شوف تشوف

الرأيالرئيسية

سفينة من «راكوزة»..

بين الفينة والأخرى، تظهر أخبار النصابين الذين يبيعون الناس وهم عروض السفر، وبينها بالتأكيد عروض العُمرة وحتى الحج.

لكن المثير أن هذه العادة قديمة وضاربة في التاريخ. إذ إن الحجاج المغاربة تعرضوا للنصب سنة 1778، وكان وقتها يحكم المغرب المولى محمد الثالث، على يد باخرة تابعة لجمهورية «دوبروڤينيك»، والتي كان يسميها المغاربة وقتها «بلاد راكوزة». وهي تقع الآن بين البوسنة والهرسك، وكانت وقتها جمهورية قائمة تابعة للحكم العثماني.

ولولا رسالة القصر الملكي، الذي كان وقتها في مراكش، إلى القناصلة الأجانب والتي أعلن فيها المغرب الحرب ضد «راكوزة»، لما سُجلت قصة هذه الرحلة البحرية العجيبة في التاريخ.

المثير أيضا أن نص الرسالة الأصلية كُتب باللغة الفرنسية، واتضح أن القصر الملكي كان يستعين بمترجم فرنسي يتقن اللغة العربية، ويتولى نقل مضمون الرسالة الملكية من لغتها الأصلية إلى الفرنسية لكي يتسنى إرسالها إلى البعثات الأجنبية في المغرب.

ما وقع أن هذه السفينة تخلصت من الحجاج عند عودتهم من الحج، وفرقتهم على «مالطا» وطرابلس وتونس، ولم تُكمل رحلتها إلى المغرب وشردت هؤلاء الحجاج.

وصلت الرسالة الملكية إلى «دوبروڤينيك»، لكن المياه ظلت راكدة، ولا يوجد ما يؤكد أنهم تفاعلوا فورا مع التظلم المغربي.

لكن الأرشيف الذي اشتغل عليه مؤرخ المملكة الراحل عبد الهادي التازي، في موسوعة التاريخ الدبلوماسي للمغرب، يؤكد أن هذه الجمهورية أرسلت سفيرين إلى المغرب في شهر أبريل سنة 1780، أي بعد قرابة ثلاث سنوات على الواقعة. وهما قنصل مدينة قادس والقبطان «كازيلاري»، وقد حلا في المغرب باسم حُكام تركيا، بل وحملا الهدايا إلى السلطان المغربي من طرف الباب العالي.

عندما وصل السفيران إلى مراكش، ومثلا أمام السلطان محمد الثالث، وضعا أمامه وثيقة وقعها أحد مشايخ تونس، يشهد فيها أن الحجاج المغاربة الذين تم التخلي عنهم وتفريقهم، لم يأتوا في سفينة من جمهورية «دوبروڤينيك».

تفرق دم الحجاج المغاربة إذن بين القبائل. ورغم أن الطرفان وقعا على اتفاق، إلا أن المغرب عاد بعد أشهر قليلة فقط، وبالضبط في دجنبر من السنة نفسها، إلى إعلان حالة الحرب مجددا مع بلاد «راكوزة». إذ إن أخبارا غير سارة وصلت إلى السلطان محمد الثالث مفادها أن سفينة أخرى، أوروبية هذه المرة، تخلصت من الحجاج المغاربة في مالطا، ورمتهم في مينائها وواصلت رحلتها بدونهم، وتركتهم عرضة للجوع والبرد القارس والتشرد. وهو ما جعل المغرب يعلن العودة إلى حالة الحرب ضد السفن التي تخلصت من ركابها المغاربة في منتصف الطريق.

لا يزال السفر إلى اليوم محفوفا بمثل هذه المخاطر التي تُعتبر «أعراضا جانبية» للتنقل فوق الأرض. إذ رغم التطور الرهيب في وسائل النقل ووسائل الراحة في المطارات، لا تزال تُسجل حالات إخلال لشركات نقل الركاب بالتزاماتها مع المسافرين. وفي شهر أكتوبر الأخير فقط تخلت طائرة تابعة للخطوط البرتغالية عن ركابها المغاربة في مطار أكَادير بعدما باعت تذاكر نقلهم إلى «لشبونة»، التي كانت مجرد «ترانزيت» لأغلب المسافرين إلى وجهات أخرى. واضطر المسافرون إلى البقاء عالقين في المطار قرابة عشر ساعات قبل أن يتم نقلهم في الأخير إلى مدينة أخرى، وواصل أغلبهم الرحلة إلى وجهتهم في القطارات بسبب عدم توفر رحلات فورية في المطارات التي وصلوا إليها.

وتكررت حالات أخرى مشابهة في مطارات أوروبية، إذ إن طائرة كان مبرمجا أن تقل مسافرين مغاربة من مدريد، أقلعت قبل الوقت المحدد بعشرين دقيقة وتخلف عنها أزيد من عشرين راكبا بقوا عالقين في المطار ليوم كامل قبل أن يجدوا رحلة أخرى إلى المغرب.

ما بدأته بلاد «راكوزة» لا يزال متواصلا، في البر والبحر.. وحدها الدول لم تعد تُعلن الحروب لأسباب من هذا النوع. ولو أن بلدا ما قرر إعلان الحرب ضد دول العالم بسبب التخلي عن الركاب، لانتهى أمر سكان الأرض قبل سنوات.

 يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى