إذا امتد بنا العمر، إلى تلك الطفولة المشربة والمضمخة بكل ما هو ضحك ولهو وغناء ولا مبالاة. وقد عاد محمد السرغيني إلى الطفولة الجذلى اللاَّهية سويا، لا يهتم بما يدور من سفاسف الأمور، ولا بالسباق نحو الريادة والقيادة والزيادة، وقد نال منها حظا عظيما، ونصيبا وافيا عميما، وغنم غنائمَ لم يغنمها غيرُه عددَاً ومثلا.

أحمد المجاطي رامبو المغرب

من الخمارة إلى الفروسية

  أحمد العمراوي                                             

الدّيوان سِفرٌ ورقيٌّ عادة، يجمع أهواء الشاعر. قبرٌ يلم شتات ذاكرته المنسية. سِفر رمزي يُلمس باليد ويُتذَوّق بالوجدان وبالعين. في الديوان ترتبط هندسة الفراغ بوقع السّواد على البياض على العين اللاقطة للمتلقي لتقتحم داخله حسب الحاجة.

نشرُ الشاعر لقصائده على صفحات كتاب شعري هو اختيارٌ اضطراري لتفريج الغُمّةـ وفك أسرار الظلمة بالبوح، فمتى يلجأ الشاعر لجمع شعره في سفر يحميه من الضياع؟ ولماذا يفعل ذلك؟ وهل من الضروري أن يفعل ذلك؟ وهل جمْع قصائد في ديوان منظم بعناوين لكل قصيدة يدخل ضمن حداثة القصيدة؟

لم يكن من الضروري قديماً جمع أشعار الشاعر في ديوان، نظراً لغَلبة الطابع الشّفوي على القصائد، ونظراً لطغيان الأذن على العين. لا حاجة لرؤية القصيدة بالعين، فالأذن تنوب عنها بالنعمة التي يخلّفها البحر الشعري: فعولن، مفاعيلن، مستفعلن، فعلن…

القصيدة تجميعٌ للحروف، والحرف أول الكلمة التي ستولِّد المعنى، وهنا نستحضر في مقامنا هذا آخر قصيدة كتبها أحد رواد شعر الحداثة في المغرب، الشاعر أحمد المجاطي.

لم ينشر أحمد المجاطي سوى ديوان واحد سماه «الفروسية» بعد التنازل، ربما قسراً، عن تسميته الأولى «الخمارة»، وهو المعروف بعبارته السائرة: تُسعِفني الكأس ولا تسعفني العبارة. وبالإضافة لكونه شاعراً فقد أصدر أحمد المجاطي كتابين نقديين هما «أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث» (1997) ثم «ظاهرة الشعر الحديث» الذي نشر بعد وفاته. هي فترة صراع حول الشعر والحداثة قبل الريادة، خاضها المجاطي جنباً لجنب مع محمد بنيس ومحمد بنطلحة، ومع محمد السرغيني بشكل ضمني من خلال القصيدة ذاتها.

استعصاء الوضع الشعري لدى المجاطي يأتي من الاهتمام بالحرف، فهو لا يطلق الكلام كيفما اتفق، بل يركز على الحرف قبل الكلمة، ومن ثم ربما ختم مساره الشعري بقصيدة الحروف التي كتبها بعد توقف لمدة عشر سنوات عن النشر وربما عن الكتابة. من 1977 إلى 1985 سنة ظهور صيدة الحروف.

لقد شكل المجاطي القنطرة الواصلة بين حداثتين، وشكل لنا نحن شعراء المغرب الثمانيني والتسعيني وما بعده ذلك النبع الأصيل المتمكن من أدواته، ولكن خاصة ذلك التوهج الرابط بين حداثتين: حداثة الإيقاع الخليلي الجديد، وحداثة النثرية المفتوحة التي ستظهر لدى شعراء آخرين في المغرب في ما بعد.

المجاطي الشاعر الخجول كان ثائراً على الوضع الشعري السائد ومن خلاله على الوضع الاجتماعي، بما أن الشعراء يدخلون ضمن الأقلية الفاعلة المؤثرة بهدوء. لقد كان بسبب الاستعصاء يبصر قصيدته، ويعيد تشكيلها قبل نشرها على هذا المنبر أو ذاك: العلم الثقافي، المحررـ الاتحاد الاشتراكي، أنفاس، وغيرها.

ولعل الملاحظة الظاهرة للعين اللاقطة لحروف المجاطي (وخاصة قصيدته الأخيرة: الحروف)، هي توزيع المقاطع والأسطر بالعين قبل الأذن، وتوجيه مقاطع قصيدته يمينا وشمالاً في تدافع لم يعد فيه للأذن وحدها الدور الرئيسي في كتابة الشعر. لقد ساد في تلك المرحلة نوع من اللامبالاة لشكل الكتابة لصالح الإيقاع. كان الشاعر يكتب قصيدته كيفما اتفق، وقد لا يعير اهتماماً كبيراً لهندسة الفراغ الهامة التي أسسها رواد الشعر المغربي من أمثال محمد الخمار الكنوني، ومحمد السرغيني، ومحمد الميموني وعبد الكبير الطبال وأحمد المجاطي مع اختلاف في رؤية كل واحد منهم لهذه القضية.

ولعل ظاهرة اللعب بالحرف وتشتيتها ستظهر لدى الشاعر في ديوان «الفروسية»، هذا إذا علمنا أن القصائد كتبت قبل 1997، وهو زمن سابق عن مرحلة بيان الحداثة، الذي يعتبر، في رأينا، بمثابة مفترق طرق للتأسيس لشعر مغربي حديث، باستثناء قصيدة «الحروف» التي تأثرت هي أيضاً بشكل غير مباشر برياح الحداثة القادمة من الغرب، رغم احتفاظها بالإيقاع الخليلي الذي أضفى عليها جمالا.

في كل قصائد ديوان «الفروسية» سنلاحظ هذا الاهتمام الشديد بهندسة الفراغ في طبعته الأولى، وكذا في طبعته الثانية التي تضمنت قصائد أخرى غير منشورة للشاعر بإشراف من الناقد نجيب العوفي.

وقد تظهر هذه الهندسة في القصائد التالية خاصة: الدار البيضاء (ص: 101-102)، والمعركة (ص: 113)، وبكائية (ص: 118)، والصمت اللعين (ص: 118). هي هندسة مقصودة وتشكيل يرتبط بالحرف ودلالته بلغب لغوي من الحرف إلى الكلمة فالجملة فالقصيدة.

تبتدئ قصيدة الدار البيضاء هكذا «لماذا تدور الحروف التي تلفظ اسمك في قبضة الريح قبعة»

وتبتدئ قصيدة الحروف هكذا «وأنا أراود كل شاردة لأسكن في حماها». هي الحروف المؤرقِّة والمستعصية على الجمع والقبض كما القصيدة.

لغة الحرف عند المجاطي شاردة، آبدة، ممتدة، متكررة، متراجعة، متوهجة من السقوط إلى الانتظار، وعند المنعطف. عالية إلى زرقة السماء، وغائرة في زرقة البحر. مقلقة ومنفتحة على الدنيا. صامتة ومسموعة. وتلك هي لغة حروف المجاطي الرائد وكأنه شاعر المغرب كما ينعت أو رامبو المغرب كما أسميه.

لغة قصيدة «الحروف» سباعية تطوف حول نفسها وحول الآخر. بحورها سبعة، وسماواتها سبعة، وخطاياها سبع. كل ذلك من أجل الاحتماء (لأسكن في حماها)ـ ومن أجل الصمت (دائرة الكسوف – الصمت)، ومن أجل الابتعاد (شاردة – آبدة )، ومن أجل الحيرة (وأقيم في المابين – الانتظار)، وكذا من أجل المواجهة (التوهج- السيف – البدائل).

وإذا استحضرنا قولة الفرزدق الشهيرة: تأتي عليّ أوقات وقلع الضرس من أضراسي أهون عليّ من قول بيت من الشعر» فكذلك الشأن بالنسبة للشاعر أحمد المجاطي في تعامله مع الشعر رغم امتلاكه لناصيته واقتداره عليه، ثقافة، ولغة، ودربة، وممارسة، وتنظيراً.

 

شعرية عبد الكريم الطبال

عبد الله شريـق

 

عبد الكريم الطبال أحد كبار الشعراء المغاربة المعاصرين وأحد المساهمين في ترسيخ القصيدة الجديدة في المغرب. تعود بدايات تجربته الشعرية إلى أواسط الخمسينيات من القرن الماضي وما تزال مستمرة إلى اليوم. تجربة واسعة وخصبة تتسم بالتعدد في الأشكال والدلالات والأبعاد، وبالتجدد والتحول في الرؤى والتجارب. استطاعت أن تخرق كل مقاييس التنميط والتحقيب وتتجاوز الحدود بين الحقب والأجيال والأشكال لأنها كانت تجدد نفسها باستمرار وتنتقل من شكل إلى آخر ومن رؤيا إلى أخرى بثقافة شعرية واسعة وعميقة ووعي فني متطلع باستمرار إلى أشكال فنية جديدة وعوالم رمزية أعمق وأرحب. شاعر يتميز بميزات إنسانية ووجودية خاصة لم تتوافر إلا لقلة قليلة من الشعراء المغاربة المعاصرين، أبرزها: المواظبة على كتابة الشعر ونشره على مدى أكثر من نصف قرن ـ تربطه علاقة وجودية خاصة بالشعر، فالكتابة الشعرية بالنسبة إليه شرط وجودي وضرورة من ضرورات الحياة، وعالم خاص يحيا فيه بموازاة عالم الواقع ـ الإيمان بحرية الشاعر وتحرر الشعر من الإملاءات والسلط الخارجية.

جرب الطبال الكلاسيكية الجديدة والرومانسية والواقعية وسبر أغوار الذات والإنسان والمجتمع والطبيعة، وعانق الرؤيا الصوفية والوجودية متنقلا بين القصيدة الغنائية والقصيدة الدرامية والقصيدة القصيرة، في علاقات تناصية متعددة المصادر، يتقاطع فيها التراث الصوفي والديني والشعري، وتتفاعل فيها مختلف قضايا الإنسان المغربي والعربي المعاصر ضمن رؤيا إنسانية رحبة. اختار في بداية تجربته الشعرية السير في «الطريق إلى الإنسان 1971» في عالم القيم المزيفة و«الأشياء المنكسرة 1974». ومن أجل رفض ما يسود هذا العالم من قيم القهر والفساد والزيف اتجه إلى عالم الطبيعة وأغوار الذات فكتب نصوص «البستان 1988» و«عابر سبيل 1993» و«آخر المساء 1994» متطلعا إلى عالم إنساني صوفي، مكتشفا دلالات الطبيعة والبياض والصفاء في «شجر البياض1995»، ورمزية الماء والأسماء في نصوص «القبض على الماء 1996»، ثم اتجه إلى خلق صور وتشكيل «لوحات مائية 1997» مستقاة من الحياة ومعاناة الإنسان والطبيعة بتقنية فنية بارعة في التقاط الطريف والغريب والمدهش مما لا يراه الإنسان العادي، ومن خلال استخدام أسلوب المفارقة وتوليد المعنى ونقيضه بشبكة من العلاقات الرمزية التي تجعل النص الشعري منفتحا على عدد كبير من الاحتمالات وإمكانات التأويل، متخذا عالم الطبيعة وسيلة رمزية خصبة لقراءة عالم الإنسان وواقعه كما فعل جبران وأبو ماضي مع اختلاف في التصور والرؤية، موظفا مشاهد ومواقف ورموزا من صميم التجربة الصوفية في «كتاب العناية 1997»، بلغة مهموسة وعميقة في نصوص «بعد الجلبة 1998»، مستشرفا آفاق إنسانية روحية ووجودية في زمن هيمنة الآلة والمادة وتدمير القيم الأصيلة، بالوقوف على «عتبة البحر 2000»، مستنيرا بإشراقات النفري وجلال الدين الرومي والبسطامي وابن عربي في «موال أندلسي 2007» و«كتاب الرمل2011» و«نمنمات 2015» و«في حضرة مولانا 2018» و«الوردة فوق الأرض2021»… ولعل قصائده القصيرة بما فيها من تركيز وكثافة واكتناز بالدلالات والرموز، وبما فيها من إدراك وجداني وكشف رمزي للمفارقات، ومن تواز وتشاكل إيقاعي ودلالي، من أكثر العلامات الدالة على تجاوب الطبال مع ظروف المتلقي في هذا العصر، عصر السرعة وضيق الوقت وتعدد وسائل الاتصال الإعلامي والثقافي، ومن أهم الأشكال التي خلقت تجاوبا كبيرا بينه وبين حركة قصيدة النثر ووفرت له تقديرا كبيرا من شعرائها الذين استفادوا من تجربته في كتابة هذا اللون من القصائد التي نلمس فيها متعة الشعر ولذة النص ودهشة الإبداع وعمق التأمل في الحياة والوجود. فهو يمتلك قدرة خارقة على التقاط المفارقات والمشاهد المثيرة والمواقف المدهشة في حياتنا، في صور ومواقف عميقة الدلالة وذات كثافة رمزية عالية في الكشف عما في الحياة من تناقضات وصراعات مأساوية بين قيم الخير وقيم الشر، والعدل والظلم، والسلم والحرب، والحياة والموت، والتحول والجمود، والروح والمادة والمثال والواقع…

شعرية الطبال تتميز بكونها ذات طبيعة رمزية إيحائية توظف الصورة والرمز مع السرد والحوار، وتميل إلى التشاكل والتكرار واستخدام المفارقات والمتضادات، وتقوم على خلق عوالم وبناءات رمزية في قصائد أشبه بلوحات تشكيلية متعددة الدلالات والاحتمالات، عناصرها الإنسان والمكان والذات والطبيعة.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى